دراسات علمیة
مجلَّة نصف سنويَّة تعنى بالأبحاث التَّخصّصيَّة في الحوزة العلميَّة
تصدر عن المدرسة العلميَّة (الآخوند الصغرى) في النَّجف الأشرف
العدد الحادي عشر
شعبان المعظَّم 1438 ﻫ
ص: 1
رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1614 لسنة 2011
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
التوبة 122
ص: 3
1. ترحّب المجلَّة بإسهامات الباحثين الأفاضل في مختلف المجالات التي تهم طالب الأبحاث العليا في الحوزة العلميّة, من الفقه والأُصول والرجال والحديث ونحوها.
2. يُشترط في المادّة المُراد نشرها أُمور:
أ. أنْ تكون مستوفية لأُصول البحث العلمي على مختلف المستويات (الفنيّة والعلميّة), من المنهجيّة والتوثيق ونحوهما.
ب. أنْ تكون الأبحاث مكتوبة بخطّ واضح أو (منضَّدة).
ت. أنْ توضع الهوامش في أسفل الصفحة.
ث. أنْ يتراوح حجم البحث بين (12) الى (60) صفحة من القطع الوزيري بخطٍ متوسط الحجم, وما يزيد على ذلك يمكن جعله في حلقتين أو أكثر حسب نظر المجلَّة, شريطة استلام البحث كاملاً.
ج. أنْ لا يكون البحث قد نُشر أو أُرسل للنشر في مكان آخر.
ح. أنْ يُذيَّلَ البحث بذكر المصادر التي اعتمدها الباحث.
3. يخضع البحث لمراجعة هيئة استشارية (علميَّة), ولا يُعاد إلى صاحبه سواء أنُشر أم لم يُنشر.
4. للمجلَّة حق إعادة نشر البحوث التي نشرتها.
5. يخضع ترتيب البحوث المنشورة في المجلَّة لاعتبارات فنيّة لا علاقة لها بمكانة الكاتب أو أهميّة الموضوع.
6. ما يُنشر في المجلَّة لا يعدو كونه مطارحات علميّة صرفة, ولا يُعبّر بالضرورة عن رأي المجلَّة.
ص: 4
الافتتاحية
إدارة المجلة................................................................................................. 7
رباعيّة المسافر في المواضع الأربعة / 1
الشيخ جاسم الفهدي (دام عزه).............................................................................. 13
شرطيّة الاجتهاد في القضاء بين النّفي والإثبات
الشّيخ مشتاق السّاعدي (دام عزه)......................................................................... 61
دراسات فقهيّة مقارنة بين قانون الأحوال الشّخصيّة العراقيّ ومشروع قانون الأحوال الشّخصيّة الجعفريّ: (الأحكام العامّة والزّواج أنموذجا) / 1
الشّيخ يحيى السّعداوي (دام عزه)......................................................................... 97
تبعيّة المدلول الالتزاميّ للمدلول المطابقيّ في الحجّيّة
الشّيخ إسكندر الجعفري (دام عزه)..................................................................... 149
جعل الأمارة وثمرات تتميم الكشف
الشّيخ عليّ العقيلي (دام عزه)............................................................................. 185
تحقيق حال جابر الجعفي / 4
ص: 5
الشّيخ محمّد الجعفري (دام عزه).............................................................................. 259
جواب مسألتين للفقيه الكبير الشّيخ أحمد آل كاشف الغطاء (قدس سره):
الأولى: في الوصاية بالولاية لمن يتجدّد من الأولاد مع وجود قرينة على التّعميم
تحقيق: السّيّد عليّ البعاج (دام عزه)
الثَّانية: تعريف (الشّهيد) بين التّعميم والتّقييد
تحقيق: الشّيخ سعد الفهداوي (دام عزه)..................................................................343
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على خير خلقه محمّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين.
وبعد, كيف نكتب في دقائق يسيرة عن مسيرة تمتدّ لأشهر قبل صدور كلّ عدد من أعداد مجلّة (دراسات علميّة). فأنت تتتبّع طاقات متفرّقة في أفلاك متباعدة؛ لتجمعها في فلك واحد حول محور جاذب جامع.
فمنذ أن تبتدئ تلك المسيرة بانتخاب البحوث المشاركة، والتّواصل مع كُتّابها، ثُمّ تنسيق عمل اللّجنة العلميّة والإداريّة مع الكاتب، إلى عمليّات التّنضيد والتّصحيح، ومحاولة إيجاد مزاج عام لأسلوب ولغة الكتابة تكون رداءً عامّاً للمجلّة مع المحافظة على خصوصيَّة كلِّ كاتبٍ وأسلوبه، تحتاج إلى صبر وأناة وعلوّ همّة ومداراة.
وككلّ عمل يتعلّق بنشر العلم في مساحة نشرٍ ووقتٍ محدودين، لا يَسْلم العمل من بعض الصعوبات، ليس أكبرها تكييف بعض البحوث لِتُلائِم سياسة المجلّة في المساحة المخصّصة لكلِّ بحثٍ من دون إحساس الباحث بتضرّر بحثه.
ومهما كان الجُهد المكرَّس من أجل خدمة استمرار حركة الكتابة والنّشر كبيراً، فإنَّه سهلٌ يسير إذا كانت العائدة المرجوّة هي نجاح العمل.
وإنّه لمن دواعي السّرور أنْ نرى العدد الحادي عشر من مجلّة (دراسات علميّة) يبزغ فجرُهُ ويتنفّسُ صبحُهُ بعد مُضي خمس سنوات من عُمر المجلّة استثمرتها بأعداد ناجحة،
ص: 7
تناولت موضوعات مختلفة في الفقه والأصول والرّجال وغيرها، وزيّنتها تحقيقات مؤنّقة لمخطوطات مختارة بعناية، جعلت الكثيرين يرون أنّها سدّت بذلك فراغاً في مجال اختصاصها.
ولم تكتفِ المجلّة بتلقّي البحوث من كُتّابها والعناية بشؤون تهيئتها للنشر، بل تفتّقت فيها فكرة ترويج أصل حركة الكتابة، فسعت لبرنامج تطويريّ لأجل تنشيط حركة البحث، وتدعيم أدواته، وتثقيف مناهجه، فأقامت أربع دورات تدريبيَّة ترويجيَّة للراغبين في الكتابة على أُسس رصينة، وقد لقيت استجابة جيدة من الطّلبة وتفاعل يلفت الانتباه، أثمر بعد ذلك ملتقى يهتمّ بصناعة البحث العلميّ ويتابع نمو الأبحاث.
أمّا رسالتنا الّتي نأمل أنْ يتحقّق جانب منها فهي ما نُشير إليه في كلّ عدد من تشجيع تطوير الكتابة المعتمدة على البحث المستدلّ مع عصريّة الأسلوب الحديث المعتمد على رشاقة العبارة والوصول للمطلوب بأسهل المداخل، وأوضح المخارج، وتذليل صعوبات المباحث المعقّدة الشّرعيّة بمقدّماتها ونتائجها بما يناسب الكتابة في المجلّات.
على أنّ الأسلوب الواضح السّهل ليس هو الرّافد الوحيد لتدفّق الأبحاث وانتشارها فحسب، بل يمكن لمثل هذه الأبحاث أن تفتح باباً في تقدّم العلم الشّرعيّ، إذ إنّ تقدّم العلم الشّرعيّ مقرون بالبحث وتقليب وجوه النَّظر في الأدلّة، والعمل على تجديد الآراء، بعد استيعاب مستجدّات نتائج العلوم الوسيطة المساعِدة في صناعة المسائل الفقهيّة والأصوليّة. وجانبٌ كبيرٌ من ذلك يتطوّر بالكتابة والنّشر.
وهذه المهمَّة في تطوّر مستمر، يتّصل جزء منها بالتطوّر الفكري العامّ، وبالارتفاع في مستوى الاتقان في علميّة ودليليّة الحجج المستعملة في العمليّة الاستدلاليّة.
ولا يحتاج المهتمّ بهذا المجال أو المتخصِّص كثير عناءٍ وتأمّلٍ ليعرف حجم الصّعود
ص: 8
في مستوى الدّليل الإثباتي والجانب النّظريّ التّصوريّ للأدلّة المستعملة في إثبات الأحكام الشّرعيّة وتفرّعاتها في المائة سنة الأخيرة من عُمْر الأصول والفقه.
ومع مرور الزّمن تتجدّد وتتّضح بعض المفاهيم والأفكار الّتي قد يتبيّن جوانب القصور فيها تبعاً لازدياد دقّة التفكير البشري بصورة عامّة، وتأثّر علمي الفقه والأصول ومبادئهما بتطوّر نتائج العلوم الأخرى الإنسانيّة والتّطبيقيّة.
وكلّما نحا الفقه والأصول منحىً تحقيقيّاً ومعتمداً على ما يمكن الأخذ به من النتائج التّطبيقيّة للعلوم الرّصينة الأخرى المتعلّقة بموضوعات مسائله، اقترب من وضوح الحكم وقابليته الدّاعويّة للأمر والنهي في نفس المكلَّف، والمحافظة على مساحة معقولة لمنطقة الإباحة في أفعاله، لا تُرهق المسلم، ولا توقعه في الحرج بسبب تداخل مناطق الأحكام تبعاً لتداخل موضوعاتها، لولا فقه دقيق يفرّق المباح والرّخصة عن الوجوب والحرمة.
وفي الحقيقة أنّ الموائمة بين نتائج الأبحاث المتعلّقة بمسائل علوم الأحكام الشّرعيّة - كالفقه والأصول وما يرتبط بهما كالحديث والرجال -، وبين المستجَد في علوم الحياة الأُخرى النّظريّة والتّطبيقيّة هي مهمّة البحوث الحديثة الّتي نأمل انعكاسها في الأبحاث العالية بشكل عام، والبحوث المعدَّة للمجلّات والدّوريّات كمجلّتنا وباقي المجلّات التّخصّصيّة بشكل خاص، ممّا يكشف عن مدى انسجام الفقه مع واقع الحياة.
أمّا الأبحاث المتضمّنة في هذا العدد (الحادي عشر) فنوجز التّعريف بها في كونها ثمانية أبحاث، ثلاثة منها فقهيّة، واثنان أصوليّان، وواحد رجاليّ، وتتلو الجميع مخطوطتان.
أمّا الفقهيّة فالأوَّل منها حول الصّلاة الرّباعيّة للمسافر في مواضع التّخيير الأربعة المعروفة، والثّاني حول الاجتهاد في القضاء بين النفي والإثبات، والثّالث دراسات فقهيّة
ص: 9
مقارَنة بين قانون الأحوال الشّخصيّة العراقيّ ومشروع القانون الجعفريّ.
وأمّا البحثان الأصوليّان، فالأوَّل عن تبعية المدلول الالتزاميّ للمدلول المطابقيّ، والآخر حول جعل الأمارات وثمرات تتميم الكشف.
وأمّا البحث الرّجالي فهو تكملة السّلسلة المعتنية بنحوٍ من التّفصيل لحال الراوي المعروف (جابر الجعفي) وهي الحلقة الرّابعة ما قبل الأخيرة.
وكما عوّدتنا المجلّة في أعدادها السَّابقة أن نتفيَّأ بظلال ثمار أعلامنا السّابقين فيما أبدعت قرائحهم، ودبَّجت يراعاتهم في مخطوطات لم تَر النور، وإنْ كانت مصونة عن الدّثور، فتناولت أقلام بعض أهل الفضل بالتّحقيق اثنتين منها للفقيه الكبير المرحوم الشّيخ أحمد آل كاشف الغطاء (قدس سره) صاحب (سفينة النّجاة) لتستقرّا في موضعهما في المجلّة. والمخطوطتان عبارة عن جوابين لسؤالين استفتائيين موجّهين لمرجع الطّائفة السَّيّد كاظم اليزدي (قدس سره) من بعض أهل الفضل في البحرين، طالباً أن يكون الجواب مستدَلّا ً، فتصدّى الشّيخ أحمد آل كاشف الغطاء (قدس سره) لجوابهما حيث كان معنيّاً بالإجابة عن الاستفتاءات الواردة على المرحوم السَّيّد اليزدي (رضوان الله تعالی علیه). وكانت الأُولى حول شمول الوصاية بالولاية لمن يتجدّد من الأولاد مع وجود قرينة على التّعميم، والأُخرى حول تعريف (الشّهيد) بين التّعميم والتّقييد.
وفي الختام نحرص على التَّذكير بأنّ هذه المجلّة منصّة أُسِّست لأهل العلم يتمكّنون فيها من عرض أفكارهم العلميَّة بصورة منهجيّة محكّمة، وهذه الغاية هي من أهم أهداف المجلّة الّتي تأسّست من أجلها.
ومن أجل ذلك نجدّد الدّعوة لأهل الفضل والقلم للمشاركة في هذه الظّاهرة البحثيّة، فقد بدا لهم من السّنين الّتي قضتها المجلّة تحت أنظار أهل العلم كيف أنّها المكان
ص: 10
المناسب - إنْ لم يكن الأنسب - لنشر أبحاثهم الّتي حرصوا يوماً على رؤيتها على صفحات المجلّات العلميّة.
ولا يفوتنا كما هو كذلك في كلّ مرّة أن نشيد بجهود جميع العاملين على استمرار وبقاء صدور المجلّة وبنفس الضّبط والمتابعة، حرصاً منهم على مقاربة العمل من الكمال العام بقدر المستطاع، كما نشكر جهود اللّجنة العلميّة الّتي تنظر بدأبٍ في أبحاث أهل الفضل وتفيض علينا بالنّصائح وتساهم في إثراء مادّة الباحثين، وكذلك الشكر موصول لجميع الجهات والشخصيات المساندة، وكلِّ مَن ذلّل عقبة في عمل المجلّة أو أشار برأيٍ من أجل اكتمال العمل ووصوله لمراحله النهائيّة بكفاية ويُسر، يَسَّر الله كُلّا ً لما يُسِّر له إنّه المنعم والهادي.
إدارة المجلّة
15 شعبان المعظّم 1438 ﻫ
ص: 11
ص: 12
تمتاز صلاة المسافر بتعدّد فروعٍ، ودقّة تفاصيل، وعلى الرغم من عدم وجود الخلاف في أصل حكمها عند فقهاء مذهب أهل بيت العصمة (عليهم السَّلام) إلّا أنّه وقع الكلام في جملة من تفاصيلها، وعدّة من مواردها.
وهذا البحث الذي بين يدينا يركّز على موردين منها: الحكم في مواطن التخيير, وحدود هذه المواطن.
ص: 13
ص: 14
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله كما هو أهله، وأتمّ الصلاة والسَّلام على رسوله محمّد وآله الطّاهرين.
إنّ لصلاة المسافر أهمّيّة كبرى في الأبحاث الفقهيّة لكونها من المسائل العامّة البلوى، ولما تمتاز به من تعدّد الفروع ودقّة التفاصيل, مع الاختلاف في أصل حكم صلاة المسافر بين علماء الإسلام، ولذا أُوليت عناية كبيرة في بحوث الفقه.
وعلى الرغم من عدم تسرّب هذا الاختلاف الى مدرسة أئمَّة أهل البيت (علیهم السلام) الّا أنّه وقع الكلام بين الفقهاء في بعض تفصيلاتها, منها: حكم صلاة المسافر إلى المواطن الأربعة - مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة والكوفة وحرم الحسين (علیه السلام) - , فقد تعدّدت أقوالهم وتباينت أنظارهم في حكم الصلاة الرباعيّة في هذه المواطن, وقد اختار مشهور علماء الطائفة التخيير فيها، بل كاد أن ينقرض الخلاف بينهم في العصور المتأخّرة. ومنها: الاختلاف ايضاً في حدود هذه المواطن من حيث اختصاص الحكم بمسجدها أو ما يشمل غيره.
وقد عرضت البحث من خلال تمهيدٍ ومقامين:
المقام الاوّل: في بيان حكم الصلاة في هذه المواطن, وهل هو التقصير أو التمام أو التخيير على اختلاف الاقوال.
المقام الثاني: في بيان حدود المواطن التي يقع فيها التخيير، وهي عدّة مواضع:
الأوّل: حدود مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة.
ص: 15
الثاني: حدود الكوفة.
الثالث: حدود حرم الحسين (علیه السلام).
الرابع: شمول الحكم لسائر المشاهد المشرّفة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ البحث سيقع في ضمن حلقتين، نتناول في الحلقة الأُولى المقامَ الأوّل، ونوكل البحث في المقام الثاني إلى الحلقة الأخرى إنْ شاء الله تعالى.
وفيه أمران:
اتّفق فقهاء الإمامية على أنّ وظيفة المكلّف في حال السفر هي القصر في الصلاة, وأمّا فقهاء الجمهور فلم يفرّقوا بين الأماكن المقصودة للمسافر إلّا أنّهم اختلفوا في حكم صلاته, فقال ابن رشد الحفيد: (أمّا حكم القصر، فإنّهم اختلفوا فيه على أربعة أقوال: فمنهم من رأى أنّ القصر هو فرض المسافر المتعيّن عليه، ومنهم من رأى أنّ القصر والإتمام كلاهما فرض مخيّر له كالخيار في واجب الكفارة، ومنهم من رأى أنّ القصر سنّة، ومنهم من رأى أنّه رخصة، وأنّ الإتمام أفضل. وبالقول الأوّل قال أبو حنيفة، وأصحابه والكوفيون بأسرهم: أعني أنّه فرض متعيّن، وبالثاني قال بعض أصحاب الشافعي، وبالثالث - أعني أنّه سنّة - قال مالك في أشهر الروايات عنه، وبالرابع - أعني أنّه رخصة - قال الشافعي في أشهر الروايات عنه، وهو المنصور عند أصحابه)(1).
وقال ابن قدامة في حكم صلاة المسافر: (أفضلية القصر من التمام في مطلق السفر عند الجمهور، وقال حماد بن أبي سليمان والثوري وأبو حنيفة بعدم جواز الإتمام في
ص: 16
السفر، وأجازه الأوزاعي والشافعي، وهو المشهور عن مالك)(1).
وهذا ما نصّ عليه صاحب الرياض بقوله: (إنَّ ايجاب التمام ليس مذهباً لأحد من العامة؛ لأنّهم ما بين موجب للقصر مطلقاً وهم أكثرهم ومنهم أبو حنيفة ومخيّر بينه وبين القصر كذلك وهو الشافعي وغيره ومنه يظهر أنّ حمل أوامر التقصير على التقية أولى كما صرح به جماعة من أصحابنا- الوافي والوسائل والحدائق- لاتفاقهم على جواز القصر مع اشتهار مذهب أبي حنيفة قديماً وحديثاً)(2).
وأمّا ما ذكره الوحيد في المصابيح من أنّ (التخيير مع أفضلية الإتمام هو عين مذهب أهل السنة بل لا يرضون بالقصر ويجعلونه شعار الرفضة)(3) فغير تامّ لما تقدّم من نقل كلماتهم.
إنّ الواجبات العبادية المركبة تتألّف من أجزاء: منها ما يدخل تحت عنوان الفرض، ومنها ما كان يدخل تحت عنوان السنّة, حيث إنّ المقصود بالأوّل هو ما فرضه الله تعالى في كتابه, والثاني ما جعله النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ولو على نحو الوجوب.
وعليه هل تعيّن القصر في الصلاة على المسافر فرض أم سنّة؟ وجهان, والذي يظهر بملاحظة الأدلّة أنّ ذلك سنّة من سنن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كما هو حال الإفطار في السفر, ولا دلالة في قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾(4) على تعيّن القصر على المسافر؛ لأنّها واردة لدفع توهّم الحظر.
ص: 17
وتدلّ على ذلك مجموعة من الأخبار منها:
1. معتبرة زرارة ومحمّد بن مسلم أنّهما قالا: قلنا لأبي جعفر (علیه السلام) : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي، وكم هي؟ فقال: (إنّ الله عزّ وجل يقول: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾(1)، فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر). قالا: قلنا: إنّما قال الله عزّ وجل: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال (علیه السلام) : (أو ليس قد قال الله عز وجل في الصفا والمروة: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾(2) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ الله عزّ وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه (علیه السلام) ، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وذكره الله تعالى ذكره في كتابه). قالا: قلنا له: فمن صلّى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال: (إن كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد, وإن لم يكن قُرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه، والصلوات كلّها في السفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة إلّا المغرب فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير، تركها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في السفر والحضر ثلاث ركعات. وقد سافر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى ذي خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلاً، فقصّر وأفطر، فصارت سنّة. وقد سمّى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قوما صاموا حين أفطر: العصاة، قال (علیه السلام) : فهم العصاة إلى يوم القيامة وإنّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا)(3).
ص: 18
ويظهر من هذه الرواية أنّ القصر سنّة فعلها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وذكرها الله في كتابه وإنّما استدلّ الإمام (علیه السلام) بها لإثبات عدم دلالتها على الرخصة وعدم منافاتها للوجوب, وقد نصّ (علیه السلام) على أنّ القصر سنّة بقوله: (فقصّر وأفطر فصارت سنّة) بالإضافة إلى قوله: (شيء صنعه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وذكره الله في كتابه).
2. معتبرة العيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافراً أفطر، وقال: إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة، فلمّا انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشرب وأفطر، ثمّ أفطر الناس معه وتمّ أناس على صومهم، فسمّاهم العصاة، وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم))(1). ويظهر من ذيل الرواية - وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله - أنّ تعيّن القصر قد شرّعه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في سفره هذا، وأمر أصحابه بالقصر والإفطار لأنّ الحكم لم يكن معروفاً بينهم من قبل، وهذا يفسّر عدم امتثال البعض وعصيانهم.
3. معتبرة زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (سمّى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قوماً صاموا حين أفطر وقصّر عصاة, وقال: هم العصاة إلى يوم القيامة، وإنّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا) (2).
4. مرسلة ابن ابي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إنّ الله عزّ وجلّ تصدّق على مرضى أمتي ومسافريها
ص: 19
بالتقصير والافطار، أيسرّ أحدكم إذا تصدّق بصدقة أن تردّ عليه)(1). ويظهر من الرواية أنّ تشريع القصر جاء متأخّراً، وتمنّنا منه تعالى على عباده، وكون تعيّن القصر من سنن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لاينافي التصدّق منه تعالى، كما هو واضح.
ويؤيّد ذلك جملة من الأخبار التي رويت في كتب العامّة:
1. 1. فقد روى الجمهور أنّ عائشة زوج النبي صلّى الله عليه [وآله]وسلم قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثمّ أتمّها في الحضر فأقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى)(2).
2. وورد أيضاً عن ابن حرب, قال: سألت ابن عمر, كيف صلاة السفر يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: (إمّا أنتم تتّبعون سنّة نبيكم (صلی الله علیه و آله و سلم) أخبرتكم، وإمّا لا تتبعون سنّة نبيكم فلا أخبركم. قلنا فخير ما اتُبع سنّة نبينا (علیه السلام) . قال: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إذا خرج من المدينة لم يزد على ركعتين حتى يرجع إلينا)(3).
3. ورووا عن يعلى بن أميّة أنّه قال: قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس. فقال: (عجبت ممّا عجبت منه, فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فقال: صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)(4).
والظاهر من هذا أنّ المعهود من المسلمين هو التمام فكان الحكم بالقصر بعمل
ص: 20
النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) به لاحقاً، ويتفرّع على هذا:
أنّ التخيير في المواضع الأربعة لا يكون من قبيل اختلاف الفرض فيها، بل اختلاف السنّة فحسب, وأيّاً كان فالبحث حول وظيفة المسافر في المواضع الأربعة يقع في مقامين:
المعروف بين فقهاء الإمامية هو وجود خصوصية لحكم الصلاة الرباعية للمسافر في مكة، والمدينة، والكوفة، وحرم الحسين (علیه السلام) تبعاً لما ورد من الروايات عن أئمّة أهل البيت (علیهم السلام)، ولم تخل هذه المسألة من الاختلاف, فقد وردت جملة كبيرة من الروايات المختلفة في مصادرنا لبيان حكم صلاة المسافر إلى مكة, والمدينة, والكوفة, وحرم الحسين (علیه السلام) , بألسنة مختلفة, ويظهر من بعضها تعيّن القصر, وأخرى ظاهرة في التخيير بين القصر والتمام, وثالثة ظاهرة في تعيّن التمام, وقد وقعت محلّا ً للنظر بين العلماء, وعليه اختلفت الفتاوى على ثلاثة أقوال:
التخيير مع أفضلية التمام, قال في مفتاح الكرامة: (وهو المشهور كما في المختلف وكشف الالتباس ومجمع البرهان ورسالة صاحب المعالم والمصابيح والحدائق, ومذهب الأكثر كما في التذكرة وتلخيص التلخيص والغرية والمدارك والذخيرة, ومذهب الثلاثة وأتباعهم كما في المعتبر والمنتهى, ومذهب الأصحاب وتفرّدوا به كما في الكركية والدرّة, وتفرّد الأصحاب كما في الذكرى والروض, ومذهب الإمامية إلّا الصدوق كما في الوسائل, ولا خلاف فيه إلّا من الصدوق كما في الرياض, وعليه الإجماع كما في الخلاف والسرائر, وفي موضع آخر من السرائر أنّه الأظهر من
ص: 21
الطائفة وعليه عملهم وفتاواهم)(1).
تعيّن التمام, وهذا القول نُسب للسيد المرتضى اعتماداً على ما ذكره في بعض رسائله, قائلاً: (ولا تقصير إلّا في سفر طاعة أو مباح, ولا تقصير في مكة ومسجد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ومسجد الكوفة ومشاهد الأئمّة القائمين مقامه (علیه السلام))(2), ولابن الجنيد كما حكاه عنه العلّامة بقوله: (والمسجد الحرام لا تقصير فيه على أحد لأنّ الله عزّ وجل جعله سواء العاكف فيه والباد)، وقد حكى المحقّق النراقي تعيّن التمام من عبارة المرتضى وابن الجنيد , قائلاً: (ثمّ إنّ هاهنا خلافاً آخر محكياً عن السيد والإسكافي هو لزوم التمام في المواطن المذكورة)(3), وهو ما يظهر العمل به من بعض أصحاب الأئمّة (علیهم السلام) كعبد الله بن جندب وعلي بن حديد كما في الحديث المروي عن علي بن حديد, قال سألت الرضا (علیه السلام) فقلت: إنّ أصحابنا اختلفوا في الحرمين, فبعضهم يقصّر، وبعضهم يتمّ، وأنا ممّن يتمّ على رواية قد رواها أصحابنا في التمام, وذكرت عبد الله بن جندب أنّه كان يتمّ...) وقد نسبه الشيخ الصدوق في الخصال إلى غير أهل الاستبصار, قائلاً: (يعني أن ينوي الإنسان في حرمهم (علیهم السلام) مقام عشرة أيّام ويتمّ, ولا ينوي مقام دون عشرة أيام فيقصر, وليس ما يقوله غير أهل الاستبصار بشيء: إنّه يتمّ في هذه المواضع على كل حال) (4).
ومن المحتمل أن يراد من عبارة السيد وابن الجنيد مجرّد نفي وجوب القصر وتعيّنه
ص: 22
الذي هو مذهب بعض الأصحاب كما ستعرف في القول الثالث, من غير أن يثبت تعيّن التمام ووجوبه, ولعلّ ذلك هو مبنى حصر غير واحد الخلاف في الصدوق كما في المعتبر والتذكرة والوسائل, بل نسب إليه العلّامة في المختلف القول بالاستحباب, قائلاً: (المشهور استحباب الإتمام واختاره الشيخ والمرتضى وابن الجنيد وابن إدريس وابن حمزة)(1).
لكنّه يبقى محض احتمال لا يساعد عليه ظاهر ما ذكر من عبارتهما.
تعيّن التقصير, وهو ما اختاره الشيخ الصدوق في الفقيه, قائلاً: (يعني بذلك أن يعزم على مقام عشرة أيام في هذه المواطن حتّى يتمّ)(2).
وكذلك في الخصال كما مرّ.
وتبعه ابن البرّاج قائلاً: (ومن سافر إلى مكة حاجّاً وبينه وبينها مسافة يقصر فيها الصلاة ونوى المقام بها عشرة أيام كان عليه التقصير في الطريق والاتمام إذا وصل إليها فإن خرج منها إلى عرفات ليقضي مناسكه بها ولا ينوي المقام بمكة عشرة أيام إذا رجع إليها كان عليه التقصير؛ لأنّه قد نقض مقامه بسفر بينه وبين بلده قصر في مثله, وإن نوى إذا قضى مناسكه بعرفات المقام بمكة عشراً إذا عاد إليها كان عليه التمام إذا عاد إليها)(3). حيث حكم بتعيّن القصر على من لم يعزم على البقاء عشرة أيام, وتبعهم من متأخري المتأخّرين العلاّمة الوحيد(4) في تعيّن القصر ما لم ينو عشرة أيام, وهو المحكي
ص: 23
عن السيد بحر العلوم، بل ادعيت الشهرة عليه بين المتقدّمين من الأصحاب(1), ولعلّه إشارة إلى ما رواه علي بن مهزيار, حيث قال: (كتبت إلى أبي جعفر الثاني (علیه السلام) ... أنّ فقهاء أصحابنا أشاروا إليّ بالتقصير إذا كنت لا أنوي مقام عشرة, وقد ضقت بذلك حتى أعرف رأيك...), وما رواه سعد بن عبد الله عن أيوب بن نوح, قال: (أنا أقصر وكان صفوان يقصر وابن أبي عمير وجميع أصحابنا يقصرون)(2).
هذا تقريب الكلام في الأقوال الثلاثة.
وسعى غير واحد إلى تأويل القولين الأخيرين:
(منهم) صاحب الجواهر, حيث علّق على قول المرتضى وابن الجنيد بقوله: (ظاهر المحكي عنهما من نفي التقصير ووجوب الإتمام مع إمكان إرادتهما نفي تحتّمه كما احتمله الشهيد، بل يؤيّده حصر غير واحد الخلاف في الصدوق، بل في المختلف: المشهور استحباب الإتمام، واختاره الشيخ والمرتضى وابن الجنيد وابن إدريس وابن حمزة، بل عن المصنّف والمنتهى التصريح بنسبة التخيير المزبور إلى الثلاثة وأتباعهم، وأنّ خلافه إنما هو في طرد الحكم في باقي قبور الأئمّة (علیهم السلام)).
وعلّق على قول الصدوق (رحمة الله) قائلاً: (بإرادة المنع من وجوب التمام أو الاحتياط من جهة ظهور بعض الأدلّة في وجوب التقصير بأن ينوي المقام ويتم أو يقصر كما ورد في المهذّب فإنّه بعد أن ذكر استحباب الإتمام قال (والتقصير هو الأصل والعمل به في هذه المواضع وغيرها أحوط)(3).
ص: 24
ولكن يفهم أنّ الخلاف متحقّق: أمّا ما ذكره في تأويل قول السيد المرتضى, ففيه: أنّ عبارته لا تحتمل النظر إلى استحباب الإتمام فإنّه كان بلسان نفي التقصير في الأماكن الأربعة, لا بلسان استحباب الإتمام.
وما ذكره في تأويل عبارة الصدوق يمكن الملاحظة عليه بما ذكرنا من حصر الاختلاف فيه بين العلماء وفهمهم لتعيّن القصر, بالإضافة إلى أنّ قول الشيخ الصدوق يظهر منه غير ما ذكر, فإنّه جاء في ذيل الرواية الدالّة على حكم التمام في الفقيه قائلا: (وقال الصادق (علیه السلام) :من الأمر المذخور إتمام الصلاة في أربعة مواطن بمكة والمدينة ومسجد الكوفة وحائر الحسين (علیه السلام) . قال مصنّف هذا الكتاب: يعني بذلك أن يعزم على مقام عشرة أيام في هذه المواطن حتى يتمّ, ويصدّق ذلك ما رواه محمّد بن اسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال: سألته عن الصلاة بمكة والمدينة, يقصر أو يتم؟ قال: قصر ما لم يعزم على مقام عشرة أيام. وما رواه محمّد بن خالد البرقي عن حمزة بن عبد الله الجعفري...)(1).
فهو ذكر جملة من الروايات الدالّة على وجوب التقصير, وتعرّض في الأثناء إلى هذه الرواية, وعلّق عليها بما عرفت, ولو أراد أن ينفي تعيّن التمام لاحتاج إلى تأويل الحكم لا الموضوع, ولكن الذي يظهر من عبارته أن الحكم بوجوب التمام المذكور في الرواية صحيح, ولكن موضوعه ليس بمطلق, بل مختصّ بمن نوى الإقامة عشرة أيام, وما فهمه صاحب الجواهر هو أنّ الموضوع هو المسافر دون العشرة، والحكم هو نفي تعيّن التمام.
وقد يحتمل ما ذكره صاحب الجواهر من عبارة الصدوق في الخصال, حيث قال
ص: 25
بعد ذكره لرواية حماد (من مخزون علم الله الإتمام في أربعة مواطن... يعني ينوي الانسان في حرمهم مقام عشرة أيّام ويتمّ ولا ينوي مقام دون عشرة أيّام فيقصر, وليس ما يقول غير أهل الاستبصار بشيء أنّه يتمّ في هذه المواضع على كل حال)(1), فيقال: إنّ المفهوم من ذيل هذه العبارة أنّه أراد نفي كلام البعض الظاهر في تعيّن التمام سواء نوى الإقامة أو لا, وخصّ الحكم بوجوب التمام حال العزم على الإقامة.
أمّا ما ذكره من إمكان حمل كلام الصدوق على الاحتياط فإنّه أيضاً خلاف ظاهر عبارته المتقدّمة.
وردت جملة كبيرة من الروايات لبيان حكم الصلاة في تلك الأوطان, ولكنّها مختلفة, فمنها ما يظهر في تعيّن التمام, ومنها ما يدلّ على التخيير, ومنها ما يدلّ على تعيّن القصر, والذي يظهر منها أنّ المسألة كانت محلّا ً للخلاف بين الأصحاب المتقدّمين، وقد كثر السؤال عنها.
1. صحيحة ابن يقطين: وقد رواها الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن أبي عمير، عن سعد بن أبي خلف، عن علي بن يقطين، عن أبي الحسن (علیه السلام) في الصلاة بمكة, قال: (من شاء أتمّ ومن شاء قَصَّر)(2).
2. خبر عمران بن حمران: رواه الشيخ بإسناده، عن الصفار، عن محمّد بن الحسين، عن الحسن بن حمّاد بن عديس، عن عمران بن حمران, قال: قلت لأبي الحسن (علیه السلام) : أقصّر
ص: 26
في المسجد الحرام أو أتمّ؟ قال: (إن قصّرت فلك، وإن أتممت فهو خير، وزيادة الخير خير). وبإسناده عن محمّد بن الحسين، عن الحسن بن علي بن فضال، عن عمران مثله(1).
ورواه في كامل الزيارات عن أحمد بن إدريس، قال: حدّثني أحمد بن أبي زاهر، عن محمّد بن الحسين الزيات، عن حسين بن عمران، عن عمران، مثله(2).
3. خبر أبي شبل: وقد رواه الشيخ بإسناده عن جعفر بن محمّد بن قولويه، عن أبيه، عن محمّد بن الحسن، عن الحسن بن متيل، عن سهل بن زياد، عن محمّد بن عبد الله، عن صالح بن عقبة، عن أبي شبل, قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) : أزور قبر الحسين (علیه السلام) ؟ قال: (نعم, زر الطيّب, وأتمّ الصلاة عنده)، قلت: بعض أصحابنا يرى التقصير. قال: (إنّما يفعل ذلك الضعفة). ورواه الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد مثله(3).
4. موثّقة الحسين بن المختار: وقد رواه الكليني، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن علي بن الحكم, عن الحسين بن المختار، عن أبي إبراهيم (علیه السلام) , قال: قلت له: إنّا إذا دخلنا مكة والمدينة نتمّ أو نقصر؟ قال: (إن قصرت فذلك، وإن أتممت فهو خير تزداد) (4).
5. صحيحة علي بن يقطين: وقد رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن علي بن يقطين, قال: سألت أبا إبراهيم (علیه السلام) عن
ص: 27
التقصير بمكة فقال: (أتم وليس بواجب إلّا أنّي أحبّ لك ما أحب لنفسي..)(1).
6. رواية صالح بن عبد الله الخثعمي: وقد رواه عبد الله بن جعفر في (قرب الإسناد) عن عبد الله بن عامر، عن ابن أبي نجران عن صالح بن عبد الله الخثعمي, قال: كتبت إلى أبي الحسن موسى (علیه السلام) أسأله عن الصلاة في المسجدين أقصر أم أتمّ؟ فكتب (علیه السلام) إليّ: (أيّ ذلك فعلت فلا بأس). قال: فسألت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) عنها مشافهة؟ فأجابني بمثل ما أجابني أبوه إلّا أنّه قال في الصلاة:(قَصِّر)(2).
1. صحيحة حمّاد: وقد رواها الشيخ بإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن الحسن بن علي بن النعمان، عن أبي عبد الله البرقي، عن علي بن مهزيار وأبي علي بن راشد جميعاً, عن حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: (من مخزون علم الله الإتمام في أربعة مواطن: حرم الله، وحرم رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وحرم أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وحرم الحسين بن علي (علیه السلام)).
ورواه الصدوق في (الخصال) عن محمّد بن الحسن، عن الصفار، عن الحسن بن علي بن النعمان. ورواه ابن قولويه في (المزار) عن العيّاشي، عن علي بن محمّد، عن محمّد ابن أحمد عن الحسن بن علي بن النعمان مثله(3).
2. معتبرة مسمع: وقد رواها الشخ بإسناده عن علي بن مهزيار، عن فضالة، عن أبان، عن مسمع، عن أبي إبراهيم (علیه السلام) قال: (كان أبي يرى لهذين الحرمين ما لا يراه لغيرهما،
ص: 28
ويقول: إنّ الإتمام فيهما من الأمر المذخور).
ورواه الكليني، عن حميد بن زياد، عن ابن سماعة, عن غير واحد، عن أبان بن عثمان مثله(1).
3. صحيحة ابن مهزيار: وقد رواها الشيخ بإسناده عن علي بن مهزيار, قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (علیه السلام) أنّ الرواية قد اختلفت عن آبائك في الإتمام والتقصير للصلاة في الحرمين, فمنها: أن يأمر تتمّم الصلاة ولو صلاة واحدة، ومنها: أن تقصر الصلاة ما لم ينوِ عشرة أيام، ولم أزل على الإتمام فيها إلى أن صدرنا في حجّنا في عامنا هذا، فإنّ فقهاء أصحابنا أشاروا إليّ بالتقصير إذا كنت لا أنوي مقام عشرة, وقد ضقت بذلك حتّى أعرف رأيك، فكتب بخطه (علیه السلام) : (قد علمت يرحمك الله فضل الصلاة في الحرمين على غيرهما، فأنا أحبّ لك إذا دخلتهما أن لا تقصر، وتكثر فيهما من الصلاة). فقلت له: بعد ذلك بسنتين مشافهة: إنّي كتبت إليك بكذا وأجبتني بكذا، فقال: (نعم). فقلت: أي شيء تعني بالحرمين؟ فقال: (مكة والمدينة) الحديث.
ورواه الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمّد جميعاً، عن علي بن مهزيار نحوه(2).
4. صحيحة ابن الحجاج: وقد رواها الشيخ بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب، عن محمّد بن عبد الجبار، عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج, قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن التمام بمكة والمدينة، فقال: (أتمّ وإن لم تصلِّ فيهما إلّا صلاة واحدة)(3).
ص: 29
5. صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج: وقد رواها الشيخ بإسناده عن محمّد بن علي ابن محبوب، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن حسين اللؤلؤي، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجاج, قال: قلت لأبي الحسن (علیه السلام) إنّ هشاماً روى عنك أنّك أمرته بالتمام في الحرمين، وذلك من أجل الناس؟ قال: (لا، كنت أنا ومن مضى من آبائي إذا وردنا مكّة أتممنا الصلاة واستترنا من الناس)(1).
6. معتبرة مسمع: وقد رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن صفوان، عن مسمع، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: قال لي: (إذا دخلت مكّة فأتمّ يوم تدخل)(2).
7. صحيحة عمر بن رياح: وقد رواها الشيخ عن محمّد بن الحسين بن الخطاب، عن صفوان، عن عمر بن رياح قال: قلت لأبي الحسن (علیه السلام) : أقدم مكة, أتمّ أو أقصر؟ قال: (أتمّ).
وبهذا الإسناد مثله وزاد: قلت: وأمُرّ على المدينة فأتمّ الصلاة أو أقصر؟ قال: (أتمّ)(3).
8. خبر زياد القندي: وقد رواه الشيخ بإسناده عن جعفر بن محمّد بن قولويه عن أبيه، عن محمّد بن همام، عن جعفر بن محمّد - يعني مالك -، عن محمّد بن حمدان، عن زياد القندي، قال: قال أبو الحسن (علیه السلام) : (يا زياد أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، أتمّ الصلاة في الحرمين وبالكوفة وعند قبر الحسين (علیه السلام))(4).
ص: 30
9. رواية زياد بن مروان القندي: وقد رواها الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن زياد بن مروان، قال: سألت أبا إبراهيم (علیه السلام) عن إتمام الصلاة في الحرمين، فقال: (أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، أتمّ الصلاة) (1).
10. رواية عبد الحميد الخادم: وقد رواها الشيخ بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن سنان، عن عبد الملك القمّي، عن إسماعيل بن جابر، عن عبد الحميد خادم إسماعيل بن جعفر، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (تتمّ الصلاة في أربعة مواطن: في المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الكوفة، وحرم الحسين (علیه السلام)).
ورواه الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد(2).
11. صحيحة عثمان بن عيسى: وقد رواها الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عثمان بن عيسى، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن إتمام الصلاة والصيام في الحرمين، فقال: (أتمّها ولو صلاة واحدة).
ورواه الحميري في (قرب الإسناد) عن محمّد بن علي بن النعمان بن عثمان بن عيسى مثله، إلّا أنّه قال: عن إتمام الصلاة في الحرمين مكة والمدينة، فقال: (أتمّ الصلاة ولو صلاة واحدة)(3).
12. مرسلة ابن أبي البلاد: وقد رواها الشيخ عن أبي علي الأشعري، عن الحسن ابن علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن رجل من
ص: 31
أصحابنا، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: (تتمّ الصلاة في ثلاثة مواطن: في المسجد الحرام، ومسجد الرسول، وعند قبر الحسين (علیه السلام)).
ورواه ابن قولويه في الكامل عن عبد الرحمن محمّد بن أحمد العسكري(1).
13. رواية عمرو بن مرزوق: ورواها في المزار عن علي بن حاتم، عن محمّد بن عبد الله الأسدي، عن القاسم بن الربيع، عن عمرو بن عثمان، عن عمرو بن مرزوق قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن الصلاة في الحرمين وعند قبر الحسين (علیه السلام) ، قال: (أتمّ الصلاة فيهن)(2).
14. رواية قائد الحناط: وقد رواها ابن قولويه في كامل الزيارات عن الحسين بن أحمد بن المغيرة، عن أحمد بن إدريس بن أحمد، عن محمّد بن عبد الجبار، عن علي بن إسماعيل، عن محمّد بن عمرو، عن قائد الحناط، عن أبي الحسن الماضي (علیه السلام) ، قال: سألته عن الصلاة في الحرمين، فقال: (أتمّ ولو مررت به مارا)(3).
15. معتبرة إبراهيم بن أبي شيبة: وقد رواها الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، وسهل بن زياد جميعاً، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن إبراهيم بن شيبة، قال: كتبت إلى أبي جعفر (علیه السلام) أسأله عن إتمام الصلاة في الحرمين فكتب إلي: (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يحبّ إكثار الصلاة في الحرمين فأكثر فيهما وأتمّ)(4).
16. معتبرة معاوية بن عمار: وقد رواها الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن
ص: 32
إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) : (إنّ من المذخور الإتمام في الحرمين)(1).
17. مرسلة حذيفة بن منصور: وقد رواها الكليني عن محمّد بن يحيى، عن محمّد ابن الحسين، عن محمّد بن سنان، عن حذيفة بن منصور، عمّن سمع أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (تتمّ الصلاة في المسجد الحرام, ومسجد الرسول, ومسجد الكوفة, وحرم الحسين (علیه السلام)).
ورواه الشيخ في (المصباح) عن حذيفة بن منصور مثله(2).1. رواية أبي بصير: وقد رواها الكليني عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن سنان، عن إسحاق بن حريز، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: (تتمّ الصلاة في أربعة مواطن: في المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الكوفة، وحرم الحسين (علیه السلام)).
وقد رواها الشيخ بإسناده عن محمّد بن يعقوب(3).
2. مرسلة الصدوق: وقد رواها عن محمّد بن علي بن الحسين، قال: قال الصادق (علیه السلام) : (من الأمر المذخور إتمام الصلاة في أربعة مواطن: مكة، والمدينة، ومسجد الكوفة، وحائر الحسين (علیه السلام))(4).
3. مرسلة حمّاد بن عيسى: وقد رواها جعفر بن محمّد بن قولويه في (المزار) عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن
ص: 33
أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من الأمر المذخور إتمام الصلاة في أربعة مواطن, بمكة، والمدينة، ومسجد الكوفة، والحائر)(1).
1. حسنة الحضيني: وقد رواها الشيخ بإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن محمّد بن عبد الجبار، عن علي بن مهزيار، عن محمّد بن إبراهيم الحضيني، قال: استأمرت أبا جعفر (علیه السلام) في الإتمام والتقصير, قال: (إذا دخلت الحرمين فانوِ عشرة أيام وأتمّ الصلاة)، قلت: إنّي أقدم مكّة قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة؟ قال: (انوِ مقام عشرة أيّام وأتمّ الصلاة)(2).
وطريق الشيخ إلى محمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري (صاحب نوادر الحكمة) صحيح(3) مع إمكان عدم الاحتياج إليه بعد كون الكتاب المذكور مشهوراً.
والطريق صحيح إلى علي بن مهزيار, ولكن وقع الكلام في محمّد بن إبراهيم الحضيني من جهة عدم ذكره في كلام المتقدّمين من الرجال إلّا أنّ الصحيح هو الاعتماد على روايته, فقد روى الكشي، عن محمّد بن مسعود العيّاشي:(قال: حدّثني حمدان بن أحمد القلانسي، حدّثني معاوية بن حكيم، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن حمدان الحضيني، قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام) : إنّ أخي مات, فقال لي: (رحم الله أخاك فإنّه
ص: 34
كان من خصيص شيعتي).
قال محمّد بن مسعود: حمدان بن أحمد مَن الخصيص؟ قال: الخاصّة الخاصّة)(1).
ومثل هذا يدلّ على حسنه واعتباره، وطريق هذا الحديث معتبر.
نعم, وقع كلام في فطحيّة معاوية, ولكن لا يضرّ بوثاقته, حيث وصفه الكشّي بأنّه أحد العدول.
2. صحيحة ابن بزيع: وقد رواها الصدوق بإسنادٍ صحيح في الفقيه, ورواها الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى, عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: سألت الرضا (علیه السلام) عن الصلاة بمكة والمدينة تقصير أو تمام, فقال: (قصّر ما لم تعزم على مقام عشرة)(2).
وأمّا الكلام فيها سنداً, فيقع في طريق الشيخ إلى أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري, وإليه في المشيخة عدّة طرق, وليس في شيءٍ منها طريق إلى جميع ما رواه, بل كلّ واحدٍ منها إلى بعض ما رواه, وهي خمسة طرق, أحدها فيه أحمد بن محمّد بن يحيى العطار الذي لم يرد في حقّه توثيق في كلمات المتقدّمين.
نعم, له طريق إلى جميع رواياته ذكر في الفهرست إلّا أنّ فيه أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار.
ويجاب: أوّلاً: بأنّ ما ذكر من ضعف الطريق غير تامّ؛ فإنّ أحمد بن محمّد بن يحيى
ص: 35
العطّار ممّن ترضّى عنه الصدوق في كتبه مراراً(1).
ثانياً: ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من إمكان التصحيح بأنّ الجملة التي يرويها الشيخ عن أحمد بن محمّد بن عيسى بواسطة أحمد بن محمّد بن يحيى العطار إنّما يرويه عنه عن أبيه، عن محمّد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري, وقد ذكر في الفهرست في ترجمة محمّد بن علي بن محبوب أنّ جميع ما رواه عن محمّد بن علي بن محبوب بواسطة أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه، عن ابن محبوب له إليه طريقان آخران: أحدهما صحيح, وهو ما يرويه عن جماعة، عن محمّد بن علي بن الحسين, عن أبيه ومحمّد بن الحسن, عن أحمد بن إدريس عنه.
وعليه فيكون طريق الشيخ إلى جميع رواياته عن أحمد بن محمّد بن عيسى صحيحاً في المشيخة(2).
3. خبر علي بن حديد: وقد رواه الشيخ عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن علي بن حديد، قال: سألت الرضا (علیه السلام) فقلت: إنّ أصحابنا اختلفوا في الحرمين, فبعضهم يقصر وبعضهم يتمّ, وأنا ممّن يتمّ على روايةٍ قد رواها أصحابنا في التمام, وذكرت عبد الله بن جندب أنّه كان يتم, قال: (رحم الله ابن جندب), ثمَّ قال لي: (لا يكون الإتمام إلّا أن تجمع على إقامة عشرة أيّام, وصلِّ النوافل ما شئت)، قال ابن حديد: وكان محبتي أن يأمرني بالإتمام(3).
والكلام في سندها: أمّا طريق الشيخ إلى أحمد بن محمّد بن عيسى فقد تقدّم الكلام
ص: 36
فيه, وهو يروي عن علي بن حديد بلا واسطة, وأمّا علي بن حديد فقد ضعّفه الشيخ في التهذيب والاستبصار صريحاً(1), وإنْ كان قد يظهر من بعض الروايات كونه من مشايخ ابن أبي عمير(2). إلّا أنّه وردت روايات أخرى فيها علي بن حديد عن ابن أبي عمير(3).
ولكنّ الغالب في الأسانيد هو رواية ابن أبي عمير وعلي بن حديد معاً(4), فلا يطمأن بصحّة رواية ابن أبي عمير عنه، ولا روايته عن ابن أبي عمير؛ للظنّ بوقوع التصحيف. فالصحيح هو ما جرى من روايتهما معاً.
4. خبر حمزة الجعفري: وقد رواه الشيخ بإسناده عن سعد عن أبي جعفر، عن محمّد بن خالد البرقي، عن حمزة بن عبد الله الجعفري، قال: لمّا أن نفرت من منى نويت المقام بمكة فأتممت الصلاة، ثمّ جاءني خبر من المنزل فلم أجد بدّاً من المصير إلى المنزل ولم أدرِ أتمّ أم أقصر, وأبو الحسن (علیه السلام) يومئذ بمكّة فأتيته فقصصت عليه القصّة فقال: (ارجع إلى التقصير)(5).
5. صحيحة أبي ولّاد الحناط: وقد رواها الشيخ عن سعد، عن أبي جعفر أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب عن أبي ولّاد الحناط، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) : إنّي كنت نويت حين دخلت المدينة أنْ أقيم بها عشرة أيّام، فأتمّ الصلاة، ثمّ بدا لي بعد أن لا
ص: 37
أقيم بها، فما ترى لي, أتمّ أم أقصر؟ فقال: (إن كنت حين دخلت المدينة صلّيت بها صلاة فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصر حتى تخرج منها، وإن كنت حين دخلتها على نيّتك التمام فلم تصلِّ فيها صلاة فريضة واحدة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال بالخيار إن شئت فانوِ المقام عشراً وأتمّ، وإن لم تنوِ المقام فقصّر ما بينك وبين شهر، فإذا مضى لك شهر فأتمّ الصلاة)(1).
6. صحيحة معاوية: وقد رواها الشيخ عن علي بن مهزيار، عن فضالة، عن معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل قدم مكّة فأقام على إحرامه، قال: (فليقصر الصلاة ما دام محرماً)(2).
7. معتبرة معاوية بن وهب: المروية في (العلل) عن محمّد بن الحسن، عن الحسين ابن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) : مكة والمدينة كسائر البلدان؟ قال: (نعم). قلت: روى عنك بعض أصحابنا أنك قلت لهم: أتمّوا بالمدينة لخمس، فقال: (إنّ أصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون فيخرجون من المسجد عند الصلاة فكرهت ذلك لهم فلهذا قلته)(3).
8. معتبرة معاوية بن وهب: وقد رواها الشيخ بإسناده عن موسى بن القاسم، عن عبد الرحمن، عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن التقصير في الحرمين والتمام، فقال: (لا تتمّ حتّى تجمع على مقام عشرة أيام)، فقلت: إنّ أصحابنا رووا عنك أنّك أمرتهم بالتمام، فقال: (إنّ أصحابك كانوا يدخلون المسجد فيصلّون ويأخذون
ص: 38
نعالهم ويخرجون والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد للصلاة, فأمرتهم بالتمام)(1).
دليل القول الأوّل: من خلال ما تقدّم يظهر التنافي الحاصل بين لسان هذه الأخبار، وقد اختار مشهور أصحابنا القول بالتخيير، ولم يذهب أحد من المتأخّرين إلى أحد القولين الآخرين جمعاً بين الروايات على واحد من وجهين:
الوجه الأوّل: ما ذكره غير واحد من أنّ التخيير بين القصر والتمام هو مقتضى الجمع(2), بالجمع بين روايات الطائفة الثانية الظاهرة في وجوب التمام مطلقاً وبين روايات الطائفة الثالثة الدالّة على تعيّن القصر مطلقاً. والظاهر منهما تماميّة دلالة الطائفة الأولى على التخيير.
ويلاحظ أنّ الجمع بالتخيير حينئذ يمكن أن يكون على أحد تقريبين:
التقريب الأوّل: أن يكون على أساس اقتضاء القاعدة في مثله الجمع بالتخيير بين ما ذكر في الدليلين.
التقريب الآخر: أن يكون على أساس جعل أخبار التخيير قرينة خاصّة على أن الأمر بكل من الطرفين في بعض الأخبار من باب الاقتصار على أحد خصال التخيير.
أمّا التقريب الأوّل فهو يبتني على كبرى كلّيّة وسيّالة تجري في عشرات الموارد في المباحث الفقهية, حيث يرد دليلان كلاهما معتبر, يتضمّن أحدهما وجوب شيء ويتضمّن الآخر الأمر بشيء آخر , مع العلم الخارجي بعدم وجوب كليهما، وقد تكرّر في كلماتهم البناء في مثله على الوجوب التخييري, ولكن ناقش فيه بعضهم، وهو وجيه.
بيان ذلك: أنّ ما يمكن أن يقال في توجيه حمل الدليلين على التخيير في الحالة
ص: 39
المذكورة وجهان:
الوجه الأوّل: أنّه لا تعارض في هذه الحالة بين أصل الحكمين مثل أصل وجوب التمام وبين أصل وجوب التقصير في مورد الكلام , أي لا تعارض بين الوجوبين على سبيل القضية المهملة، وإنّما التعارض بين الإطلاق في الجانبين، فيلزم البناء على سقوط الإطلاقين المقتضيين للوجوبين التعيينييّن فلا يبقى إلّا وجوب التمام ووجوب التقصير على سبيل القضيتين المهملتين، وتتعيّنان في القدر المتيقَّن من كلّ طرف، أي وجوب التمام مع عدم التقصير ووجوب التقصير مع عدم التمام, وهذا هو الوجوب التخييري.
ونظير هذا الكلام طرحه السيد الروحاني (رحمة الله) في المنتقى ولكنّه قال: (وقد يجعل هذا المورد من موارد تعارض الإطلاقين والقاعدة تقتضي التساقط... وعليه لا يكون المورد من موارد الجمع العرفي أصلاً بل هو نظير تعارض العامّين من وجه وتساقطهما في المجمع) (1).
والقول بالوجوب التخييري لا يستند إلى الجمع العرفي بين الدليلين، وإنّما يكون من جهة تساقط الإطلاقين، والأخذ بأصل الوجوبين على سبيل القضيتين المهملتين، وتتعيّنان في القدر المتيقَّن من كلّ منهما، ونتيجة ذلك هي الوجوب التخييري.
ويمكن أن يرد عليه:
أوّلاً: ابتناؤه على كون مرجع الوجوب التخييري إلى وجوبين مقيّدين، وهو غير تام.
ثانياً: من حيث البناء، وذلك لأنّ التعارض هنا ليس بين الإطلاقين ليُدّعى تساقطهما وبقاء الوجوبين على سبيل القضيتين المهملتين، بل التعارض بين كلّ من الإطلاقين وبين أصل الوجوب في الطرف الآخر؛ إذ المفروض العلم بعدم وجوب
ص: 40
التمام والقصر معاً في حال من الأحوال، فما يدلّ على وجوب التمام في الجملة على سبيل القضية المهملة معارَض مع إطلاق ما دلّ على ثبوت التقصير، أي سواء على مَن أتمّ وعلى مَن لم يتمّ، أي هما يتكاذبان؛ إذ مقتضى وجوب التمام في الجملة عدم إطلاق وجوب التقصير، ومقتضى إطلاق وجوب التقصير هو عدم ثبوت وجوب التمام ولو في الجملة، فالتعارض ليس بين الإطلاقين ليقال إنّهما يتساقطان ويبقى دلالتهما على أصل الوجوبين. نعم، لو رُفعت اليد عن الإطلاقين فلا تعارض بين الدليلين، ولكن هذا أمر آخر, فهذا التقريب ليس بتام.
الوجه الآخر: ما ذكره السيد الروحاني(1) بأن يُجعل المورد من موارد تقديم النصّ على الظاهر؛ لأنّ كلّا ً منهما نصّ في الوجوب ظاهر في التعيين بواسطة الإطلاق، فظاهر كلّ منهما ينافي نص الآخر ويكون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر، وهذا يؤدّي إلى إثبات الوجوب التخييري ولكن على أساس الجمع العرفي، وليس على ما ذُكر في التقريب السابق.
والحاصل أنّ أصل الوجوب مدلول وضعي لصيغة الأمر، وأمّا كون الوجوب تعيينياً فهو مدلول بالإطلاق بمقتضى مقدّمات الحكمة، وحينئذ يمكن أن يقال: إنّ الدلالة الوضعية أقوى من الدلالة الإطلاقية، فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور كلٍّ منهما في الإطلاق بالظهور الوضعي للآخر، ونتيجته هي الوجوب التخييري، وهذا ضرب من الجمع العرفي.
ولكن يرد عليه ما ذكره السيد الشهيد (رحمة الله) (2), ومحصّله: أنّ الجمع العرفي بين
ص: 41
الدليلين المنفصلين لا يكون إلّا بملاك القرينية، والقرينية فرع ظهور ما يراد جعله قرينة في المعنى الذي يكون به قرينة على المراد بالدليل الآخر، فيجب أن يكون ظاهراً في هذا المعنى حتى يُجعل هذا الدليل قرينة على التصرف في الدليل الآخر كما إذا ورد في دليل: (لا تصلِّ في الحمّام) وفي دليل آخر: (لا بأس بالصلاة في الحمّام) فإنّ دليل الترخيص وإن كان يُحتمل أن يكون المراد به الإباحة الخاصة - أي تساوي الفعل والترك - فيكون معارضاً لأصل النهي في الدليل الأول، إلّا أنّ ظاهره هو الإباحة العامة - أي نفي الإلزام - فهو يتعيّن في القرينية على دليل النهي، وحمله على التنزّه - حيث يكون ظاهراً في هذا المعنى - يكون حينئذ قرينة على التصرّف في الدليل الأول.
وأمّا إذا كان ما يراد جعله قرينة ظاهراً في خلاف المعنى الذي يكون به صالحاً للقرينية على الدليل الآخر - وإن كان يُحتمل فيه أن يكون المراد به المعنى الصالح للقرينية - فحينئذٍ لا مجال لحمله على ما ليس ظاهراً فيه ثُمَّ جعله قرينة لرفع اليد عن ظاهر الدليل الآخر، كما إذا ورد في دليل: (ثمن العذرة سحت) وفي دليل آخر: (لا بأس ببيع العذرة) فإنّ الدليل الثاني ظاهر - ولو بمقتضى الإطلاق ومقدمات الحكمة - في جواز بيع العذرة وإن كانت نجسة فيكون معارضاً للدليل الأول، ولا محلّ لحمله على جواز بيع العذرة في الجملة ليصلح قرينة على رفع اليد عن إطلاق ما ورد في الدليل الأول، وإنّما يصلح لذلك إذا حُمل على أنّ المراد جواز بيع العذرة في الجملة فحينئذ يكون قرينة، ولكن هذا ليس هو المعنى الذي هو ظاهر فيه، فإنّه ظاهر في عدم جواز بيع العذرة مطلقاً وإن كانت نجسة. فإذاً لا مجال للجمع العرفي في المورد الثاني.
فظهر بذلك أنّ مجرّد وجود دليلين لواجبين يعلم عدم لزوم الجمع بينهما لا يوجب استفادة التخيير بينهما بالنظر إلى المجموع، بل مقتضى القاعدة سقوطهما. نعم، لو علم
ص: 42
إجمالاً بوجوب أحدهما وجب الإتيان به عملاً بالعلم الإجمالي، ولكن يجب الإتيان بالآخر من باب الاحتياط.
هذا، مضافاً إلى ما سيأتي من إباء الأخبار الآمرة بالقصر عن الحمل على التخيير. هذا كله بشكل عام.
وأمّا التقريب الآخر - وهو حمل الطائفتين الآمرتين بالقصر والتمام على التخيير بقرينة خاصة، وهي أخبار التخيير - فيلاحظ عليه بما أشار إليه غير واحد(1) من إباء الطائفة الآمرة بالقصر عن إرادة التخيير لشدّة مخالفتها للظاهر، ولاسيّما كونه المفضول من الفردين.
وبيان ذلك بوجهين:
الأوَّل: أنّ الظاهر من روايات تحتّمُ القصر في هذه المواطن يكون وفق الحكم العام لتعيّن القصر في السفر، لا سيّما مع سؤال السائل فيها عن وجوب القصر أو الإتمام إمّا تصريحاً أو تلويحاً... وعليه فإنّ من المتكلّف حمل الدليل على أنّ المنظور به الاجتزاء بالقصر في أداء التكليف، ومثل هذا المعنى يمكن أن يجري في روايات التمام أيضاً.
الآخر: أنّ حمل الدليل الذاكر لإحدى الخصلتين على ذكر ما يجتزئ به إنَّما يحسن فيما لو كان المذكور أفضل الخصلتين، أو كانت الخصلتان متساويتين في الفضل، وأمّا إذا كان المذكور الخصلة الأقل فضلاً فإنّ هذا الحمل بعيد لما فيه من تفويت الفضيلة على المخاطب من دون مبرر، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ مقتضى روايات الإتمام أنّ الإتمام أفضل من القصر.
ص: 43
الوجه الثاني: - وهو الصحيح -: ما اختاره غير واحد منهم المحقّق الأردبيلي(1) وكذلك السيد الخوئي(2) من الجمع بين روايات الطائفة الأولى الدالة على التخيير، المؤيدة بفتوى المشهور وروايات الطائفة الثانية الظاهرة في تعيّن التمام، بأنّ المراد هو التخيير مع أفضلية التمام.
وأمّا روايات تعيّن القصر فتحمل على التقية وشبهها كما سيأتي.
القول الثاني: وأمّا القول الثاني - وهو وجوب التمام - فيمكن تقريره على أساس حمل الطائفتين الأخريين على التقية؛ لأنّ العامّة كانوا يقولون بالتخيير أو تعيّن القصر. ويساعد على ذلك ما في بعض روايات الإتمام من الإشارة إلى أنّه من مخزون علم الله، كما في صحيحة حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: (من مخزون علم الله الإتمام في أربعة مواطن...)(3).
ويلاحظ عليه: أنّ الجمع الدلالي العرفي بين أخبار التخيير وأخبار التمام متحقّق، ومعه لا تصل النوبة إلى الجمع الجهتي بحمل أخبار التخيير على التقية، وقد تقرّر في محله تقدّم الجمع الدلالي على الجمع الجهتي.
يضاف إلى ذلك أنّ في جملة من أخبار التخيير الترغيب إلى التمام بما لا يناسب المذهب المشهور لدى العامة آنذاك، وهو أنّ القصر إمّا فرض واجب، وإمّا سُنّة راجحة كما هو رأي مالك.
دليل القول بتعيّن القصر: أنّ التعارض الحاصل بين أخبار القصر وأخبار التخيير
ص: 44
وأخبار التمام مستقر وليس هناك جمع دلالي بينها.
والوجه فيه: موافقة أخبار القصر مع الشهرة عند القدماء، فتحمل أخبار التخيير وأخبار التمام على التقية.
وبيان ذلك يتوقف على ذكر مقدمات..
المقدّمة الأولى: استقرار التعارض بين الطوائف الثلاثة من الأخبار وانتفاء الجمع الدلالي.
المقدّمة الثانية: شهرة التقصير بين أصحابنا القدماء المعاصرين للأئمّة (علیهم السلام)، كما تقدّم عن السيد بحر العلوم، وهو ما يظهر من بعض الأخبار، كما ورد في صحيحة علي ابن مهزيار المتقدّمة، قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (علیه السلام) : أنّ الرواية قد اختلفت عن آبائك (علیهم السلام) في الإتمام والتقصير للصلاة في الحرمين، فمنها: أنْ يأمر تتمم الصلاة ولو صلاة واحدة. ومنها: أنْ تقصر الصلاة ما لم ينوِ مقام عشرة أيام، ولم أزل على الإتمام فيهما إلى أنْ صدرنا في حجّنا في عامنا هذا، فإنّ فقهاء أصحابنا أشاروا عليّ بالتقصير إذا كنت لا أنوي مقام عشرة وقد ضقت بذلك حتى أعرف رأيك...) الحديث (1) ويظهر منها أنّ الفقهاء كانوا لا يقبلون الإتمام ولذلك أرشدوه إلى التقصير، وكذلك يظهر من الصحيح المروي في كامل الزيارات عن سعد بن عبد الله قال: (سألت أيوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد مكة والمدينة وقبر الحسين (علیه السلام) والكوفة والذي روي فيها؟ فقال: أنا أقصّر وكان صفوان يقصّر وابن أبي عمير وجميع أصحابنا يقصّرون)(2).
نعم، قد يظهر من الثانية الاتفاق، ولكن ورد في خبر علي بن حديد الخلاف بين
ص: 45
أصحابنا المتقدّمين، حيث قال: سألت الرضا (علیه السلام) فقلت: إنّ أصحابنا اختلفوا في الحرمين فبعضهم يقصّر وبعضهم يتم، وأنا ممّن يتم على رواية قد رواها أصحابنا في التمام وذكرت عبد الله بن جندب أنّه كان يتم...)(1) ممّا يدل على أنّ المراد بصحيح أيوب بن نوح ليس الإيجاب الكلي بل الغالب.
ويظهر أنّ هذه الشهرة بمرتبة من الأهمية عند الشيعة حيث كانوا يطرحون لأجلها الأخبار المخالفة ويحملونها على التقية أو على محامل أخرى.
المقدمة الثالثة: إنّ اشتهار الفتوى بين أصحاب الأئمة (علیهم السلام) وبطانتهم المطلعين على مذاقهم (علیهم السلام) يكشف قطعياً عن مرادهم الجدّي.
وبالجملة: الشهرة في المقام موهِنة لأخبار التمام والتخيير، وإن كانت مستفيضة أو متواترة إجمالاً فيجب حملها على التقية أو على ما حملها عليه الصدوق من نيّة إقامة عشرة أيام(2).
ويمكن أن يجاب على هذا الاستدلال بجوابين:
الجواب الأوَّل: أنْ يخدش في الشهرة المدعاة من وجهين:
الوجه الأوَّل: إنّ ما هو المذكور في الروايات المتقدّمة - من جريان عمل الأصحاب في القصر- لم يتّضح كونه من باب الأخذ بأخبار القصر وترجيحها على أخبار التخيير والتمام فمن الممكن أنْ يكون من باب الاحتياط؛ لأنّهم كانوا يرون أنّ من غير المحتمل أفضليته، وعليه فالأمر دائر بين التخيير وتعيّن القصر، ومقتضى القاعدة فيه تعيّن الاحتياط.
ص: 46
الوجه الآخر: أنّ من الممكن معارضة الشهرة القديمة بالشهرة الحديثة بين فقهائنا المتأخرين بعد الشيخ الصدوق إلى زماننا هذا حيث إنّهم بين قائل بالتخيير، وقائل بتعيّن التمام - على ما حكي عن السيد المرتضى وغيره - فما هو المقدّم من بين هاتين الشهرتين؟
وفي تقديم أيٍّ من الشهرتين إذا تعارضتا احتمالات..
منها: تقديم الشهرة بين المتقدمين؛ لأنّها أقوى من جهة أقربيّة العهد بالأئمّة (علیهم السلام).
ومنها: تقديم الشهرة بين المتأخرين؛ لأنّهم أدق نظراً وتأملاً وأكثر ملاحظة. وعدولهم عن شهرة المتقدمين يكشف عن الخلل في دليل الأولين، كما يظهر ذلك من الوحيد(1).
وثالث: إلى التفصيل بين ترجيح الأولى إذا كان المستند هو محض النقل، وترجيح الثانية إذا كان المستند العقل والتعمق في دليل النقل كما يظهر من السيد المجاهد(2).
والحقّ أنّه لا حجة في الشهرة المتأخّرة من جهة وضوح مدركها، إلّا أنْ يزداد وثوق النفس بموافقة المشهور أحياناً. وأمّا الشهرة بين المتقدمين فإن تبيّن مدركها فالعبرة به، وإلّا أخذنا بها إذا حصل الوثوق بالاعتماد على وجه إجمالي لا نعلمه، ولكن الظاهر عدمه في المقام؛ نظراً إلى أخبار الباب، كما سيتضح فيما يأتي في الجواب التالي.
الجواب الآخر: أنّ الشهرة في الفتوى - وفق بعض الأخبار - تصلح أن تكون منبّهاً أو موجباً لسلب الوثوق عن الطائفة المعارضة: إمّا صدوراً أو جهةً أو دلالةً، وما نحن فيه ليس كذلك؛ لأنّ أخبار التمام والتخيير سليمة من الجهات المذكورة جميعاً:
أمّا من جهة الصدور فلأنّ هذه الأخبار متواترة في مجموعها، فلا يصحّ التشكيك
ص: 47
في صدورها.
وأمّا سلامتها من حيث الجهة فلأنّ حمل الأخبار الكثيرة على التقية غير ممكن، كما قال الشيخ المفيد: إنّ (ما خرج للتقية لا تكثر روايته عنهم كما تكثر رواية المعمول به)(1).
وأمّا إثباتها من حيث الدلالة فلأنّ حمل هذه الأخبار على الإقامة عشراً مع ظهور بعضها في تعيّن التمام، بعيد جداً، ولاسيّما مع ما ورد فيها (وإن كنت ماراً، ولو صلاة واحدة).
أمّا الروايات الظاهرة في تعيّن القصر ففيها اتّجاهان:
الاتجاه الأوَّل: حمل جهتي على نحوين:
النحو الأوَّل: على التقية؛ بالنظر إلى ورود التقصير في الكتاب العزيز، وشهرته بين العامّة في أصل المسألة مع عدم خصوصية المواطن الأربعة.
النحو الآخر: إيقاع الخلاف من قِبلهم (علیهم السلام) بين الشيعة في الأحكام الموسعة، كما أشار إلى ذلك بعض مراجع العصر (دام ظله العالی) (2).
حيث يظهر من بعض الروايات أنّ أحد أسباب اختلاف الأخبار هو وجود الرقابة الشديدة على الأئمة (علیهم السلام) وشيعتهم في تلك الفترات فأوجب إيقاع بعض الاختلافات الشكلية والصورية في الأحكام التي لم تكن بتلك الدرجة من الأهمية، كما في الموسعات مثل موردنا أو في المستحبات، مع الاتفاق في الأحكام المهمة فيما بينهم؛ لأنّ اتفاق كلمتهم على الحكم يؤدي إلى كشف انتسابهم لهم (علیهم السلام) وقد أشير إلى ذلك في جملة من الأخبار:
ص: 48
أهمّها: ما رواه الكشي في الصحيح بقوله: حدثني حمدويه بن نصير، قال: حدثنا محمد بن عيسى بن عبيد قال: حدثني يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن زرارة. ومحمد بن قولويه والحسين بن الحسن، قالا: حدثنا سعد بن عبد الله قال حدثني هارون ابن الحسن بن محبوب، عن محمد بن عبد الله بن زرارة وابنيه الحسن والحسين، عن عبد الله بن زرارة قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام) : (اقرأ منّي على والدك السلام، وقل له: إنّي إنّما أعيبك دفاعاً منّي عنك، فإنّ الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في مَن نحبّه ونقرّبه - إلى أن قال -: وعليك بالصلاة الستة والأربعين، وعليك بالحجّ أن تهلّ بالإفراد، وتنوي الفسخ إذا قدمت مكّة فطفت وسعيت فسخت ما أهللت به، وقلبت الحج عمرة، أحللت إلى يوم التروية، ثم استأنف الإهلال بالحجّ مفرداً إلى منى، وتشهد المنافع بعرفات والمزدلفة، فكذلك حجّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهكذا أمر أصحابه أن يفعلوا: أن يفسخوا ما أهلوا به ويقلبوا الحج عمرة، وإنّما أقام رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على إحرامه لسوق الذي ساق معه، فإنّ السائق قارن، والقارن لا يحل حتى يبلغ الهدي محلّه، ومحلّه النحر بمنى، فإذا بلغ أحلّ، فهذا الذي أمرناك به حجّ المتمتع. فالزم ذلك ولا يضيقن صدرك، والذي أتاك به أبو بصير من صلاة إحدى وخمسين، والإهلال بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وما أمرنا به من أن يهلّ بالتمتع فلذلك عندنا معان وتصاريف كذلك ما يسعنا ويسعكم ولا يخالف شيء من ذلك الحقّ ولا يضادّه، والحمد لله ربّ العالمين)(1).
الاتّجاه الآخر: تحصيل تأويل دلالي لها كما سعى إليه جمع من الأعلام، إلّا أنّ عامّة الوجوه المذكورة لا تخلو من تكلّف، ممّا يوجب تعيّن الاتّجاه الأوَّل وهو الجمع الجهتي
ص: 49
بطبيعة الحال، وهذا المعنى يتضح بملاحظة الأخبار الثمانية المتقدمة في الطائفة الثالثة، وما ذكر من التوجيه الدلالي لها لتنسجم مع ما هو المشهور من التخيير بمناقشة الأخبار.
أمّا الرواية الأولى: - وهي حسنة الحضيني - فوجه دلالتها على القصر: أنّه يظهر من مفهوم الشرط انتفاء وجوب التمام وتعيّن القصر في حال عدم نية البقاء عشرة أيام في مكة والمدينة نافياً الفرق بينهما وبين غيرهما من باقي الأماكن.
المناقشة: وقد أُوّلت بوجهين لتناسب القول المشهور من التخيير
الوجه الأوَّل: ما ذكره صاحب الجواهر من حملها على إرادة الإتمام في منى وعرفات بناءً على عدم قدح ما دون المسافة في نية الإقامة(1).
ولكن لا شاهد عليه بل يمكن القول بأنّ الظاهر منها كون محمد بن إبراهيم الحضيني عالماً ببقائه أقل من عشرة أيام في المشاعر؛ لأنّه يحضر قبل التروية بيومين أو ثلاثة ويرحل بعد أيام التشريق فتكون مدّة إقامته في مكّة ومنى وعرفات أقلّ من عشرة أيام، ومن ثَمَّ أعاد سؤاله على الإمام (علیه السلام) مرّة ثانية وبيّن أنّه غير قاصد للإقامة.
الوجه الآخر: ما عن الشيخ من الحمل على أفضلية نيّة الإقامة والإتمام وإنْ علم أنّه لا يقيم، حيث قال: (وهو المعتمد عندي، وهو أنّ من حصل بالحرمين ينبغي له أن يعزم على مقام عشرة أيام ويتمّ الصلاة فيهما وإن كان يعلم أنّه لا يقيم أو يكون في عزمه الخروج من الغد، ويكون هذا ممّا يختصّ به هذان الموضعان ويتميزان به من سائر البلاد؛ لأنّ سائر المواضع متى عزم الإنسان فيها على المقام عشرة أيام وجب عليه الإتمام)(2).
ص: 50
ولكن الالتزام بثبوت الأفضلية مع نية الإقامة مع علمه بخروجه غير ظاهر، مع مخالفته لإجماع فقهاء الإمامية من الالتزام بالتمام من دون العزم على البقاء عشراً. والظاهر في هذا الخبر هو صدقه على وجه التقية؛ لأنّ المفهوم الذي تدل عليه ممّا يتناسب مع مشهور العامة، ولعل الإمام (علیه السلام) أجاب بتقييد التمام بنية الإقامة لوجود من يتّقى منه.
إنْ قيل: بأنّهم لم يشترطوا نية العشرة أيام في إتمام المسافر لصلاته.
فيقال في جوابه: لعلّه اعتماداً على ما رووه عن أمير المؤمنين (علیه السلام) من أنّه قال: يتمّ الصلاة الذي يقيم عشراً، وهو قول نسب لمحمد بن علي وابنه والحسن بن صالح(1)، وهذا كافٍ في دفع ما يحذر، أو يقال إنّ الإمام (علیه السلام) أراد أنْ يلقي الخلاف بين الشيعة وقاية لهم.
وأمّا الرواية الثانية: - وهي صحيحة ابن بزيع المتقدمة - فقد اُستدل بها على التقصير فيهما، كما في الفقيه حيث قال: (يعني بذلك أن يعزم على مقام عشرة أيام في هذه المواطن حتى يتم. وتصديق ذلك ما رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع...)(2).
ووجه دلالة هذه الرواية على تعيّن القصر - رغم ما يحتمل بدواً من حمل الأمر بالقصر على جوازه فحسب من جهة كونه من قبيل الأمر بعد ما هو في مظنّة الحظر -: أنّ المورد ليس مظنة لحظر القصر فإنّ ابن بزيع سأل عن حكم الصلاة في مكّة حال السفر وردد فيه بين التمام والقصر، مع وضوح وجوب القصر على المسافر عند الطائفة، ويظهر من السائل التفاته إلى خصوصية المكان مرتكزاً في ذهنه احتمال التمام.
وحملت هذه الصحيحة على محامل عدّة كي تنسجم مع قول المشهور بالتخيير:
ص: 51
منها: ما ذكر في الجواهر من احتمال إرادة البلدين أو نواحيها بناءً على قصر الرخصة على المسجدين(1). ولكنّه بعيد لعدم القرينة على إرادة ماعدا المسجدين منهما، بل لا يبعد إرادة المسجدين بقرينة أنّ اقتران مكة والمدينة في كلام السائل يكشف عن أنّ المراد هو المسجدان؛ بالنظر إلى أنّهما مقصد الزائرين أصالة، لا المدينتان أو نواحيها.
ويضاف إلى ذلك: أنّ الظاهر من هذه الصحيحة أنّ السؤال كان عن حكم المسافر إلى حرم مكة والمدينة في الصلاة، ويظهر أن السائل كان في ذهنه عدم تعيّن القصر للمسافر، وكون هذين المكانين خارجين عن القاعدة؛ ولذلك استعلم عن الحكم من الإمام (علیه السلام) . فحمل الجواب على النظر إلى غير ما هو محلّ نظر السائل أمر غير وارد.
ومنها: ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره) من حملها على إرادة نفي وجوب التمام لا نفي مشروعيته إذا لم ينوِ الإقامة عشراً(2).
وقد يقال: إنّه بعيد بشهادة أنّ السائل ردّد في السؤال بين التقصير والتمام. نعم، لو سأل عن حكم التمام كما في بعض الأخبار(3) لأمكن أن يقال: إنّه أراد السؤال عن تعيّنه ووجوبه، والإمام (علیه السلام) كان بصدد نفي الوجوب، فالظاهر أنّ السائل كان يعلم بوجوب القصر في السفر، ولكنّه استعلم عن حكم الصلاة في مكة والمدينة، فكان الجواب تعيّن القصر فيهما.
ومنها: ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من الحمل على التقية(4)، ولعلّ هذا يمكن أن
ص: 52
يستظهر إذا عرف أنّ مشهورهم العمل على التقصير، ومشهورنا خلافه(1).
ولكن قد يقال:إنّ حمل الروايات الدالة على تعيّن القصر إلّا إذا أقام عشرة أيام - كما في هذه الصحيحة والخبر الآتي وغيرهما - على التقية غير صحيح بقرينة القيد المذكور في الذيل (ما لم تعزم على مقام عشرة)؛ لأنّ هذا الحكم وهو أنّ وجوب التمام مقيّد بالعزم على الإقامة عشرة أيام مختص بنا دون غيرنا من المسلمين؛ فإنّ بعضهم أوجب الإتمام دون أربعة أيام، أو الإحدى والعشرين صلاة، ولو كان المراد منها التقية لما احتيج إلى القيد، بل إنّ هذا يوقع المكلّف بما يخالف التقية؛ لأنّه لو نوى المقام تسعة أيام يجب عليه البقاء على القصر عندنا مع أنّ المخالفين يتمون.
ولكن يمكن أنْ يقال في التعليق على هذه الرواية: إنّها ممّا تحمل على النحو الثاني من أنحاء الجمع الجهتي من الحمل على إيقاع الخلاف بين الشيعة في الأحكام الموسعة كما في مثل المقام الذي يحكم فيه بالتوسعة على المكلف والتخيير بين القصر والتمام.
أمّا الرواية الثالثة: - وهي خبر علي بن حديد - فالمناقشة فيها: أنّ السائل ينقل الخلاف في هذه المسألة بين الشيعة، وحاول أن ينصر أحد هذين القولين بسلوك عبد الله بن جندب - الذي وصفه الإمام الرضا (علیه السلام) بأنّه من المخبتين(2) وهو لا يقاس بغيره(3) - والظاهر أنّ هذا الخلاف هو الذي أوجب التشكيك لابن حديد في الحكم وإلّا فإنّه كان يبني على التمام، فأراد من الإمام (علیه السلام) أنْ يبيّن له الحكم، فأجابه الإمام بتعيّن القصر على المسافر إلى الحرمين ما لم ينوِ المقام عشرة أيام.
ص: 53
إن قلت: فلماذا ترحّم الإمام (علیه السلام) على عبد الله بن جندب ولم ينكر فعله لو كان الحكم هو التقصير واقعاً؟
قلت: هو لم ينكر فعله لأنّه حمله على مَن عمل بوظيفته حيث اعتقد وجوب التمام عليه وإن كان هذا الاعتقاد غير صائب؛ لكونه معتمّداً على العمل بأخبار التمام الصادرة على وجه التقية. مضافاً إلى صحّة التمام في مواضع القصر، كما ورد في روايات أخرى فتكون صلواته محكومة بالصحّة.
وقد يجاب عن هذه الرواية: بأنّه يحتمل أنّ الإمام (علیه السلام) كان بصدد نفي الإلزام، ويشهد لهذا..
أولاً: قول ابن حديد (وكان محبتي أنْ يأمرني بالإتمام) حيث يظهر أنّه كان قد سأل عن تعيّن الإتمام.
لكنّ الإنصاف أنّ قول ابن حديد هذا لا يفيد أكثر من الرغبة في موافقة فعله لأمر الإمام (علیه السلام) ولم يكن سؤاله عن تعيّن التمام.
وثانياً: جواب الإمام (علیه السلام) : (لا يكون الإتمام إلّا أن يقيم عشرة أيام...) على ذلك حيث إنّ الإمام بيّن في جوابه أنّ وجوب التمام وتعيّنه إنّما يكون بعد الإقامة، وهذا كاشف عن أنّ السؤال كان عن تعيّن التمام، ولكنّ المذكور فيه أنّ التمام لا يكون إلّا بعد الإقامة لا وجوبه وتعيّنه، فلاحظ.
أمّا الرواية الرابعة: - خبر حمزة بن عبد الله الجعفري - فقد توجّه دلالتها للانسجام مع قول المشهور بالتخيير؛ بأنّ (المراد من الجواب إنَّما هو الأمر بالتقصير بعد السفر والخروج، فهو كناية عن الأمر بالسفر بمعنى سافِر وقصِّر؛ إذ الظاهر أنّ مراد السائل إنَّما هو الاستفهام عمّن نوى الإقامة، هل يجوز له إبطالها والخروج والقصر فيه أم لا بُدَّ
ص: 54
من الإتمام ولو في الطريق إلى أن يتمّ أيام الإقامة كما يتوهمه كثير ممّن لم يقف على حكم المسألة)(1).
ولكنّه مخالف للظاهر، ولا شاهد على إرادته من اللفظ كما لا يخفى.
وقد يستظهر أنّ الحكم في هذا الخبر محمول على التقية لمخالفته لما أجمع عليه أصحابنا من تعيّن التمام في أمثال المقام.
فإنْ قلت: لو صحّ ما قلت فلماذا أتمّ في صلاته الأولى؟
قلت: إنّ ناوي الإقامة يتمّ ولو كان لأربعة أيام أو عشرين صلاة أو كليهما عندهم، وهو المنسوب إلى مالك والشافعي. أو يقال: إنّه قد نوى الإقامة المجوزة عندهم للتمام وعندما عدل عن نيته لما جاءه من خبر وأراد السفر لا يستطيع أن يتمّ في ما بقي بعد عدم إمكان بقائه للمدّة المذكورة.
نعم، يمكن القول بأنّ هذه الرواية وردت في سياق النحو الثاني من موارد الحمل الجهتي، وهو إلقاء الخلاف بين الشيعة وقد عُبّر عنها بالتقية على ما في كلمات صاحب الحدائق من أنّ التقية قد تتحقق بإلقاء الخلاف بين الشيعة وإن لم يكن القول متبنىً من بعض المخالفين.
وعليه فلا بُدَّ من ردّ علمها إلى أهلها، وقد أعرض الأصحاب عنها لمخالفتها لما قام الإجماع عليه من أنّ وظيفة مَن عدل عن نية الإقامة بعد إتيانه بفريضةٍ تماماً هي البقاء على التمام بالإضافة إلى معارضتها لصحيحة أبي ولّاد(2).
ص: 55
الرواية الخامسة: صحيحة أبي ولّاد الحنّاط المتقدّمة وتقريب دلالتها على تعيّن القصر(1): أنّ في كلٍّ من السؤال والجواب دلالة عليه:
أمّا سؤال السائل حيث سأل عن وظيفته حال العدول عن نية الإقامة ممّا يقتضي فراغه عن أنّه لو لم ينوِ الإقامة ابتداءً كانت وظيفته شرعاً القصر، لكن حيث إنّه نوى الإقامة أولاً، ثم عدل عنها شك في أنّ الواجب عليه القصر أو التمام.
أمّا جواب الإمام (علیه السلام) فهو يدل على إقرار السائل على ذلك حين تضمّن إيجاب القصر عليه إذا لم يكن أتى بفريضة واحدة وعدل عن نية الإقامة، إلّا أن يبقى مدة شهر مردداً فيتم.
حيث قال: (إنْ شئت فانوِ المقام عشراً وأتمّ وإن لم تنوِ المقام فقصِّر ما بينك وبين شهر، فإذا مضى لك شهر فأتمّ الصلاة)، والأمر بالقصر في الشق الثاني ظاهر في تعيّن القصر، كما أنّ الأمر بالتمام في الشق الأول ظاهر في تعيّن التمام.
وقد أجيب عن هذه الصحيحة..
أولاً: بما ذكره العلّامة المجلسي الأول (قدس سره) (2) من حمل الأمر بالقصرفي الشق الثاني على الجواز، والأمر بالتمام في الشق الأول على الاستحباب، بمعنى أنّه إذا لم يكن أتى بالفريضة في حال نية الإقامة استحب له أنْ ينوي عشراً ويتمّ.
ويلاحظ عليه: أنّ السائل سأل عن وظيفته من القصر والتمام، فأمره بالقصر ظاهرٌ بوضوح في تعيّن القصر كما ذكرنا أولاً، وليس الأمر في مقام توهم الحظر بشيء معين حتى يحمل على مجرد الجواز، وتجريد دلالة الأمر على الرجحان والطلب بعيد جداً.
ص: 56
وثانياً: بما ذكره السيد الحكيم (قدس سره) بقوله: (أمّا صحيح أبي ولّاد فلتوقف الاستدلال به على كون التخيير بين القصر والتمام عاماً لجميع البلد. أمّا لو اختصّ بالمسجد فلا مجال له. مضافاً إلى إمكان دعوى كون السؤال عن حكم الإقامة في مطلق البلد، ولأجل ذلك استفيد منه الحكم الكلي، وإن كان للمدينة خصوصية دون غيرها. ولزوم تخصيص المورد لا مانع منه في مقام الجمع بين الأدلة)(1).
أقول: أمّا الاحتمال الأول في كلامه (قدس سره) فهو مبني على اختصاص التخيير بالمسجد، ولكن سيأتي - في الحلقة اللاحقة - أنّ الحكم عام لجميع المدينتين ولا يختصّ بالمسجدين. مضافاً إلى أنّه لا يبعد القول بأنّ القدر المتيقّن من سؤال السائل عن حكم الصلاة في المدينتين هو الحكم في المسجدين.
أمّا الاحتمال الثاني فظاهره أنّ السائل وإن سأل عن حكم المدينة، ولكنّ المراد الأعمّ منها وهو مطلق البلد، وأمّا حكم المدينة التي كانت مورداً للسؤال فلا مانع من استثنائها من هذا الحكم المطلق.
أقول: إنّ دعوى استثناء المورد من حكم العام في بعض الروايات وقعت محلاً للخلاف بين الأعلام: فبعض اختار فيها كون العام فيها كالخاص في الدلالة. وبعض اختار بقاءه على عمومه. واختار الأول منهما من الأعلام سيد المدارك والمحقق السبزواري (قدس سرهما). ولعلّ أول من اختار الثاني هو الوحيد، وذكر ذلك في حاشيته(2) وتبعه غيره.
والصحيح هو الأوَّل الذي اختاره السيد الخوئي (قدس سره) (3) من التفصيل بين كون
ص: 57
جواب الإمام (علیه السلام) معقوداً على السؤال وناظراً إليه فيكون نصّاً في الخاص، وبين صورة كون المجيب إنَّما تعرض لحكم كلي، وما ذكر في السؤال إنَّما كان من باب المثال، فيبقى على عمومه.
والمقام يظهر منه أنّ جواب الإمام (علیه السلام) كان ناظراً إلى السؤال بقرينة قوله: (حين دخلت المدينة، حين دخلتها) فيكون نصّاً في المورد، ومنه يظهر دلالة الصحيحة على تعيّن القصر.
أمّا الرواية السادسة: - صحيحة معاوية بن عمار - فقد حاول الشيخ أن يحملها على الجواز ولكنّه بعيد؛ لظهور الأمر في تعيّن التمام، وصرفه عن الرجحان في غاية البعد عن ظهور البيان.
والتفصيل بين الإحلال والإحرام في التقصير والتمام ممّا لم يقل به أحد. ويمكن أن تحمل على ما ذكر من إيقاع الخلاف بين المؤمنين لتجنب المسيئين والمتربصين.
ودعوى الحمل على التقية بعيدة؛ لعدم قائل من العامة بالتفصيل المذكور بين الإحلال والإحرام.
وأمّا الروايتان السابعة والثامنة: - وهما معتبرتا معاوية بن وهب - فالظاهر رجوعهما إلى رواية واحدة.
والمناسب حملهما على التقية؛ لما يظهر منهما من أنّ الإمام (علیه السلام) إنَّما أمرهم بالتمام لخمس خوفاً عليهم من مخالفة الناس، وكذلك أمر السائل بالتقصير لما في التقصير من الموافقة للكتاب ولبعض علمائهم لهذا الحكم، فكلّ من عنوان التمام والقصر راجع للتقية، ولكن مع اختلاف الجهة.
ويظهر ممّا ذكرنا أنّ الاتّجاه الثاني - وهو الجمع الدلالي لأخبار تعيّن القصر بما لا ينافي
ص: 58
جواز التمام - ليس وجيهاً، فالمتعيّن في معالجة هذه الأخبار هو الاتّجاه الأوَّل وهو الحمل الجهتي.
ومن خلال استعراض ما تقدّم من المواقف يظهر أنّ الصحيح هو التخيير بين الإتمام والقصر وأفضلية التمام، ومتانة الوجه الثاني في معالجة الأخبار.
* * *
وبهذا تمّ الكلام عن المقام الأوَّل، ويليه الكلام في المقام الثاني في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
ص: 59
ص: 60
من المسائل التي وقع اجماع الفقهاء عليها مسألة اشتراط الاجتهاد في القاضي، ولكنها وقعت محلاً للخلاف عند بعض متأخّري المتأخّرين، ونتج عن ذلك عدّة أقوال، وقد اختار بعضهم عدم شرطيته مطلقاً أو على تفصيل.
وبسبب أهمّية هذه المسألة في الواقع العمليّ والعلميّ كان من المناسب بحثها، وسبر الأقوال فيها، وبيان الراجح منها.
ص: 61
ص: 62
بسم الله الرحمن الرحیم
لا يخفى ما للتشريعات الإلهية من أهمية واضحة في تنظيم الحياة الفردية والجماعية وكفالة السعادة الحقيقية في الدارين, فإنّ النظام الإلهي قد تكفّل إيجاد المواقف الشرعية في كلّ نواحي الحياة، فما من واقعة إلّا ولها حكم كما دلّ الدليل المتصيَّد من الروايات الشريفة(1).
ومن أهمّ هذه الأحكام التي لها مدخلية كبيرة في تنظيم الحياة العامّة، وحفظ المجتمع من الانحراف، وإيجاد الحلول للمشاكل، وإنصاف المظلوم ورد الظالم، هو النظام القضائي الإسلامي, فهو أحد سبل إقامة العدل والقسط بين الناس.
وإنَّ من سمات المجتمع الصالح أن تكتنفه قوانين يُنتصف فيها للمظلوم من الظالم ويؤخذ حقه له, تطبيقاً للنبوي المشهور: (إنَّ الله لا يقدّس أُمَّة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقّه)(2).
ص: 63
وهذا الأمر يدعونا جميعاً إلى إحياء هذا الواجب في كلّ مستوياته سواء على المستوى التنظيري والعلمي من خلال إثراء هذا الباب الفقهيّ بالبحوث والدراسات, أو على المستوى العملي من خلال إعداد أشخاص مؤهّلين لممارسة القضاء الشرعي وإنشاء معاهد ومؤسّسات قضائية ومحاكم شرعية.
ولعلَّ أهمّ عوائق التصدّي للقضاء اليوم هو شرطیة الاجتهاد في القاضي، الأمر الذي منع الكثير من الفضلاء والعلماء غير المجتهدين من التصدي لهذا التكليف.
ونحن من خلال البحث نحاول أنْ نعالج هذه الإشكالية على أحد مستويين يكفينا إثبات أحدهما للخروج من إشكالية امتناع التصدّي لهذا التكليف الإلهي البالغ الأهميّة:
تبني أحد الأقوال التي لا تشترط الاجتهاد المطلق أو المتجزئ في القاضي، كما هو مختار جملة من الأعلام.
البناء على شرطية الاجتهاد المطلق أو المتجزىء في القاضي - كما هو المشهور بين الأعلام قديماً وحديثاً- ولكن فتح التصدّي للقضاء من خلال إيجاد تخريجات فقهية تسوّغ لغير المجتهد التصدّي للقضاء, من خلال التوكيل بالقضاء أو نصب الحاكم الشرعي أو بقاعدة دفع الأفسد بالفاسد أو بقاعدة الميسور أو بولاية عدول المؤمنين أو غيرها من طرق التفصّي من هذا الشرط.
وبذلك ينفتح باب القضاء الشرعي عمليّاً ويكثر القضاة الشّرعيّون في بقاع المعمورة لينشروا العدل في البلاد والعباد.
وفي هذا البحث نسلط الضوء على المستوى الأوَّل فحسب, ونرجئ المستوى الثاني إلى دراسة مستقلّة لعلّنا نوفّق لها إنْ شاء الباري تعالى.
ص: 64
عرض البحث:
وقع الكلام والخلاف في شرطية الاجتهاد في القاضي الشرعي، بعد الفراغ من اشتراط أصل العلم في القاضي, وإنّما الكلام في اشتراط العلم الخاص وهو الاجتهاد، وقد نتج عن ذلك أقوال عدّة, هذا تفصيلها وبيان المختار منها:
ذهب إلى اشتراط الأعلمية صريحاً في القاضي المنصوب بعضُ الفقهاء، منهم أُستاذنا سماحة الشيخ الفياض (دام ظله) وقد أفتى بذلك في رسالته العملية فقال ما نصّه: (الثامن: الاجتهاد... وأمّا في القاضي المنصوب شرعاً، فيعتبر فيه الاجتهاد بل الأعلمية على الأظهر، إلّا المنصوب من قبل الإمام عليه السَّلام أو نائبه كما مرّ)(1).
وقبل الاستدلال له لابدّ من تحديد محلّ النزاع، وما المراد من الأعلم؟ فهل المراد به الأعلم مطلقاً أو في خصوص بلد القضاء؟
وبعبارة أُخرى: هل مراده اعتبار الأعلمية في البلد أو اعتبارها مطلقاً في كل بقاع الأرض فينحصر القاضي المنصوب بالأعلم في الكرة الأرضية کما هو الحال فی تقلید الأعلم؟
ظاهر عبارته الثاني أي الأعلم مطلقاً, وهذا بعيد جداً لاستلزامه انحصار القاضي المنصوب بشخص واحد, وهذا بعيد عن روح تشريع القضاء مع سعة البلاد وكثرة العباد ونزاعاتهم.
ص: 65
و لذا استبعد هذا القول جملة من الأعلام منهم السيد الخوئي (قدس سره) , والظاهر ممّن اشترطها عدم إرادة الأعلمية مطلقاً، وإنّما المراد أعلم من في البلد كما هو واضح في عبارات الأصحاب.
قال (قدس سره) في مباني تكملة المنهاج: (ثمّ إنّه هل تعتبر الأعلميّة في القاضي المنصوب؟ لا ريب ولا إشكال في عدم اعتبار الأعلميّة المطلقة، فإنّ الأعلم في كلّ عصر منحصر بشخص واحد، ولا يمكن تصدّيه للقضاء بين جميع الناس. وإنّما الإشكال في اعتبار الأعلميّة في البلد، فقيل باعتبارها، وهو غير بعيد، وذلك لما عرفت من أنّه لا دليل في المسألة إلّا الأصل، ومقتضاه عدم نفوذ حكم من كان الأعلم منه موجوداً في البلد...)(1).
وقال (قدس سره) في التنقيح: (أمّا الشبهات الموضوعية، كما إذا كان الترافع في أداء الدين وعدمه أو في زوجية امرأة وعدمها أو نحوه، فاعتبار الأعلمية المطلقة في باب القضاء مقطوع العدم لاستحالة الرجوع في المرافعات الواقعة في أرجاء العالم ونقاطه- على كثرتها وتباعدها- إلى شخص واحد وهو الأعلم، كما أنّ التصدّي للقضاء في تلك المرافعات الكثيرة أمر خارج عن طوق البشر- عادة- فمورد الكلام والنزاع إنّما هو اعتبار الأعلمية الإضافية كاعتبار أنْ يكون القاضي أعلم مَنْ في البلد وما حوله - إلى أن قال (قدس سره) - وأمّا الشبهات الحكمية، كما إذا كان منشأ النزاع هو الاختلاف في الحكم الشرعي كالخلاف في أنّ الحبوة للولد الأكبر أو أنّها مشتركة بين الورّاث بأجمعهم أو اختلفا في ملكية ما يشترى بالمعاطاة نظراً إلى أنّها مفيدة للملكية أو للإباحة أو أنّها مفيدة للملك اللازم أو الجائز فيما إذا رجع عن بيعه... ولا نرى أي مانع وقتئذ من الرجوع إلى غير الأعلم، لإطلاق صحيحة أبي خديجة المتقدّمة لصدق أنّه ممّن يعلم شيئاً من
ص: 66
قضاياهم (علیهم السلام). أو كان أحدهما مجتهداً ورأى أنّ الحبوة للولد الأكبر، والآخر قد قلّد مجتهداً يرى أنّها مشتركة، أو كانا مقلّدين وقد قلّد أحدهما من يفتي بالاختصاص والآخر قلّد من يفتي باشتراكها، ففي جميع هذه الموارد لا تنحل الخصومة إلّا بالرجوع إلى حاكم آخر ومقتضى إطلاق الصحيحة عدم اشتراط الأعلمية فيه كما مّر)(1). انتهى كلامه رفع مقامه.
ويمكن أن يستدّل للقول الأول - اشتراط الأعلميّة - بخمسة أدلّة:
ما ورد في عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى مالك الأشتر:
حيث جاء فيه: (اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك...)(2). فإنَّ (أفضل) قد تدل على إرادة أعلم القضاة للحكم بين الناس.
ويمكن المناقشة فيه سنداً ودلالة:
أمّا سنداً: فقد وقع الكلام في سند عهد مالك الأشتر, والصحيح القول باعتباره, إذ لسند عهد الأشتر طريقان:
الطريق الأوَّل: طريق الشيخ الطوسي (قدس سره).
الطريق الآخر: طريق الشيخ النجاشي (رضوان الله علیه).
أمَّا الطريق الأوَّل: طريق الشيخ الطوسي (قدس سره):
أخبرنا بالعهد ابن أبي جيد، عن محمّد بن الحسن، عن الحميري، عن هارون بن مسلم والحسن بن ظريف جميعاً، عن الحسين بن علوان الكلبي، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة.
ص: 67
وقد أُشكل عليه بعدّة إشكالات سنديّة، أهمّها: ورود جمع من الرواة غير المعتمدين أو المجاهيل، وهم: ابن أبي جيد والحسين بن علوان الكلبي وسعد بن طريف والأصبغ ابن نباته.
ويُردّ: بأنَّ هذا الطريق معتبر على الأصحّ لاعتبار كلٍّ من ابن أبي جيد؛ لأنَّه من مشايخ النجاشي, والحسين بن علوان الكلبي وإنْ كان عامياً إلّا أنَّه مقبول الرواية, وسعد بن طريف لا إشكال فيه بعد كلام الشيخ الطوسي فيه(1), وقول النجاشي فيه أنّه يعرف وينكر(2) لا يدل على التضعيف, وأمّا الأصبغ بن نباتة فهو من خاصّة أمير المؤمنين، وهذا يكفي في الوثاقة والجلالة.
أمَّا الطريق الآخر: طريق الشيخ النجاشي (رضوان الله علیه):
أخبرنا ابن الجندي، عن علي بن همام، عن الحميري، عن هارون بن مسلم، عن الحسين بن علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ.
فهذا الطريق معتبر أيضاً وإنْ كان النقاش في ابني همام والجندي إلّا أنّه مدفوع بأنَّ ابن الجندي من مشايخ النجاشي(3)، وأمّا الثاني فلعلّه محرّف عن أبي علي بن همام الثقة كما استظهره الشيخ التستري في قاموسه فقال: (الظاهر كونه محرّفاً عن أبي علي بن همام، وهو محمّد بن همام)(4).
وهو الأرجح فيكون ثقة.
ص: 68
والنتيجة: لا إشكال في ثبوت سند عهد مالك الأشتر ولو بطريق مقبول.
وأمّا دلالةً: فإنَّ كلمة (أفضل) الواردة في العهد لا تفيد كلمة أعلم كي يتمّ الاستدلال، وإذا نظرنا إلى سياق الرواية نراها تفسّر الأفضل بشيء آخر ليست الأعلمية مأخوذة فيه، بل أمور أخرى كما هو ظاهر النص: قال (علیه السلام): (ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلّة، ولا يحصر من الفي ء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشّف الأمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل...)(1).
بالإضافة إلى أنّنا لو سلّمنا اشتراط الأعلم من هذا النصّ فإنَّه الأعلم في البلد، وليس الأعلم مطلقاً كما هو ظاهر هذا القول، على أنّ اشتراط الأعلمية ممّا لا يمكن المساعدة عليه كما سيتّضح.
التمسّك بفكرة القدر المتيقّن التي تمسّك بها بعض الأعلام كأستاذ أساتذتنا السيد الخوئي (قدس سره) لاشتراط الاجتهاد في القاضي(2), فقد يقال بسريانها إلى اشتراط الأعلمية في القاضي.
ولكن يمكن أن يُجاب: بأنَّه لا تصل النوبة إلى التمسّك بالقدر المتيقّن مع وجود دليل على نفي الأعلمية أو الاجتهاد في القاضي, وهذا يتبيّن من مجموع الأقوال والأدلّة والنقوض - كما سيتّضح من وجود ما يدل على نفي الأعلمية من رأس - فلا نرجع إلى
ص: 69
القدر المتيقّن إلّا بعد فقدان الدليل النافي لها كالأدلة الخاصّة أو الإطلاقات أو العمومات.
مقبولة عمر بن حنظلة، حيث ورد فيها: (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما..)(1). حيث إنّ الرواية صرّحت بأنّ المعتبر هو ما حَكَمَ به (أفقههما) الذي هو عبارة أُخرى عن (أعلمهما).
ویمکن أن يرد عليها:
أوّلاً: أنّ الرواية لو تمّت سنداً ودلالة فلا تدلّ على اشتراط الأعلم مطلقاً - كما يذهب إليه هذا القول - وإنّما تدلّ على الأعلمية في البلد فحسب.
ثانياً: أنّ المقبولة ضعيفة السند فلا يتمّ الاستدلال بها، لعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة.
ولكن هذه المناقشة مبنائية فإنّ هناك من يرى حجّية سندها - وهو الصحيح - كما سيأتي تفصيل ذلك.
ثالثاً: أنَّها واردة في الشبهات الحكمية التي يكون المرجع فيها مع التشاح والاختلاف هو الأفقه، فلا تعمّ الشبهات الموضوعية.
رابعاً: إنّ الرواية وردت في مقام التشاح بين حكم حاكمين لا أنّ الذهاب الابتدائي كان إلى أحدهما الذي هو محل البحث.
فلا يتمّ هذا الدليل أيضاً.
معتبرة داود بن الحصين عن أبي عبد الله (علیه السلام) في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين، فاختلف
ص: 70
العدلان بينهما، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال: (ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر)(1).
ویمکن أن يرد عليها:
أمّا دلالةً: فإنَّ الرواية وإنْ أمكن سلامتها من الإشكال السندي - کما سيتّضح - إلّا أنّ الإيرادات الدلالية الأُخرى في الرواية السابقة واردة عليها، فلا تتمّ.
وأمّا سنداً: ففیها داود بن الحصين الواقفي(2).
وهذا لا يضرّ بعد أنْ ثبتت وثاقته, قال الشيخ النجاشي: (داود بن حصين الأسدي مولاهم، كوفي، ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (علیهما السلام)، وهو زوج خالة علي بن الحسن بن فضال، كان يصحب أبا العباس البقباق) (3).
بالإضافة لرواية الأجلّاء عنه الذين لا يروون إلّا عن ثقة كصفوان بن يحيى(4) وأحمد بن محمد بن أبي نصر(5) وغيرهما.
وفيها الحسن بن موسى الخشّاب: ويمكن قبول روايته لثناء الشيخ النجاشي عليه, حيث قال: (من وجوه أصحابنا، مشهور، كثير العلم والحديث...)(6), بالإضافة إلى رواية الأجلّاء عنه كعلي بن إبراهيم وسعد بن عبد الله والصفّار وغيرهم.
ص: 71
حسنة موسى بن أكيل عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سُئِل عن رجل يكون بينه وبين أخٍ له منازعة في حقّ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما، فحكما، فاختلفا فيما حكما، قال: وكيف يختلفان؟ قال: (حكم كلُّ واحدٍ منهما للذي اختاره الخصمان، فقال: ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه)(1).
ويرد عليها:
أمّا دلالةً فیرد عليها ما أُورد على الدليل الثالث - مقبولة عمر بن حنظلة -.
وأمّا سنداً فلا إشكال فيها إلّا بذبيان بن حكيم، حيث لم يرد فيه تضعيف ولا توثيق، وقد ذهب المشهور إلى ضعفه إلّا أنَّ الأقوى حسنه؛ لأنّه من المعاريف والرواة المشهورين کما استظهره السيد الخوئي (قدس سره) من كلام النجاشي(2)، إضافة إلى رواية بعض الأجلّاء عنه كمحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب والحسن بن علي بن فضّال، فیورث ذلك الاطمئنان بقبول روايته.
والحاصل: أنّه قد اتّضح ممّا تقدَّم عدم اعتبار ما يدلّ على شرطية الأعلمية في القضاء مطلقاً.
اشتراط الاجتهاد إمّا بنحو الإطلاق كما هو صريح بعضهم كالمسالك(3) وغيره، أو بنحو التجزئ كما عن بعضٍ آخر كالمحقق الأردبيلي وغيره كما سيأتي.
والقول باشتراط الاجتهاد هو ما ذهب إليه مشهور الفقهاء قديماً وحديثاً بل ادُّعي
ص: 72
في بعض كلماتهم الإجماع والتسالم عليه.
ونورد جملةً من كلمات الفقهاء:
1. قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف: (لا يجوز أن يتولّى القضاء إلّا من كان عارفاً بجميع ما ولي، ولا يجوز أن يشذّ عنه شي ء من ذلك، ولا يجوز أن يقلّد غيره ثمّ يقضي به. وقال الشافعي: ينبغي أن يكون من أهل الاجتهاد ولا يكون عامياً، ولا يجب أن يكون عالماً بجميع ما وليه، وقال في القديم مثل ما قلناه. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يكون جاهلاً بجميع ما وليه إذا كان ثقة ويستفتي الفقهاء ويحكم به، ووافقنا في العامي أنّه لا يجوز أن يفتي)(1).
2. وقال (قدس سره) أيضاً في النهاية: (وليس يثق أحد بذلك من نفسه حتّى يكون عاقلاً، كاملاً، عالماً بالكتاب وناسخه ومنسوخه، وعامِّه وخاصِّه وإيجابه، ومحكمِه ومتشابهه، عارفاً بالسنّة وناسخها ومنسوخها، عالماً باللّغة مضطلعاً بمعاني كلام العرب، بصيراً بوجوه الإعراب)(2).
3. قال أبو الصلاح الحلبي (قدس سره): (العلم بالحقّ في الحكم المردود إليه، والتمكّن من إمضائه على وجهه - إلى أن قال - واعتبرنا العلم بالحكم لما بيّناه من وقوف صحّة الحكم على العلم، لكون الحاكم مخبراً بالحكم عن الله سبحانه، نائباً في إلزامه عن رسول الله)(3).
4. قال ابن البراج (قدس سره): (والقضاء لا ينعقد للقاضي إلّا بأن يكون من أهل العلم والعدالة والكمال، وكونه عالماً بأنْ يكون عارفاً بالكتاب والسنّة والإجماع والاختلاف
ص: 73
ولسان العرب)(1).
5. قال ابن إدريس (قدس سره): (وليس يثق أحد بذلك من نفسه حتّى يكون عاقلاً، عالماً بالكتاب وناسخه ومنسوخه...)(2).
6- قال المحقّق الحلّي (قدس سره): (وكذا لا ينعقد لغير العالم المستقل بأهلية الفتوى، ولا يكفيه فتوى العلماء، ولا بد أن يكون عالماً بجميع ما وليه)(3).
7 - قال العلّامة (قدس سره): (ولا لغير العالم المستقلّ بأهليّة الفتوى البالغ رتبة الاجتهاد)(4).
8 - قال الشهید الثاني (قدس سره) معلّقاً على عبارة الشرائع: (المراد بالعالم هنا (الفقيه) المجتهد في الأحكام الشرعيّة، وعلى اشتراط ذلك في القاضي إجماع علمائنا. ولا فرق بين حالة الاختيار والاضطرار، ولافرق فيمن نقص عن مرتبته بين المطّلع على فتوى الفقهاء وغيره. والمراد بكونه عالماً بجميع ما وليه كونه مجتهداً مطلقاً، فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعض على القول بتجزّي الاجتهاد)(5).
9 - قال صاحب الجواهر (قدس سره) - ناقلاً لا متبنّیاً -: (وكذا لا ينعقد لغير العالم المستقل بأهلية الفتوى، ولايكفيه فتوى العلماء بلا خلاف أجده فيه، بل في المسالك وغيرها الإجماع عليه من غير فرق بين حالتي الاختيار والاضطرار، بل لا بدَّ أنه يكون عالماً بجميع ما وليه أي مجتهداً مطلقاً كما في المسالك، فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام
ص: 74
دون بعض. على القول بتجزي الاجتهاد)(1).
10 - قال السيد الیزدي (قدس سره): (الاجتهاد، فلا ينفذ قضاء غير المجتهد، وإن بلغ من العلم والفضل ما بلغ، للإجماع كما عن جماعة...)(2).
وهذه الأقوال تشترط الاجتهاد في القاضي، فلا يكتفى لممارسة القضاء بالعلم لا عن اجتهاد واستنباط مستقل.
وهذا الاشتراط إمّا بنحو الاجتهاد المطلق، أو بنحو المتجزئ فيكون القضاء بخصوص ما اجتهد فيه.
ما استدلّ به لهذا القول ومناقشته:
الإجماع على شرطية الاجتهاد في القاضي, وقد حكاه غير واحد من الأعلام المتقدّمين آنفاً، كما هو واضح من كلام صاحب المسالك وغيره.
ويرد عليه:
أوّلاً: أنّ هذا الإجماع غير تامٍ؛ لذهاب بعض المتقدّمين إلى عدم شرطية الاجتهاد، بل كفاية الحكم ولو عن تقليد ما دام نابعاً من فقه آل البيت (علیهم السلام) , قال في الجواهر: (وأمّا دعوى الإجماع التي قد سمعتها فلم أتحقّقها، بل لعل المحقَّق عندنا خلافها، خصوصا بعد أن حكى في التنقيح عن المبسوط في المسألة أقوالاً ثلاثة أوّلها جواز كونه عامياً ويستفتي العلماء ويقضي بفتواهم ولم يرجح، ولعلّ مختاره الأوَّل مع أنّه أسوأ حالاً ممّا
ص: 75
ذكرناه...)(1).
وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره): (فما نسبه بعض إلى صاحب المسالك، من دعواه الإجماع في المقام على اعتبار كون القاضي مجتهداً مطلقاً محلّ نظر يظهر لمن لاحظ عبارة المسالك، كما أنّ ما فهمه صاحب المسالك من قول المحقّق في الشرائع: (و لا بدّ أن يكون عارفاً بجميع ما وليه) من اعتبار الاجتهاد المطلق في القاضي أيضاً محلّ تأمّل، ولذا عبّر بهذه العبارة المصنّف في القواعد والتحرير مع قوله بالتجزّي مع أنّ المعرفة الفعليّة بجميع المسائل غير ميسّر غالباً وإرادة العلم بالقوّة لعلّه خلاف الظاهر)(2).
وما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه لتصريح الشهيد في المسالك بشرطية الاجتهاد المطلق في القاضي, وكذلك ظاهر الشرائع اشتراط ذلك كما مرّ عند ذكر عبارتيهما (قدس سرهما).
ثانياً: أنّ هذا الإجماع مدركي أو محتمل المدركيّة فلا حجّيّة فيه, وإنّما الحجّيّة في مدركه كالروايات وغيرها، وسيأتي التعرّض لها تفصيلاً.
استدلّ على شرطية الاجتهاد في القاضي بعدّة روايات, منها:
صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال، قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): (إيّاكم أنْ يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً،
ص: 76
فتحاكموا إليه)(1).
قال السید الخوئي (قدس سره): (لدلالتها على أن جواز القضاوة ومشروعيتها تحتاج إلى جعلهم وإذنهم (علیهم السلام) وقد مرّ أنّ المتيقّن هو الإذن لمن له أهليّة القضاء...)(2).
ويمكن أن یرد على الاستدلال بها:
أنّ هذه الرواية دليل على عدم اشتراط الاجتهاد، لا أنّها دليل على شرطية الاجتهاد؛ لأنَّها ذكرت كفاية العلم ببعض القضايا للتصدّي للقضاء، ولم تشترط العلم الخاص - وهو الاجتهاد - بل كفاية العلم ببعض قضاياهم، وإنْ كانت من الرواة الذين لم يكونوا مجتهدين بالمعنى المتعارف اليوم من الاجتهاد, فالعلم ببعض قضاياهم أو قضائهم لا ينحصر بالعلم الاجتهادي بل يشمل العلم عن تقليد, خصوصاً وأنّ الخبروية الموضوعية لها أهمّية في التقاضي، فرُبَّ شخص ليس مجتهداً ولكن لديه ذكاء في تشخيص الموضوعات وتمييز الصادق من الكاذب وأخذ الإقرارات وغيرها، ويقلّد في الحكم، ويقضي بين الناس، يكون أبرع من مجتهد ليس لديه خبرة موضوعية.
فالعلم بشيء من قضاياهم لا ينحصر بمن وصل إلى مرتبة الاجتهاد، بل إنّ إطلاق الرواية شامل لمطلق العلم بقضاياهم، سواء عن اجتهاد أو تقليد ما دام نابعاً من فقه آل البيت (علیهم السلام).
ويشهد لما ذكرناه ما قاله صاحب الجواهر (قدس سره): (أنّه لا ريب في اندراج من سمع منهم (علیهم السلام) أحكاماً خاصّة - مثلاً - وحكم فيها بين الناس وإنْ لم يكن له مرتبة الاجتهاد والتصرّف.
ص: 77
قال الصادق (علیه السلام) في خبر أبي خديجة: (إيّاكم أنْ يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه) بناءً على إرادة الأعم من المجتهد منه، بل لعلّ ذلك أولى من الأحكام الاجتهادية الظنّية، بل قد يُقال باندراج مَنْ كان عنده أحكامهم بالاجتهاد الصحيح أو التقليد الصحيح وحكم بها بين الناس كان حكماً بالحق والقسط والعدل)(1).
وما ذكره أُستاذ أساتذتنا السيد الخوئي (قدس سره)، حيث قال: (إنّ الرواية غير ناظرة إلى نصب القاضي ابتداءً، وذلك لأنّ قوله (علیه السلام): (فإنّي قد جعلته قاضياً) متفرّع على قوله (علیه السلام): (فاجعلوه بينكم) وهو القاضي المجعول من قبل المتخاصمين، فالنتيجة: أنّ المستفاد منها أنّ من جعله المتخاصمان بينهما حَكَماً هو الذي جعله الإمام (علیه السلام) قاضياً، فلا دلالة فيها على نصب القاضي ابتداءً)(2). لا یمکن المساعدة عليه، إذ إنّ ظاهر الرواية لا يتلاءم مع جعل قاضي التحكيم، لأنّ ظاهر عبارة الإمام (علیه السلام) (قد جعلته قاضياً) هو النصب للقضاء, فما الفرق بين عبارة الإمام (علیه السلام) في هذه الرواية وعبارته (علیه السلام) في رواية عمر بن حنظلة (قد جعلته عليكم حاكماً...) حيث حمل العبارة الأُولى على قاضي التحكيم والثانية على القاضي المنصوب؟
معتبرة عُمر بن حَنظلة قال سأَلتُ أَبا عبد الله (علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القُضاة أيحلّ ذلك؟ قال: (من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنَّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يَحكم له فإنَّما يأخُذ سُحتاً وإنْ كان حقّاً ثابتاً؛ لأنّه أَخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أنْ يُكفر به، قال الله
ص: 78
تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ﴾(1)). قلت: فكيف يصنعان؟ قال: (ينظران إلى مَنْ كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً...)(2).
استُدلَّ بها على شرطية الاجتهاد في القاضي. وقد نوقش فيها من جهتين:
الجهة الأولى: سند الرواية.
الجهة الأخرى: دلالة الرواية.
أمّا الجهة الأولى: فإنّ رجال السند ثقات - إلّا عمر بن حنظلة - وكون داود بن الحصين واقفياً لا يضر بعد التوثيق الصادر بحقّه. وأمَّا عمر بن حنظلة فلم يرد فيه توثيق ولا تضعيف من الرجاليين, ومن ثمّ ذهب بعض الأعلام إلى تضعیفه کالسيد الخوئي في رجاله(3), وذهب بعضٌ آخر إلى وثاقته كالشهيد الثاني(4) وابنه(5) وغيرهما, والصحيح البناء على وثاقته لوجوه تشكّل مجتمعةً قرينة على ذلك, وهي:
إنّه من وجوه الطائفة وفقهائها، فهو على وزان محمّد بن مسلم وزرارة، كما تشهد بذلك عدّة روايات مهمّة يرويها عن الأئمّة (علیهم السلام) في أبواب شتى مع كثرة عددها ودقة مضامينها.
وجود روايات عديدة تمدحه وتبيّن جلالته:
ص: 79
منها: ما في العوالم نقلاً عن أعلام الدين من كتاب الحسين بن سعيد، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) لعمر بن حنظلة: (يا أبا صخر، أنتم والله على ديني ودين آبائي، وقال والله لنشفعن، والله لنشفعن - ثلاث مرّات - حتى يقول عدونا: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم)(1).
ومنها: ما في بصائر الدرجات للصفار بسنده عن داود بن أبي يزيد عن بعض أصحابنا عن عمر بن حنظلة فقال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام) إنّي أظن أنّ لي عندك منزلة، قال: (أجل)، فقلت: فعلّمني الاسم الأعظم، قال: (أتطيقه؟). قلت: نعم... الحديث(2).
رواية الوقت الدالة على مدحه: عن يزيد بن خليفة: (قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أَبو عبد الله (علیه السلام): إذاً لا يكذب علينا...)(3).
وسند الرواية تام، وكون يزيد بن خليفة الواقفي - كما ادّعاه الشيخ الطوسي (قدس سره) - في طريقها لا يضرّ؛ لرواية ثلاثة من أصحاب الإجماع عنه، وبعض الأجلّة كيونس, بالإضافة إلى روايات قد يظهر منها اهتمام الإمام الصادق (علیه السلام) به، منها ما عن النضر بن سويد، رفعه قال: دخل على أبي عبد الله (علیه السلام) رجل يقال له يزيد بن خليفة، فقال له: (مَن أنت؟), فقال: مِن بلحارث بن كعب، قال، فقال أَبو عبد الله (علیه السلام): (ليس من أهل بيت إِلَّا وفيهم نجيب أو نجيبان، وأنت نجيب بلحارث بن كعب)(4).
ص: 80
وهذه القرائن ممّا تفيد الاطمئنان بحسن حاله على أقل التقادير.
رواية جماعة كثيرة عنه من الأجلّاء وأصحاب الإجماع ممّن أجمعت العصابة على تصديقهم والانقياد لهم بالفقه وتصحيح ما يصحّ عنهم، وهم: زرارة بن أعين ومحمّد بن مسلم وعبد الله بن مسكان وعبد الله بن بكير, فقد ذكر الوحيد البهبهاني (رحمة الله) في التعليقة: أنّ رواية جماعة من الأصحاب عن شخصٍ أو رواية كتابه من أمارات الاعتماد عليه(1).
عمل الأصحاب برواياته وتلقّيها بالقبول خصوصاً المقبولة التي نحن بصددها.
رواية ابن أبي عمير(2) وصفوان بن يحيى عنه (3)، وهما لا يرويان إلّا عن ثقة كما في تقريرات بعض الأعلام(4)، وهو الصحيح. ومنه يظهر النظر فيما ذكره بعض الباحثين(5).
فالصحيح الاعتماد على رواية ابن حنظلة وفاقاً لجملة من الأعلام(6).
ومع عدم قبول روايته يمكن التعويل على هذه الرواية من جهة جبرها بعمل
ص: 81
المشهور - كما هو الصحيح - وتلقّيهم لها بالقبول والتسالم إذ جعلوها من أهم روايات القضاء.
أوّلاً: إنّ العلم المأخوذ في الرواية ليس المراد به العلم الاجتهادي بل مطلق العلم المأخوذ عن الأئمّة (علیهم السلام) وإنْ لم يكن مستنبطاً, فاعتبار الاجتهاد شرطاً لا يتمّ؛ لأنّ العام لا يدلّ على الخاص, وقرينة ذلك أنَّ الذين أرسلهم الإمام إلى البلدان لم يكونوا مجتهدين بالاجتهاد المتعارف اليوم، بل كانوا قد سألوا الإمام وعرفوا الأحكام من جوابه بلا اجتهاد واستنباط, فمعتبرة ابن حنظلة لا دلالة فيها على الاجتهاد، بل لعلّ دلالتها على عدم الاشتراط أوضح، فتأمل.
ثانياً: إنّ معتبرة ابن حنظلة مقيّدة بصحيحة أبي خديجة المتقدّمة؛ لأنَّها ذكرت كفاية العلم ببعض القضايا - يعلم شيئاً من قضايانا - للتصدّي للقضاء, ولم تشترط العلم الخاص - وهو الاجتهاد - بل اكتفت بالعلم ببعض قضاياهم وإنْ كان الحكم صادراً من الرواة الذين لم يكونوا مجتهدين بالمعنى المتعارف اليوم من الاجتهاد, فالعلم ببعض قضاياهم أو قضائهم لا ينحصر بالعلم الاجتهادي بل يشمل العلم عن تقليد.
ثالثاً: إنّ الظهور الأولي من قوله: (قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أَحكامنا) هو شرطية العلم فحسب، لا العلم الخاص - وهو الاجتهاد - إذ لم يكن مألوفاً لديهم كما هو اليوم, وأنّ العلم ليس له موضوعية وإنّما هو مأخوذ بنحو الطريقية.
فالصحيح وفاقاً للمحقّق الأردبيلي والشيخ صاحب الجواهر عدم شرطية الاجتهاد المطلق.
ص: 82
صرّح بجواز التجزّي جماعةٌ، منهم المحقّق الأردبيلي (رحمة الله)، حيث قال: (ثمّ إنّ الظاهر جواز ما يجوز للمجتهد الكلّ للجزء إذ الظاهر جواز التجزّي كما هو مذهب المصنّف وبعض المحقّقين)(1).
ومنهم الشيخ الأنصاري (قدس سره)، حيث قال: (وحينئذٍ فلا يبعد استظهار صحّة التجزّي من هذا الكلام مع اعتبار المعرفة الفعليّة وعدم كفاية القوّة)(2).
ولكن ما ذهبوا إليه لا يمكن المساعدة عليه؛ لعدم دلالة الأدلة التي ذكروها على ذلك, إذ إنَّها أدلّة اشتراط الاجتهاد المطلق نفسها, وقد مرّت المناقشة في دلالتها, وسيأتي - عند بيان المختار - ما يدلّ على أنّ الظاهر منها هو نفي الاجتهاد مطلقاً، وكفاية العلم بالحكم وأنْ يكون القضاء بالحق والعدل، لا بالباطل والجور، بشرط أنْ يکون عن معرفة بالأحکام الشرعية ولو تقليداً مع قدرته على التطبيق.
اشتراط مطلق العلم وإنْ لم يكن عن اجتهاد كما لو كان عن تقليد.
التفصيل بين منصب القضاء فيشترط الاجتهاد وفعل القضاء فلا يشترط.
وقد فصّل الكلام في القولين الشيخ صاحب الجواهر (قدس سره) حيث ذكر كلا القولين - أي الثالث والرابع - وانتصر لهما وإنْ كان آخر كلامه ترجيح ثانيهما, ولأجل الفائدة من جواهر الجواهر ننقل أكثر عبارته فی المقام حيث ردّ على من اشترطَ الاجتهاد في
ص: 83
القاضي بما نصّه: (قلت قد يقال: إنّ المستفاد من الكتاب والسنة صحّة الحكم بالحق والعدل والقسط من كلّ مؤمن... - ثُمَّ ذكر مجموعة من الآيات والروايات -... إلى غير ذلك من النصوص البالغة بالتعاضد أعلى مراتب القطع الدالّة على أنّ المدار الحكم بالحق الذي هو عند محمّد وأهل بيته (علیهم السلام)، وأنّه لا ريب في اندراج من سمع منهم (علیهم السلام) أحكاماً خاصّة مثلاً وحكم فيها بين الناس وإنْ لم يكن له مرتبة الاجتهاد والتصرّف).
ثُمّ قيّد هذا الإطلاق في الآيات والروايات، قائلاً: (نعم, قد يقال بتوقّف صحّة ذلك على الإذن منهم (علیهم السلام) لقول الصادق (علیه السلام) في خبر سليمان بن خالد: (اتقّوا الحكومة، إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين: نبي أو وصي)... وغير ذلك ممّا يقتضي توقّف صحّة الحكم وترتّب أثره عليه على الإذن والنصب، فتُقّيد تلك الآيات والنصوص بذلك أو تحمل على إرادة الأمر بالمعروف ونحوه ممّا ليس فيه قضاء وفصل).
ثمّ استدرك قائلاً: (اللهم إلّا أنْ يقال بأنّ النصوص دالّة على الإذن منهم (علیهم السلام) لشيعتهم المتمسّكين بحبلهم، الحافظين لأحكامهم في الحكم بين الناس بأحكامهم الواصلة إليهم بقطع أو اجتهاد صحيح أو تقليد كذلك، فإنّهم العلماء وشيعتهم المتعلّمون وباقي الناس غثاء).
ثم ترقّى في عدم ما يدلّ على الشرطية مطلقاً - وهو القول الثالث - قائلاً: (بل قد يدّعى أنّ الموجودين في زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ممّن أُمر بالترافع إليهم قاصرون عن مرتبة الاجتهاد وإنّما يقضون بين الناس بما سمعوه من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، فدعوى قصور من علم جملة من الأحكام مشافهة أو بتقليد لمجتهد عن منصب القضاء بما علمه خالية عن الدليل، بل ظاهر الأدلّة خلافها، بل يمكن دعوى القطع بخلافها، ونصب خصوص المجتهد في زمان الغيبة بناء على ظهور النصوص فيه لا يقتضي عدم جواز نصب الغير.
ص: 84
وحينئذ تظهر ثمرة ذلك بناء على عموم هذه الرئاسة أنّ للمجتهد نصب مقلّده للقضاء بين الناس بفتاواه التي هي حلالهم وحرامهم، فيكون حكمه حكم مجتهده وحكم مجتهده حكمهم، وحكمهم حكم الله تعالى شأنه، والرادّ عليه رادّ على الله تعالى).
ثُمّ ردّ دعوى الإجماع قائلاً: (وأمّا دعوى الإجماع التي قد سمعتها فلم أتحقّقها، بل لعلّ المحقَّق عندنا خلافها، خصوصاً بعد أن حكى في التنقيح عن المبسوط في المسألة أقوالاً ثلاثة أوّلها جواز كونه عامياً ويستفتي العلماء ويقضي بفتواهم ولم يرجّح، ولعل مختاره الأوَّل مع أنّه أسوأ حالاً ممّا ذكرناه، ضرورة فرضه عامياً حين نصبه ثُمَّ يستفتي بعد ذلك، مع ظهور الأدلّة في اعتبار كونه عالماً بما وليه حين التولية ولو بالتقليد بناءً على ما ذكرناه من كون فتاوى المجتهد أحكامهم).
ثُمَّ ذكر التّفصيل بين القضاء كمنصب والقضاء كفعل وبيان للفتوى: (فالقضاء حينئذ بها خصوصاً إذا قلنا إنّ القضاء في زمن الغيبة من باب الأحكام الشرعية لا النصب القضائي وإنّ ذلك هو المراد من قوله (علیه السلام): (جعلته قاضياً وحاكماً) فإنّ الفصل بها حينئذ من المقلّد كالفصل بها من المجتهد، إذ الجميع مرجعه إلى القضاء بين الناس بحكم أهل البيت، والله العالم). انتهى كلام الجواهر(1).
أقول: إنّ كلام الجواهر في غاية الجودة, فلا يشترط الاجتهاد بالمعنى المتعارف اليوم في القاضي خصوصاً في القاضي الذي هو مبيّن للفتاوى فحسب، فهو والمجتهد سواء من هذه الناحية، خصوصاً إذا توفّرت الخبرة الموضوعية, أمّا القضاء كمنصب فلا يسوغ للمقلّد, وسيأتي ترجيح هذا القول مع مزيد بيان في المختار.
ص: 85
التفصيل بين قاضي التحكيم فلا يشترط فيه الاجتهاد وبين القاضي المنصوب فيشترط فيه.
وهو ما ذهب إليه جمعٌ من الفقهاء منهم أستاذ أساتذتنا السيد الخوئي (قدس سره) في مباني تكملة المنهاج: واستدلّ عليه مفصّلاً بما نصّه: (أمّا القاضي المنصوب: فيعتبر فيه الاجتهاد بلا خلاف ولا إشكال بين الأصحاب، وذلك لأنّ القضاء كما عرفت واجب كفائي، لتوقّف حفظ النظام عليه، ولاشكّ في أنّ نفوذ حكم أحد على غيره إنّما هو على خلاف الأصل، والقدر المتيقّن من ذلك هو نفوذ حكم المجتهد، فيكفي في عدم نفوذ حكم غيره الأصل، بعد عدم وجود دليل لفظي يدلّ على نصب القاضي ابتداءً ليتمسّك بإطلاقه).
ثُمّ ذكر السيد (قدس سره) أدلة الاشتراط وقد مرّ الكلام فيه, ثُمَّ قال (قدس سره): (وأمّا قاضي التحكيم: فالصحيح أنّه لا يعتبر فيه الاجتهاد خلافاً للمشهور، وذلك لإطلاق عدّة من الآيات, منها قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(1), ولإطلاق الصحيحة المتقدّمة، وإطلاق صحيحة الحلبي، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): (ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء فيتراضيان برجلٍ منا، فقال: ليس هو ذاك، إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط)، وغير ذلك من الروايات)(2). انتهى كلام السيد الخوئي (قدس سره).
ص: 86
أقول: الأمر كما أفاد (قدس سره)، فلا دليل واضح على اشتراط الاجتهاد في قاضي التحكيم, أمّا قاضي التنصيب فتبيّن ممّا مرّ نفي ما يدل على شرطيته، وفكرة القدر المتيقّن التي تمسّك بها (قدس سره) قد أجبنا عنها.
القول المختار: ما ذهب إليه بعضُ الأعلام منهم صاحب الجواهر والنراقي والقمّي وبعض المعاصرين(1) من عدم شرطية الاجتهاد في القاضي.
ويمكن بيان أدلّة المختار إجمالاً في ضمن نقاط ثلاثة:
الأولى: إطلاقات وعمومات أدلّة الحكم والقضاء، سواء من الآيات والروايات الجاعلة لمناط الحكم، والتقاضي هو معرفة الأحكام وتطبيقها كفعل على أرض الواقع لا بعنوان النصب بشرط تحقيق العدل والحكم به, منطوقا كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(2), ومفهوماً کما فی قوله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾(3).
الثانية: إطلاق الروايات كصحيح أبي خديجة، ومعتبر ابن حنظلة, بل لعلّهما قد دلّا على عدم شرطية الاجتهاد كما قرّبنا ذلك بأنّه العلم بشيء من قضاياهم التي لا يفهم منها الاجتهاد.
الثالثة: إنّ العلم المأخوذ في الروايات ليس المراد به العلم الاجتهادي بل مطلق العلم المأخوذ عن الأئمّة
(علیهم السلام) وإنْ لم يكن مستنبطاً, فاعتبار الاجتهاد شرطاً لا يتمّ؛ لأنّ
ص: 87
العام لا يدلّ على الخاص, وقرينة ذلك أنّ الذين أرسلهم الإمام إلى البلدان لم يكونوا مجتهدين بالاجتهاد المتعارف اليوم بل كانوا قد سألوا الإمام وعرفوا الأحكام من جوابه بلا اجتهاد واستنباط.
وبعبارة أُخرى: إنّ الاجتهاد بالمعنى المعروف بيننا لم يكن معروفاً في عهد الأئمّة (علیهم السلام) لأنَّ الاجتهاد بهذه الخصوصيّة قد حدث في زمن الغيبة لدواعٍ مختلفة، فكيف يمكن أن يقال: إنّ الأحاديث ناظرة إلى ذلك الاجتهاد وهو غير معروف عند المخاطبين! والشاهد عليه نصبهم (علیهم السلام) عدداً كبيراً من القضاة خصوصاً في زمن أمير المؤمنين (علیه السلام) ولم يكونوا مجتهدين ولا متجزّئين.
ويؤيّد الأدلة الثلاثة ظاهر بعض الروايات كرواية عبد الله بن طلحة وغيره من إمضاء الحكم القضائي الصادر منهم لغير المجتهدين, ففي خبر عبد اللّه بن طلحة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سألته عن رجل سارق دخل على امرأة ليسرق متاعها فلمّا جمع الثياب تابعته نفسه فكابرها على نفسها فواقعها، فتحرّك ابنها فقام فقتله بفأس كان معه... فقال أبو عبد الله (علیه السلام): اقض على هذا كما وصفت لك...)(1).
وخبر الحلبي، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): (ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء فيتراضيان برجل منّا، فقال: ليس هو ذاك، إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط)(2).
وقد جعلنا هذه النقطة الرابعة مؤيّداً لما اخترناه وليس دليلاً لضعف الروايتين سنداً. والمتحصّل من جميع ما تقدّم عدم نهوض دليل واضح من الكتاب أو السنّة أو الإجماع
ص: 88
على شرطية الاجتهاد - بالمعنى المتعارف اليوم - في القاضي, لا مطلقاً ولا متجزئاً.
نعم، لا بدّ في القاضي من العلم بالحكم الشرعي تفصيلاً والإحاطة - ولو تقليداً - بالأبواب الفقهية التي لها مدخلية في القضاء كباب الديات والحدود والشهادات والقصاص، وإن كان اشتراط الاجتهاد أحوط من باب الخبروية العلمية للوصول إلى الواقع أكثر من غير المجتهد.
فالمختار هو عدم اشتراط الاجتهاد في فعل القضاء بتطبيق الفتوى، أمّا المنصب فمقتضى الاحتياط اشتراط الاجتهاد فيه لعنوان النَصب الوارد في الروايات الظاهر باعتبار الاجتهاد فيه، كما في اعتباره في منصب الإفتاء والولاية.
والحمد لله أوّلاً وآخراً.
* * *
ص: 89
القرآن الكريم.
1. الأبواب (رجال الطوسي): شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ )، تحقيق: جواد القيّومي الأصفهاني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقمّ المشرفة، سنة الطبع: رمضان المبارك 1415ﻫ.
2. اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ )، تصحيح وتعليق: مير داماد الأسترابادي، تحقيق: السيد مهدي رجائي, الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث, المطبعة: بعثت - قمّ, سنة الطبع: 1404ﻫ.
3. الاستبصار: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460 ﻫ ) تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران، ط4، مطبعة خورشيد، سنة الطبع 1363.
4. أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق: أبحاث الشيخ مسلم الداوري، بقلم: الشيخ محمد علي المعلم، الطبعة الأولى - 1416 ﻫ، المطبعة: نمونه.
5. بصائر الدرجات: أبو جعفر محمد بن الحسن الصفار (ت 290ﻫ )، تحقيق: الحاج ميرزا حسن كوجه باغي، الناشر: منشورات الأعلمي - طهران، المطبعة: مطبعة الأحمدي - طهران، سنة الطبع: 1404ﻫ.
6. تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية: أبو منصور الحسن بن يوسف الحلي (قدس سره) (العلامة الحلي) (ت726ﻫ )، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، إشراف: الشيخ
ص: 90
جعفر السبحاني، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام)، ط1، المطبعة: اعتماد - قم، سنة الطبع: 1420ﻫ.
7. تهذيب الأحكام: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ )، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، الناشر دار الكتب الإسلامية - طهران، مطبعة: خورشيد.
8. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: الشيخ محمد حسن النجفي (قدس سره) (صاحب الجواهر)(ت 1266ﻫ )، تحقيق وتعليق: الشيخ عباس القوجاني، الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران، ط2، مطبعة: خورشيد، سنة الطبع: 1365 ﻫ.
9. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: الشيخ يوسف البحراني (قدس سره) (ت1186 ﻫ)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
10. الخلاف: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ )، تحقيق: جماعة من المحققين، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، سنة الطبع: جمادى الآخرة 1407 ﻫ.
11. الرعاية في علم الدراية: الشيخ زين الدين بن علي العاملي (قدس سره) (الشهيد الثاني)(ت 965ﻫ )، تحقيق: عبد الحسين محمد علي بقال، الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي - قم المقدسة، ط: الثانية، المطبعة: بهمن، سنة الطبع: 1408ﻫ.
12. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: أبو جعفر بن منصور الحلي (قدس سره) (ابن إدريس) (ت 598 ﻫ )، تحقيق: لجنة التحقيق، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين - قم المشرفة، ط2، مطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي، سنة الطبع 1410ﻫ.
ص: 91
13. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام: أبو القاسم الشيخ جعفر بن الحسن الحلي (قدس سره) (المحقق الحلي) (ت676ﻫ )، تعليق: السيد صادق الشيرازي، الناشر: انتشارات استقلال، طهران - ناصر خسرو، حاج نايب، مطبعة: أمير - قم، ط2- 1409ﻫ.
14. العروة الوثقى: السيد محمّد كاظم اليزدي (قدس سره) (ت 1337ﻫ )، تحقيق ونشر: مركز فقه الأئمّة الأطهار (علیهم السلام)، ط: الأولى، المطبعة: اعتماد - قم، سنة الطبع: 1422ﻫ.
15. فقه القضاء: السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، الناشر: مؤسسة النشر لجامعة المفيد (قدس سره)، ط: الثانية، المطبعة: اعتماد - قم، سنة الطبع: 1421ﻫ.
16. فهرست أسماء مصنّفي الشيعة (رجال النجاشي): الشيخ أبو العباس أحمد بن علي النجاشي الأسدي الكوفي (ت450ﻫ )، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقمّ المشرفة، 1416ﻫ.
17. الفوائد الرجالية من تنقيح المقال في علم الرجال: الشيخ عبد الله المامقاني (قدس سره) (ت1351ﻫ ) تحقيق: الشيخ محمد رضا المامقاني, نشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام).
18. قاموس الرجال: الشيخ محمد تقي التستري، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط: الأولى، سنة الطبع: قم 1419 ﻫ.
19. القضاء في الفقه الإسلامي: السيد كاظم الحائري، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي، ط: الأولى، المطبعة: باقري - قم، سنة الطبع: جمادي الثانية 1415ﻫ.
20. القضاء والشهادات: الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (قدس سره) (ت1281ﻫ )، تحقيق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الناشر: المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية
ص: 92
الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري: الأولى، المطبعة: باقري - قم، سنة الطبع: ربيع الأول 1415ﻫ.
21. الكافي في الفقه: الشيخ أبو الصلاح تقي الدين الحلبي (قدس سره) (ت447ﻫ )، تحقيق: رضا أستادي، الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) العامّة - أصفهان.
22. الكافي: الشيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني (رضوان الله علیه) (ت329ﻫ )، ط: الإسلامية، 1407ﻫ،ط:الرابعة، طهران - إيران، تصحيح الشيخ علي أكبر غفاري.
23. كمال الدين وتمام النعمة: الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمي (رضوان الله علیه) (الصدوق) (ت381ﻫ )، ترجمة وتحقيق: منصور بهلوان، على أكبر غفاري، الناشر: سازمان جاپ ونشر دار الحديث، ط: الثانية، المطبعة: دار الحديث، سنة الطبع: 1380 ش.
24. مباني تحرير الوسيلة: الشيخ محمد المؤمن القمي، تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)، الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)، ط: الأولى، المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج، سنة الطبع: ذو القعدة 1422ﻫ.
25. المبسوط: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ )، تحقيق: السيد محمد تقي الكشفي، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية، المطبعة: المطبعة الحيدرية - طهران، سنة الطبع: 1387ﻫ.
26. مجلّة دراسات علميّة: العددان (9 - 10) شعبان المعظّم 1437ﻫ , دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع.
27. مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان: الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي (قدس سره) (ت993ﻫ )، تحقيق: الحاج آغا مجتبى العراقي، الشيخ علي بناه الاشتهاردي، الحاج
ص: 93
آغا حسين اليزدي الأصفهاني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة.
28. المحاسن: الشيخ أحمد بن محمد البرقي (قدس سره) (ت274ﻫ )، تحقيق: السيد جلال الدين الحسيني، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران، سنة الطبع: 1370 ﻫ.
29. مسالك الأفهام: الشيخ زين الدين بن علي العاملي (قدس سره) (الشهيد الثاني) (ت965ﻫ )، تحقيق: مؤسسة المعارف الإسلامية، الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامية - قم إيران، ط: الأولى، سنة الطبع: 1413ﻫ، المطبعة: بهمن - قم.
30. مَن لا يحضره الفقيه: الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمي (رضوان الله علیه) (الصدوق) (ت381ﻫ )، تحقيق: السيد حسن الخرسان (قدس سره)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، ط: الخامسة، طهران - إيران، مطبعة خورشيد 1383ﻫ.
31. منهاج الصالحين: الشيخ محمّد إسحاق الفياض (دام ظله)، الناشر: مكتب سماحة الشيخ محمّد إسحاق الفياض (دام ظله)، ط: الأولى، المطبعة: أمير - قم.
32. المهذّب: القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي (قدس سره) (ت481ﻫ )، تحقيق: مؤسسة سيد الشهداء العلمية، إشراف: جعفر السبحاني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، سنة الطبع: 1406ﻫ.
33. النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ )، الناشر: انتشارات قدس محمدي - قم.
34. نهج البلاغة: خطب الإمام علي (علیه السلام)، تحقيق وشرح: محمد عبده، الناشر: دار الذخائر - قم - ايران، ط: الأولى، المطبعة: النهضة - قم، سنة الطبع: 1412ﻫ.
ص: 94
35. وسائل الشيعة: الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ (قدس سره) (ت1104ﻫ )، تحقيق: الشيخ محمّد الرازي، تعليق: الشيخ أبي الحسن الشعراني، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.
ص: 95
ص: 96
دراسات فقهيّة تتناول قانون الأحوال الشخصيّة العراقي ومدى مطابقته للشريعة الإسلامية، ومدى الاحتياج إلى تعديله، كما تتناول الموانع الفقهيّة عن تقنين الأحكام الشرعية ووضعها في قوالب ذات صياغة قانونية.
كما أنّها تسلّط الضوء على القانون الجعفري للأحوال الشخصيّة وإمكان جعله بديلاً عن قانون الأحوال الشخصيّة العراقي.
دراسة تحاول إيجاد حلول لهذه التساؤلات بالمقارنة بين المذاهب الإسلامية، ومنها إلى القانونين المُشار إليهما.
ص: 97
ص: 98
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله الذي خلق الإنسان، علّمه البيان، والصّلاة والسّلام على خير الأنام، محمّد وعترته الكرام.
وبعد, خلق الله سبحانه وتعالى آدم وقرنه بحواء كأسرة أولى لنشوء البشرية، وأقرّها سبحانه وتعالى في جميع الأديان والتشريعات؛ لما فيها من سعادة البشرية وتنظيمها وتكاثرها وديمومتها؛ لذا بذلت المجتمعات الإنسانية سعيها الحثيث في تنظيم الأسرة.
واختلفت صور السعي وطرقه ومقاديره بين المجتمعات والقوانين والتشريعات الدينية والمدنية، فالكنيسة جمعت شؤون الأسرة من النكاح والطلاق وتقييد المواليد والوراثة وغيرها بدعوى أنَّ السيّد المسيح هو الذي منحها سلطة التشريع والتحليل والتحريم، وأمّا الإسلام فقد وضع أحكام تنظيم الأسرة في فقه الأسرة.
وأمّا الدول المدنية الحديثة فقد نظمته بما يسمى قانون الأحوال الشخصية، الذي ابتدعه الفقه الإيطالي لتنظيم الأسرة.
وقد ظهر هذا المصطلح في البلدان الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر على يد الفقيه المصري (محمد قدري باشا).
وفي العراق كانت المحاكم المدنية تعطي حقّ النظر بقضاء الأحوال الشخصية على وفق المذهب الجعفري والسُنّي، وأجريت محاولات لتوحيد قانون الأحوال الشخصية
ص: 99
بين الطائفتين، ولكنها لم تفلح حتى عام 1959م بعد الانقلاب على الحكم الملكي إذ نجح مشروع توحيده بقانون (188), إلّا أنّ المرجعية الدينية المتمثلة بالسيد محسن الحكيم (قدس سره) قد أبدت رأيها فيه وطالبت بإلغائه؛ لمخالفته الشريعة الإسلامية، وأيضاً طالبت بإلغائه بعد انقلاب 14رمضان، وطالب الشيخ محمد رضا المظفر عميد كلية الفقه (قدس سره) - آنذاك - بإلغاء القانون من أساسه، ورأى أنّه لا يقبل التعديل بالمذكرة التي رفعها إلى حكومة انقلاب 14رمضان، مبيّناً مبرراته وآثار مخالفة الشريعة على المجتمع، ولكن الحكومة اكتفت بتعديل القانون في المادة الخاصة بالإرث، وأصبح بعد ذلك منهجاً يدرّس في كليات القانون في الجامعات العراقية.
وقد طلب منّي أحد الإخوة المشايخ الذين يدرّسون قانون الأحوال الشخصية في إحدى الجامعات العراقية أن نشترك في شرح قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم (188) لسنة 1959م، وبدأنا المشروع في الأحكام العامة والزواج ونتيجة لانشغاله توقف المشروع وبقي أوراقاً مبعثرة.
وبعد الإعلان عن تقديم مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري إلى الحكومة وما أثاره من كلام بين مؤيدين ومعارضين، بدت لي فكرة لدراسة القانونين دراسة فقهية بين المذاهب الإسلامية؛ ليتّضح أنّ قانون الأحوال الشخصية العراقي هل هو مخالف للشريعة الإسلامية أم لا؟
وهل مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري يصح أنْ يكون بديلاً عنه، أو يمكن أن نجمع عدّة قوانين كلّ واحد منها يستند إلى مذهب من المذاهب الإسلامية لتوحيد الأحكام القضائية في الدولة العراقية؟
وهل هذا هو المفهوم من تطبيق المادة الدستورية (41) من الدستور الدائم التي
ص: 100
تدعو إلى حرية الالتزام بالأحوال الشخصية؟
أو نحتاج فقط إلى تعديل قانون الأحوال الشخصية العراقي بما يتوافق مع الدستور الدائم الحالي وموافقة الشريعة الإسلامية، وأسس الديمقراطية؟
وما المانع الفقهي والشرعي من تقنين وتدوين الأحكام الشرعية الإسلامية وصياغتها في قوانين؟
وهل يمكن معالجته، وولادة قانون أحوال شخصية إسلامي جديد يوحّد المسلمين في الأحوال الشخصية، ويكون بديلاً للقانون النافذ، ويتلاءم مع مقتضيات العصر، ويحلّ مشاكل المسلمين بالشكل الذي ينسجم وحياتهم العصرية، ويعالج المستحدثات الخاصة بشؤون الأشخاص؟
ولذا شرعت بهذا البحث وأسميته: (دراسات فقهية مقارنة بين قانون الأحوال الشخصية العراقي ومشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري (الأحكام العامّة والزواج أنموذجاً)؛ وبما أنّ عدد الصفحات المسموح به للبحوث المنشورة في مجلّة دراسات علميّة محدّد فقد اختصرت البحث بفقرةٍ من الأحكام العامّة وفقرتين من كتاب الزواج كأنموذج من قانوني الأحوال الشخصية العراقي والجعفري، ورتبته في مبحثين وخاتمة على النحو التالي:
المبحث الأوَّل: وفيه مطلبان:
المطلب الأوّل: تأريخ قانون الأحوال الشخصية العراقي وأسباب نشوئه وتعريفه لغةً واصطلاحاً.
المطلب الآخر: دراسة في الأسس والمباني العامة لقانوني الأحوال الشخصية العراقي وقانون الأحوال الشخصية الجعفري.
ص: 101
المبحث الثاني: وفيه - أيضاً - مطلبان:
المطلب الأوَّل: دراسة تحليلية وفقهية لعنوان الباب الأوّل (الزواج) والمادة الثالثة (ف1) من قانون الأحوال الشخصية العراقي، وما يقابلها عنوان الباب الثاني (النكاح) والمادة (42) من مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري.
المطلب الآخر: دراسة تحليلية وفقهية للمادة الثالثة (ف4) تعدّد الزوجات، وما يقابلها المادة (102) و(104) من مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري.
الخاتمة: في النتائج والمقترحات التي توصّلنا إليها من خلال البحث.
وبعدُ، فقد بذلت غاية الوسع فيه، لإيجاد الفكرة وإخراجها من القوّة إلى الفعل، هذا والله أسأل أنْ يكون نافعاً ولا سيّما مع ما تضمّنه من الآراء المباركة للمجتهدين والمراجع العظام حفظ الله الباقين منهم ورحم الماضين، سائلين المولى عزّ وجلّ السداد والتوفيق وقبول الأعمال إنّه سميع مجيب.
الشيخ يحيى السعداوي
النجف الأشرف
12/ ذو القعدة/1435ﻫ
ص: 102
تأريخ قانون الأحوال الشخصية العراقي وأسباب نشوئه وتعريفه لغةً واصطلاحاً ودراسة فقهية للمادة الأولى (ف1) من قانون الأحوال الشخصية العراقي، وما يقابلها المادة (245) (ف أولاً) من قانون الأحوال الشخصية الجعفري، وفيه مطلبان:
وفيه مقصدان:
الأحوال الشخصية: مصطلح قانوني ابتدعه الفقه الإيطالي في القرن الثاني عشر(1).
ابتدأت حركة التقنين بالمعنى المعاصر في الدول الإسلامية في أواخر العهد العثماني في مجال القانون المدني، بيد أنّ حركة التقنين لم تبدأ بعد في مجال الأحوال الشخصية، إلّا أنّ جملة من الاعتبارات... تمسّ بشكل أو بآخر مجال الأنكحة والمواريث(2), أدّت إلى نشوئه فظهر في أواخر القرن التاسع عشر على يد الفقيه المصري (محمد قدري باشا المتوفى 1306ﻫ - 1884م)(3) الذي قام بوضع مجموعة فقهيّة خاصّة سمّاها (الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية).
كما قد صدر القانون الوقتي للمرافعات الشرعيّة (قانون حقوق العائلة العثماني عام 1336ﻫ - 1914م) واقتصر على أحكام الزواج والطلاق(4).
ص: 103
والمادة (1801): تعطي للسلطان بصفته خليفة للمسلمين حقّ الفرض على الأمة(1)؛ ولذا تصدّى المرجع الديني محمّد حسين آل كاشف الغطاء لشرح رأي الإمامية بقوله: (إن القضاء والحاكمية عند الإمامية منصب إلهي لا دخل له بالسلطان)(2).
وقد ذكر مصطلح (الأحوال الشخصية) في كتب بعض مؤلّفي الشيعة - لا في كتب الفقه الإمامي الجعفري - على نحو ما نراه في كتاب الأحكام الجعفرية في الأحوال الشخصية الذي طبع سنة (1342ﻫ-1921م) للشيخ عبد الكريم الحلي(3)، والسيد أمير علي المتوفى سنة 1928م(4)، ويوسف بن علي الفقيه العاملي الحاريصي، الذي كان فقيهاً إمامياً(5).
وفي العراق ظهرت عبارة (المواد الشخصية) في بيان المحاكم رقم (6) الصادر عام 1917م و(م12) والتي تنصّ على تطبيق الأحكام الفقهية الخاصّة بتلك الطوائف على المنازعات المتعلّقة بأحوالهم الشخصيّة من قبل محاكم المواد الشخصية. وقد أصبحت محاكم المواد الشخصية تعنى بالأحوال الشخصية لغير المسلمين.
وذكرت عبارة (الأحوال الشخصية) في تعديل بيان المحاكم عام1921م، ثمّ في قانون المحاكم الشرعية الصادر في (30/حزيران/1923م).
وترسخت هذه العبارة بتشريع قانون الأحوال الشخصية للأجانب رقم (78 لسنة
ص: 104
1931م)(1).
وقد قام ديوان التدوين القانوني في عام 1933م بمحاولة لإصدار قانون للأحوال الشخصية لتوحيد المسلمين، ووضعت لائحة لهذا المشروع لكنها تعثّرت كثيراً، ثمّ وضعت وزارة العدل في عام 1945م مشروع قانون باسم (لائحة قانون الأحوال الشخصية)؛ ليكون قانوناً متمّماً لمشروع القانون المدني، وقد تضمّن قانون الأحوال الشخصية للمذهبين الحنفي والجعفري كلّا ً على حدة، ولكنه لم يرَ النور.
وبعد انقلاب الرابع عشر من تموز1958م شكّل مجلس السيادة برئاسة نجيب الربيعي، وألّفت وزارة العدل العراقية بتاريخ 7 شباط 1959م لجنة لوضع لائحة الأحوال الشخصية بدعوى تعزيز التوازن السياسي وتكفّل الحريات، واستطاعت اللجنة صياغة مشروع قانون للأحوال الشخصية، والذي عرف بقانون رقم (188) لسنة 1959م(2)، وقد قال القاضي خروفة حول بعض موادّه: راعت اللجنة أيضاً الانسجام بين أحكام القانون المدني في الوصية وبين ما ورد في هذه اللائحة من أحكام(3).
ونُقل عن عبد اللطيف الشوّاف أحد المكلفين بصياغة الدستور الدائم - الذي لم يُنجز - قوله: (جلب عبد الكريم القانون المدني، واطّلع على القسم الخاص بانتقال حقوق التصرّف... واقترح وطلب إضافة المواد كما وضعها السنهوري في القانون المدني إلى قانون الأحوال الشخصية، لتطبّق على المواريث كلّها، وبذلك نكون قد أكملنا نقص عدم وجود قسم للميراث في المشروع، بالإضافة إلى توحيد أحكام المذهبين
ص: 105
السُنّي والجعفري في هذه المسألة الهامّة من مسائل الحياة).
وأضاف الشوّاف: (إنَّ عبد الكريم رفض التحذيرات من استغلال هذا النصّ واعتبار الحكومة ضدّ الشريعة الإسلامية مستنداً إلى رأي أبداه رئيس مجلس السيادة نجيب الربيعي بأنّ الإرث... قد جاء في القرآن بصيغة الوصية: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾(1))(2).
وبهذه المادة يعدّ مخالفاً لنصّ القرآن الكريم الصريح؛ ولذا أبدت المرجعية الدينية المتمثّلة بالسيد محسن الحكيم (قدس سره) رأيها فيه وطالبت بإلغائه؛ لمخالفته الشريعة الإسلامية في عدّة مواد.
ثُمَّ أتى البعثيون بانقلاب 14 رمضان /شباط عام1963م، وطالبتهم المرجعية الدينية أيضاً بإلغاء القانون، وكذا الشيخ محمّد رضا المظفر رفع مذكرة إلى حكومة الانقلاب بالمبررات الملحة لإلغاء قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959م، وأنّه لا يقبل التعديل؛ فكان موقفه داعماً لموقف المرجعية الدينية المطالب بالإلغاء، ومبيّناً مبرراته من مخالفته الشريعة، وصريح القرآن الكريم، وخروجه عن إجماع المسلمين، وما يخالف بعض المذاهب دون بعض.
كما أبدى العلّامة السيد محمّد بحر العلوم (رحمة الله) إشكاله بقوله: (وإنّه حدّد طبيعة القضاء وهي لا تحدّد بالقانون، وإنّما بالشرع)(3).
ولذا أصدروا التعديل رقم 11 لسنة 1963م؛ لإيقاف العمل بالموادّ المتعلّقة
ص: 106
بالمواريث، وتطبيق فقه المذاهب بدلاً منها؛ ليكون ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾(1).
لكنّ المرجعية الدينيّة استمرت في مطالبتها بإلغاء القانون بنحو كلّي، وأنّ وجود مثل هذا القانون يعطي القاضي سلطة الفقيه، ويسدّ باب الاجتهاد في الأحكام.
وحاول الدستور المؤقت لسنة 1968م وضع مادة صريحة لطمأنة المؤسسة الدينيّة، جاء فيها: (الإرث حقّ تحكمه الشريعة الإسلامية)(2). ولكنّ المرجعيّة الدينيّة لا تكتفي إلّا بإلغائه كما جاء في رسالة السيد الحكيم (قدس سره): (إرجاع الأمور إلى العهد الذي كانت عليه سيرة المسلمين منذ أيام الخلافة الإسلاميّة، وإنّ موقفنا هذا هو نفس الموقف الذي وقفناه منذ صدور القانون حتى يومنا هذا، وإلى أنْ يتمّ رفعه)(3). وهذا مطابق لموقف مالك بن أنس حين أراد أبو جعفر المنصور ومن بعده الرشيد اختيار كتابه (المُوطّأ) قانوناً قضائياً للدولة العباسيّة، فنهاهما مالك من ذلك وقال: (إنّ أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان، وكلٌّ مصيب)(4)، ومطابق أيضاً لعلماء الأزهر حين جمعهم محمد علي باشا وقال لهم: (لا أريد أنْ أحكم بشيء حرّمه الله، لكن اجتمِعُوا وضعوا لي قانوناً... قالوا ما وصلنا إلى شيء)(5).
ولذا لم تفلح اللجنة الّتي شُكّلت في مصر من كبار العلماء في أوائل عام1915م
ص: 107
لتقنين قانون للأسرة يستنبط من المذاهب الأربعة ويختار منها، بحيث يؤخذ من كلّ مذهب ما يكون صالحاً وفقاً لروح العصر، رغم إعدادها لائحةً بهذا الشأن(1).
ومع كلّ ما تقدّم من سيرة المسلمين غير المتصلة بالمعصوم لكن الواقع إننا بحاجة إلى وجود قانون عصريّ في مجال الأحوال الشخصية خصوصاً؛ لأنّه يشكّل أساساً لوحدة الشعب العراقي، وانطلاقةً لبناء العائلة العراقية التي تقدّر فيها المرأة بما أعطاها الإسلام من الحرية، وبشكلٍ تراعى فيه المواثيق والاتفاقيّات الدوليّة، ويُعدُّ دفاعاً عن قيم الحضارة والتمدّن بما يسمح به الدستور الإسلامي.
الحال تؤنّث فيقال: حال حسنة(2)، والحال تذكّر وتؤنّث وتجمع على الأحوال(3). قال الراغِب: الحالُ: ما يَختَصُّ به الإنسانُ وغيرُه، من الأمورِ المتغيِّرة، في نَفسِه وبَدَنِه وقُنْيَتِه(4) [اقتنى يقتني اقتناء، أي: اتخذه لنفسه، لا للبيع] وقال مَرَّةً: الحالُ يُستَعْمَلُ في اللّغَةِ للصِّفةِ التي عليها المَوصوفُ - إلى أن قال - والحالة: واحدة حال الإنسان وأحواله(5). الحال: كينَة الإنسان وما هو عليه من خير أو شر... وهي الحالة أيضاً... حال الشيء وكيفيّته(6).
ص: 108
والفرق بين الشأن والحال: الشأن لا يقال إلّا فيما يعظم من الأحوال والأمور، فكل حال شأن، ولا ينعكس. قاله الراغب(1). يؤيده قوله تعالى شأنه: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾(2).
(شخص): " الشَّخْصُ ": سواد الإنسان وغيره تراه من بعد، وكلّ شيء رأيت جسمانه فقد رأيت شخصه، وجمعه: الشخوص والأشخاص(3) وجمعه في القلّة أشخص. والشخيص: العظيم الشخص، بيّن الشخاصة. الشَّخْص: كلُّ جسم له ارتفاع وظهور(4). ولفظ الشخص مذكر(5) والأُنْثى شَخِيصةٌ، والاسمُ الشَّخاصةُ قال ابن سيده: (ولم أَسمع له بفِعْلٍ فأَقول إِنَّ الشَّخاصة مصدر)(6).
وحال الشيء يحول حؤولاً في معنيين، يكون تغييراً، ويكون تحويلاً(7). وحال الشخص يحول إذا تحرّك وكذلك كل متحول عن حالة، ومنه قولهم استحلت الشخص أي نظرت هل يتحرّك(8)، فكأَنَّ القائل إِذا قال لا حَوْلَ ولا قُوَّة إِلَّا بالله يقول: لا حَركة ولا استطاعة إِلا بمشيئة الله(9).
ص: 109
قال الفراهيدي والجوهري: والقنة: قوّة (من قوى) حبل الليف، ويجمع على قنن(1). وقال الزمخشري: قنن الأنوق تبيض في قنة الجبل وفي قنن الجبال(2). وأما الزبيدي فيقول: (قنن): القَنُّ: تَتَبُّعُ الأَخْبارِ(3).
اختلف في تحديد أصل هذا اللفظ، فالرأي الغالب أنه ليس بعربي(4). وذهب بعضهم إلى أنّه عربي الأصل مادةً وشكلاً، ومادته لفظ(قن)(5)، ووجدته أقرب معنى للقانون، وقنت الشيء أقينه قيناً: لممته وأصلحته(6). والقنقن: الدليل الهادي البصير بالماء تحت الأرض(7)؛ ولذا ذكره صاحب مختار الصحاح(8) ضمن مادة قنن فقال: والقوانين: الأصول، الواحد قانون(9)، والقانون: مقياس كل شيء ج: قوانين(10)، وشكلاً على صيغة (فاعول) التي تدل على الكمال وبذل الجهد، وأيضاً لم أجد هذا المعنى في كتب اللغة ووجدت أنّ فاعول من الحجر المنع(11). وأنّ
ص: 110
قانُون: ما كان على فَعْلان أن يكُونَ مؤنَّثه بغير زيادة إلا الألفَ كَرَيَّانَ ورَيَّا وسَكْرانَ وسَكْرَى(1). وقيل القانون: يوناني أو سرياني: مسطر الكتابة(2). ولا نريد التحقيق في عربية اللفظ من عدمها؛ لعدم الاستفادة من ذلك. فالمسلمون يطلقون لفظ الشريعة على القواعد القانونية ولفظة القانون تطلق بمعناها اللغوي (مقياس لكلّ شيء) أو القاعدة المطردة ولم تستعمل لفظة القانون بمعناها الاصطلاحي (مجموعة القواعد) إلا في منتصف القرن التاسع(3).
قد جاء في الموسوعة العربية الميسرة تحت لفظ (أحوال شخصية) ما نصه: مجموعة ما يتميّز به الإنسان عن غيره من الصفات الطبيعية أو العائلية التي رتّب القانون عليها أثراً قانونياً في حياته الاجتماعية، مثل كونه ذكراً أو أنثى وكونه زوجاً أو أرملاً أو مطلقاً، أو أباً أو ابناً شرعياً، أو كونه تام الأهلّية أو ناقصها لصغر سنٍ أو عتهٍ أو جنون، أو كونه مطلق الأهلية أو مقيدها لسبب من أسبابها القانونية. وقد حدّدت محكمة النقض المصرية في 21/6/1934م هذا المعنى(4).
1. عرَّفه الأستاذ صبحي المحمصاني بقوله: (صياغةُ الأحكامِ الشرعيةِ في عباراتٍ إلزاميةٍ، لأجْلِ تنفيذها والعمل بموجبها)(5).
ص: 111
2. وعرّف بأنّه صياغة الأحكام في صورة مواد قانونية مرتّبة مرقمة، على غرار القوانين الحديثة من مدنية وجنائية وإدارية... إلخ. وذلك لتكون مرجعاً سهلاً محدداً، يمكن بيسر أن يتقيّد به القضاة، ويرجع إليه المحامون، ويتعامل على أساسه المواطنون(1).
3. وعرفه الدكتور وهبة الزحيلي بأنّه: (صياغة أحكام المعاملات وغيرها من عقود ونظريات ممهّدة لها، جامعة لإطارها، في صورة مواد قانونية، يسهل الرجوع إليها)(2).
القانون بمعناه الخاص: (مجموعة القواعد القانونية التي تسنّها السلطة المختصة بالتشريع في دولة ما لتنظيم أمر معيّن. وهذا المعنى يرادف التشريع، وهو القانون المدوّن الذي تضعه السلطة التشريعية)(3).
والمتحصَّل: أنّ تعريف قانون الأحوال الشخصية - طبقاً لتعريف الأحوال الشخصية وبيان ما تعنيه -: هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظّم ما يتميّز به الإنسان من غيره من الصفات الطبيعية أو العائلية التي رتّب القانون عليها أثراً قانونياً في حياته. والصفات الطبيعية والعائلية ككونه إنساناً، ذكراً أو أنثى، وكونه زوجاً أو أرملاً أو مطلقاً، أو ابناً شرعياً، أو كونه تام الأهلية أو ناقصها؛ لصغر سن أو عته أو جنون أو كونه مطلق الأهلية أو مقيّدها بسبب من أسبابها القانونية.
يرى بعض الباحثين أن التقنين والتدوين بمعنى واحد. ولكن الصحيح وجود فرق بينهما، فالتدوين مصدر دوَّن - كما عرفناه -: الكتابة
ص: 112
المرتبة، وتدوين الأحكام يعني صياغة الأحكام الشرعية، وترتيبها من دون إلزام بها ولا جزاء على مخالفتها. وأمّا التقنين - مصدر قنن - فهو: صياغة الأحكام والقواعد وترتيبها على شكل موادّ قانونية لها صفة الإلزام والجزاء على من خالفها. وأصبح علماً له منهج وطريقة خاصّة.
يتضح من تعريفهما اللغوي أنّهما إمّا من مادة واحدة وهي (قنن) أو أنّ القانون من مادة (قنّ)، والفرق بينهما (اصطلاحاً) يتّضح من أنّ التقنين: هو وضع القوانين وصياغة الأحكام بترقيم وترتيب موادها بصفة الإلزام والجزاء على من خالفها، وأمّا القانون فهو مجموعة القواعد بعد تقنينها.
ذكر المشرّع العراقي قواعد عامّة في المادّتين الأولى والثانية من قانون الأحوال الشخصيّة العراقي سالكاً بذلك المسلك المتبع في القانون المدني(1)، وهو منهج عام لتطبيق القانون. وقد نقلها مشرّع مشروع قانون الأحوال الشخصيّة الجعفري نصّاً في المادة (245) وغيرها.
المادة الأولى: الفقرة (1): سريان النصوص وتطبيقها..
1. (تسري النصوص التشريعيّة في هذا القانون على جميع المسائل التي تتناول هذه النصوص في لفظها أو في فحواها).
ص: 113
يقابل المادة الأولى/الفقرة (1) من قانون الأحوال الشخصية العراقي المادة (245) أولاً من مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري، حيث نصّت المادة (245) أولاً: )تسري النصوص التشريعية في هذا القانون على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها ومضمونها).
والفقرتان من المادّتين لا فرق بينهما نصّاً إلّا بكلمة (ومضمونها)؛ لأنّ الذي شرّع مشروع قانون الأحوال الشخصيّة الجعفريّ نقلها نصاً بإضافة كلمة (ومضمونها)، ولا أثر لإضافة هذه الكلمة؛ لأنّ (مضمونها) و(فحواها) بمعنى واحد في الاستعمال اللغوي، فكلاهما بمعنى ما يُفهم من الكلام ومعناه؛ لأنّ (فحو: الفحوى: معنى ما يعرف من مذهب الكلام)(1) وهذا هو المعنى الأول، ويسمى (المنطوق) تسمية المدلول باسم الدال، كما أنّ له معنى ثانٍ: (فحوى الكلام فهو ما ظهر للفهم من مطاوي الكلام ظهور رائحة الفحا من القدر كفهم الضرب من الأف)(2)، ويسمى (المفهوم)، وهذا المعنى يطابق المعنى الاصطلاحي لمفهوم الموافقة. أما (ضمن: عنى، وفهمت ما تضمّنه كتابك، أي ما اشتمل عليه وكان في ضمنه)(3).
نعم، يمكن أن يكون عطف تفسير للفحوى إن كانت الفحوى بالمعنى اللغوي، وكلمة (فحواها) تحتاج الى بحث معمّق؛ لاختلاف معناها بين اللغة والاصطلاح وبين المذاهب الفقهية، ولا يسعه هذا المختصر، ولكن نشير إليه باختصار فنقول: ما ذكر في نصّ المادة الأولى الفقرة (1)، أو المادة (245) أوّلاً من قوله: (وفحواها) في القانونين
ص: 114
العراقي والجعفري ليس بالمعنى الاصطلاحي الفقهي وهو المعنى اللغوي الثاني؛ ولذا أشكل الزلمي(1) عليه. ولكنّ الظاهر من إشكال الزلمي على النصّ (في لفظها أو في فحواها) أن المقصود منها المعنى اللغوي الأول (معنى النص) المنطوق أو عند الحنفية دلالة النصّ، وليس المعنى اللغوي الثاني الذي يسمّى (مفهوماً) في الاصطلاح الغالب عند فقهاء المسلمين؛ ولذا اقترح الزلمي أن يكون النصّ (بمنطوقها ومفهومها) بدلاً عن (لفظها أو في فحواها).
وأما إذا حملنا اللفظ على حكم اللفظ والفحوى على حكم الفحوى فلا يرد الإشكال على النصّ، وأنّه شامل للمنطوق والمفهوم، ولكن لا يشمل مفهوم المخالفة؛ لأنّ الفحوى مفهوم الموافقة.
ولم يتّضح لي المقصود من (الفحوى) عند شرّاح القانون، وإن كان قد يبدو أنَّهم يحملونه على المعنى اللغوي الأوّل (معنى اللفظ) أو معناه في الفقه الحنفي (دلالة النصّ)، وليس بالاصطلاح الفقهي (المعنى الثاني).
وكيفما كان, فالمشرّع بهذه العبارة ألزم القضاة بالمصدر الأصلي وهو نصوص القانون، وعليهم الالتزام بأخذ الأحكام من ألفاظ النصوص وعباراتها، واستنباط الأحكام من فحوى النصوص ومعانيها، ولا يجوز لهم الانتقال إلى مصدر آخر - غير النصّ - إلّا بعد التأكّد من خلوّ النصّ لفظاً وفحوى من الانطباق على القضية المعروضة أمامهم.
والفقرتان تبيّنان سريان نصوص هذا القانون، وتطبيقها، والمصدر الأصلي لها،
ص: 115
فتشمل كلّ واقعة ينطبق عليها أي نصّ من نصوص هذا القانون وتكون مصداقاً له، سواء أكان هذا الانطباق لفظاً أم فحوى، فهذا التشريع واجب التطبيق وملزم لهم.
ولدراسة الفقرتين دراسة فقهيّة يلزم أن نبحث في موقف الفقه الإسلامي من التقنين وتدوين النصوص القانونية أولاً، وإلزام القضاة بها ثانياً، ولكن البحث لا يختصّ بالبحث عن التدوين أو التقنين؛ لأنّ تدوين الأحكام الشرعية أمر مستحب كما سنثبته.
وأمّا التقنين فهو أمر مستحدث أجازه بعض الفقهاء ومنعه آخرون؛ ولذا سنختصر البحث فيهما، ونتوسع في البحث عن المانع الفقهي الشرعي من تقنين وتدوين الأحكام الشرعية وتوحيد قانون يحكم المسلمين، وهو تقييد القضاة بمذهب معيّن وإلزامهم به، وهو عين السبب الذي جعل مالك يرفض أن يكون كتابه المُوطّأ مرجعاً للقضاء؛ ولذا سنبحث هذا المطلب في مقصدين:
وفيه فرعان:
وسنذكر هنا أمرين:
الأوَّل: إنّ من أسباب تدوين القوانين في الدولة الإسلامية كما يقول الشيخ السبحاني: (ولاية القضاء: فقد كان الخلفاء يختارون القضاة أوّل الأمر من المجتهدين لا من مقلّديهم، ولكنّهم فيما بعد آثروا اختيارهم من المقلّدين، ليقيّدوهم بمذهب معين، ويعيّنوا لهم ما يحكمون على أساسه) (1).
وبعبارة أوضح: إنّ أسباب تدوين القوانين في الدولة الإسلامية هي:
1. أنّ القضاة مقلّدون لا مجتهدون.
ص: 116
2. تقييد القضاة بمذهب معيّن يرتضيه الخليفة.
3. تشريعات الخلفاء حسب مصالحهم وأهوائهم.
والآخر: الموانع والإشكالات على تقنين الأحكام الشرعية وتدوينها وإلزام القضاة بها وسلبياته ومميزاته وإيجابياته حسب الواقع والحاجة إلى ذلك ثبوتاً عقلاً:
ويمكن أن أذكر ما استفدته من دراستي للفقه والقانون ومن مطالعاتي للمقالات وما كتب في هذا الموضوع وأصيغه بشكل إشكالات والردّ عليه وعلى النحو الآتي:
الإشكال والمانع الأوّل: إنّ الكتب الفقهية تكفّلت بتنظيم كلّ ما يتعلّق بالإنسان من عبادات ومعاملات وإيقاعات وحدود وديات وما يستحدث منها، وهذا يعني تنظيم الأحكام الشخصية والمدنية والجنائية للمكلّف، مضافاً إلى كون باب الاجتهاد مفتوحاً وهذا ممّا يقوّي ملكة الاجتهاد والقدرة على الاستنباط بما يواكب العصر، فما الداعي لتدوين قوانين أُخر؟
ويمكن الجواب عنه: بأنّ الكتب الفقهية تكتب من طرف أهل العلم وليست أحكاماً باتَّة نافذة ملزِمة للناس كالقانون، ولا توجد آلية متبعة لكتابة الأحكام المدونة، وأغلبها ليس لها ضابط موضوعي، وقد قالوا: إنّ مسائل الفقه يستحيل ثبوت موضوع لها(1) بمعنى لا موضوع لعلم الفقه؛ لذا نحتاج إلى تدوينها وصياغتها بقوانين.
الإشكال والمانع الثاني: أنّ الكتب الفقهية للمذاهب الإسلامية ذكرت جميع المسائل التي يحتاج إليها القاضي في جميع أبواب الفقه، فيلزم القاضي الحكم بها من دون الحاجة إلى الاستعانة بالقوانين الأُخر المستندة إلى شرائع أُخر أو أهواء الحكام ومصالح الدول، ويساعد القاضي على تحقيق العدل والحكم بالحقّ بظاهر الشريعة الإسلامية.
ص: 117
وأما تدوين القوانين الذي يقتصر على النصوص المدوّنة في كلّ قانون فهي غير شاملة لجميع المسائل التي يحتاج إليها القاضي؛ فتكون ذريعة للقاضي للاستعانة بقوانين لا تستند إلى الشريعة الإسلامية، وتحدّ من الوصول إلى الحكم بالحقّ.
والجواب عنه: أنّ إرجاع القضاة إلى أمّهات الكتب الفقهية واختلافها في الآراء والأساليب والأدلة يكون سبباً لتأخير فضّ النزاعات التي قد تسبّب مشاكل أكبر، وقد يؤدي إلى ترك القاضي واجتهاده، فيختلف الحكم في قضية واحدة، فتنعدم وحدة الأحكام القضائية، فيختل العدل والحكم بالحقّ. وأما تدوينها فيساهم في وحدة الأحكام القضائية، ويتحقق الحكم بالحقّ والعدل؛ ولذا نحتاجُ في تدوين القوانين من الأحكام الشرعية الإسلامية إلى آليةٍ معينة لتكون معيناً لا ينضب ومصدراً أساساً أو رئيساً للتشريع يغطي جميع الأحكام القضائية.
الإشكال والمانع الثالث: أنّ التقنين بدعة وخطوة تمهيدية لهجر أحكام الشريعة، والانتقال إلى القوانين الوضعية وسلب سلطة فقهاء الأمة. كما أنّه يؤدي إلى إلزام الأمة إما بمذهب فقهي معيّن، وإمّا بنصّ ليس من شرع الله في شيء، وهو مدخلٌ للتبديل والتغيير في أحكام الشريعة بزيادة أو نقصان، أو تبديل أو تعديل ممّا يستلزم الحكم بغير ما أنزل الله.
والجواب: تدوين الأحكام الشرعية ليس بدعة بل سُنّة كما سنثبت ذلك. وأمّا التقنين فيعدّ تطوّراً في تدوين الأحكام الشرعية، ولا يعدّ هجراً للشريعة؛ لأنّه رجوع إلى فقهاء الأمة في التشريع، وعدم سلب سلطتهم خصوصاً إذا نصّ قانون المحكمة الاتّحادية على الرجوع إلى فقهاء الشريعة حيث يعدّ من أركان الدولة المدنية، فيواكب التطوّر من جهة، ويطبّق الشريعة الإسلامية - وهو الحكم بالحقّ المأمور به - من جهة
ص: 118
أخرى. فتدوين الأحكام الشرعية بخلاصة ما وصل إليه الفقه الإسلامي يجمع بين الأحكام الثابتة والأحكام المتغيرة، ويبقى باب الاجتهاد للمشرّع مفتوحاً يرجع إليه القاضي عند عدم وجود نصّ ينطبق على القضية المطروحة أمامه، فنحافظ على روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها وعدم الجمود على النص، ويسهل على القاضي تحصيل الحكم الشرعي واختصار الجهد والوقت، ويعلم الناس سلفاً ما تخضع له معاملاتهم وعقودهم من الأحكام، فيتحقّق العدل والحكم بالحقّ.
الإشكال والمانع الرابع: نصَّ الدستور في المادة (41) على حرية الفرد في الأحوال الشخصية، فيحتم على المشرّع الرجوع إلى المذاهب الفقهية المختلفة, وتقييد المسلمين بمذهبٍ معيّنٍ خلافاً لمذاهبهم له آثاره على الفرد والمجتمع، وهذا ليس من صالح الدولة؛ لأنه يفتح مسارب الجريمة والتحلّل الخلقي أمام أبناء البلد؛ لأنّها تؤدّي إلى إماتة الإخلاص فيهم ؟
الجواب: نعم, هذا الإشكال علمي وحقيق بالاهتمام، وكلّ أطروحة لتوحيد القانون يجب أن تأخذ بعين الاعتبار هذا الإشكال، ويمكن حلّه بوضع مادة خاصة واختيارية تجيز الرجوع إلى المذاهب الفقهية كما في مسألة القسّام الشرعي في القانون العراقي. و يمكن القول إنّ عدم تدوين القانون الموحّد يحوّل التعدّد والتنوع العراقي في المذاهب والأعراق من حالة تمنح القوّة والتجدد والتآلف إلى حالة تنتج الفرقة، ويضع الفرد والأسرة تحت سلطة السلطات المختلفة. وإنّ وجود قانون عصري موحّد لكل العراقيين في الأحوال الشخصية، وبشكل تراعى فيه المواثيق والاتفاقيات الدولية يعدّ دفاعاً عن قيم الحضارة والتمدّن ومفهوم المواطنة؛ لأنّه يشكّل أساساً لبناء العائلة العراقية ووحدة الشعب العراقي.
ص: 119
فالنتيجة: التقنين وتدوين الأحكام الشرعية وصياغتها في قوانين أمر راجح عقلاً وواقعاً، وأمّا الإشكالات التي ذكرت فيمكن معالجتها ودفعها بما ذكرنا.
وسأتناول في هذا الفرع حرمة التقنين والرد عليها بشكل عام للاختصار المناسب للبحث.
يعدّ المذهب السلفي من أبرز المذاهب الإسلامية التي ذهبت إلى حرمة التقنين - إلى يومنا هذا - والإلزام بالراجح، واستدلوا بالقرآن والسنّة والإجماع، وأنّ تقنين الأحكام الشرعية وإلزام القضاة بالحكم بها هو خلاف ما عليه الإجماع العملي للقرون المفضلة(1).
ويمكن الرّد على أدلة حرمة التقنين بنحوين:
فقد استدل القائلون بحرمة التقنين بالأدلة الآتية:
قولُ الله تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(2)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾(3)، وآيات أُخر.
والقِسْطُ والعَدْلُ أنْ يَحكمَ القاضي بما يَدينُ اللهَ به مِنَ الحقِّ، لا بما أُلزِمَ به مِن تَقنينٍ قد
ص: 120
يرى الحقَّ بخلافِه.
قال الشافعي: )فأعلم الله نبيّه أنَّ فرضاً عليه وعلى مَن قبله والناس إذا حكموا أنْ يحكموا بالعدل، والعدل اتباع حكمه المنزل)(1).
وقال البراك: (والتقنين إنما هو إلزامٌ بالتقليد، ويكون كثيراً في أقوال مرجوحة)(2).
ويمكن ردّه: بأنّ الاستدلال بالآيتين ليس بصحيح؛ لأنّ الآية الأولى خطاب للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) للحكم بين أهل الكتاب وتخيّره بين الحكم بينهم وبين الإعراض عنهم، وهو مختصّ بالحكم لا التشريع. وأما الآية الأخرى فهي أجنبية عما نحن فيه؛ لأنها في مقام بيان مفترض الطاعة، وهو (الله ورسوله وأولي الأمر). نعم، تصح دليلاً إذا كتب القانون على الأهواء والمصالح كبعض أحكام قانون الأحوال الشخصية العراقي النافذ؛ لذا تصدّى له فقهاء الأمة وطالبوا بإلغائه.
وأما التقنين بتدوين الأحكام الشرعية الثابتة من الكتاب والسُنَّة وغيرهما من الأدلة فيعدّ رجوعاً وإطاعة لله ورسوله وأولي الأمر الذين فرض الله علينا طاعتهم فهي تثبته ولا تنفيه.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): (القضاةُ ثلاثةٌ: واحدٌ في الجنةِ، واثنانِ في النارِ، فأمَّا الذي في الجنةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الحقَّ فقَضَى به، ورجُلٌ عَرَفَ الحقَّ فجارَ في الحكمِ فَهُوَ في النارِ،
ص: 121
ورجُلٌ قَضَى للناسِ على جَهْلٍ فَهُوَ في النَّارِ)(1).
ويردّ عليهم بأنّ الرواية وإنْ كانت معتبرة عندهم، قال ابن حجر: أخرجه الأربعة، وصحّحه الحاكم، وقال: (صحيح الإسناد)(2). واستدرك عليه الألباني في الإرواء، وقال: (عزا الحافظ ثم السيوطي في (الجامع الصغير) هذا الحديث للسنن الأربعة. ولم أرَه عند النسائي في الصغرى... فيحتمل أنه في الكبرى)(3)، وهو كذلك، وعندنا أيضاً مع اختلاف بعض الألفاظ إلّا أنّها خارجة موضوعاً حيث إنّها واردة في صفات القاضي وحكمه؛ وبهذا استدل النووي على أنّ القاضي لا بُدَّ أن يكون عالماً بالأحكام، فلا علاقة لها بالتقنين وتدوين الأحكام الشرعية.
قال ابن تيمية: (وأجمَعَ العلماءُ على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، وبقولٍ أَوْ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ ويجبُ العملُ بمُوجبِ اعتقادِه... إجماعاً)(4). وقال أيضاً: (قال الشافعي: أجمع الناس على أنّ من استبانت له سُنة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يكن له أن يدعها لقول أحد)(5).
ص: 122
وقال الخطيب البغدادي: (والدليل عليه أنَّ الصحابة أجمعت على جوازِ الأخذِ بكلِّ واحدٍ من القولين، وعلى بُطلانِ ما عدا ذلك...)(1).
و قال ابن تيمية: )إنَّ إلزَامَ النَّاسِ بما لَمْ يُلزِمهُم بهِ اللهُ ورسُولُهُ... والحكمُ بهِ باطلٌ بإجماعِ المسلمينَ)(2).
وقالت هيئة كبار العلماء: (إنّ تقنين الأحكام الشرعية وإلزام القضاة بالحكم بها هو خلاف ما عليه الإجماع العملي للقرون المفضلة)(3).
والرد على الإجماعات المذكورة:
1. أمّا الإجماع الذي ذكره ابن تيمية في تحريم الحكم بالهوى فهو يدلّ على وجوب الحكم بالنظر والاجتهاد، وأن يحكم باجتهاده، إنْ ثبت الإجماع، وحينئذٍ فهو يصحّ أن يكون دليلاً على إلزام القضاة المجتهدين باجتهاد غيرهم أو بالأحكام الوضعية التي لا تستند إلى الأحكام الشرعية الإسلامية والتدوين إن كان بمذهب معين أيضاً، ولا يصح دليلاً على تدوين القوانين من الأحكام الشرعية، وترك القاضي واجتهاده في المسائل الخلافية إنْ كان مجتهداً.
وأمّا ما استدلوا به من الإجماع العملي للقرون المفضلّة فهو صحيح، وهذا ما أكده السيد محسن الحكيم (قدس سره) في اعتراضه على قانون الأحوال الشخصية العراقي وسمّاه سيرة المسلمين، ويصحّ أن يكون دليلاً على التدوين بمذهب معين، وإلزام القاضي
ص: 123
المجتهد به، ولا يصحّ الاستدلال به إنْ كان القاضي مقلِّداً، أو عاميّاً، أو أنَّ التدوين يخصّ الثابت والمتواتر من الكتاب والسنة, والقانون لا يخالف حكماً شرعياً.
2. وأمّا الإجماع الذي ذكره الشافعي فيصحّ الاستدلال به على أهل الحداثة وتدوين القوانين من الشرائع الأُخر وعلى الهوى والمصالح، وكذا على القاضي الذي علم بالحكم الشرعي وحكم بغيره، ولا يصحّ دليلاً على تدوين الأحكام الشرعية وصياغتها في قوانين.
3. وأمّا الإجماع الذي ذكره الخطيب البغدادي فهو على إحداث أقوال مقابل ما نقل من أقوال الصحابة، فلا علاقة له بتدوين الأحكام الشرعية الثابتة من الصحابة، ولا يصحّ دليلاً على تدوين الأحكام الشرعية وصياغتها في قوانين.
وأمّا الإجماع الذي ذكره ابن تيمية بقوله: (إنَّ إلزَامَ النَّاسِ بما لَمْ يُلزِمهُم بهِ اللهُ ورسُولُهُ) فهو للقاضي الذي يحكم بغير ما أنزل الله سبحانه. وهذا حرام لا إشكال فيه عند المسلمين، ولا يصحّ دليلاً على حرمة التقنين الذي هو تدوين الأحكام الشرعية الثابتة بالدليل وأنّها حكم الله ورسوله.
إنّ تدوين الأحكام الشرعية ممّا حثّ الرسول والأئمة عليه، وهومن فعله وفعلهم صلوات ربي عليه وعليهم؛ فتدوين الأحكام أمرٌ واقع كما في تدوين الصحيفة التي نقل أنها من إملاء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على أمير المؤمنين علي (علیه السلام)، وورثها أهل بيته (علیهم السلام)، فقد تحدّث عنها أئمة أهل البيت، وشاهدها بعض من ثقات أصحابهم، ورووا عن الصحيفة التي كتبها الإمام علي (علیه السلام) في الفرائض والديّات وأرش الخدش.
ولا ينحصر التدوين بالصحيفة، بل كانت هناك صحائف أخر وأذكر منها:
ص: 124
1. ما رُوي في البصائر، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه سئل عن الجامعة قال: (تلك صحيفة..)(1).
وعن سليمان بن خالد مثله(2) وعن عمر بن أبان مثله(3). وبهذا المضمون روايات كثيرة رواها الصدوق والكليني والطوسي وغيرهم من أعلام الشيعة في كتبهم.
2. وقد أخذ العامة من هذه الصحيفة كالبخاري(4)، ومسلم(5)، وأحمد بن حنبل(6) في كتبهم وغيرهم من أعلامهم.
3. صحف أُخر مدّونة منها صحيفة أبي رافع المدني (ت 35 ﻫ )، وقال النجاشي: (ولأبي رافع كتاب السنن والأحكام والقضايا)(7) ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها(8). وصحيفة سعد بن عبادة الأنصاري (ت 15ﻫ ). ويرى البخاري أنّ هذه الصحيفة كانت نسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى الذي كان يكتب الأحاديث بيده وكان الناس يقرءون عليه ما جمعه بخطه(9). وصحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري ذكرها ابن
ص: 125
سعد في طبقاته(1)، وعبدالرزاق في مصنّفه(2)، والذهبي في تذكرته(3)، وروى مسلم في صحيحه أنها كانت في مناسك الحج، ويحتمل أن يكون فيها ذكر حجة الوداع التي ألقى فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) خطبته الجامعة، والتي عيّن فيها عليّاً (علیه السلام) وصيّاً وخليفة وإماماً للناس بعده(4).
4. قال السيوطي في تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: ((اختلف السلف) من الصحابة والتابعين (في كتابة الحديث فكرهها طائفة)... (وأباحها طائفة) وفعلوها منهم عمر، وعلي، وابنه الحسن، وابن عمرو، وأنس، وجابر، وابن عباس، وابن عمر أيضاً، والحسن، وعطاء وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز. وحكاه عيّاض عن أكثر الصحابة والتابعين، منهم: أبو قلابة، وأبو المليح ومن ملح قوله فيه: يعيبون علينا أنْ نكتب العلم وندونه... (ثم أجمعوا) بعد ذلك (على جوازها) وزال الخلاف. قال ابن الصلاح: ولولا تدوينه في الكتب لدُرِس في الأعصر الأخيرة)(5).
1. إنّ تدوين الأحكام الشرعية مستحب شرعاً؛ لما ورد من إجازته - بل أمره (صلی الله علیه و آله و سلم) - بالكتابة، ومن الصحُف التي ذكرناها، والأحاديث المتكثّرة في حثّه (صلی الله علیه و آله و سلم) على الكتابة والتي منها: اكتبوا ولا حرج، وقيّدوا العلم بالكتاب، وفعله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وفعل أمير المؤمنين علي وابنه
ص: 126
الحسن (علیهما السلام)، ومجموعة من الصحابة.
2. التقنين أمرٌ مستحدث والفرق بينه وبين التدوين الإلزام والجزاء - كما بيّنا -، كما أنّ التدوين جائز ومستحب؛ لعدم الإلزام، وأمّا التقنين فعلى القول بعدم الفرق بينه وبين التدوين فيأخذ حكمه، وأمّا على القول بالفرق بينه وبين التدوين، وأنّه أمر مستحدث - وهو الصحيح - فيكون المانع الفقهي والشرعي منه هو التقييد بمذهب معين، وإلزام القضاة المجتهدين به كما ذكروا في أدلّة حرمته، ولذا سنبحثه في المقصد الثاني.
إنّ التقنين هو تدوين الأحكام الشرعية وصياغتها في قوانين أو مواد قانونية ملزمة، ويترتب على مخالفتها الجزاء، ويلزم منه التقييد بمذهب معيّن أو القول الراجح أو المشهور، وإلزام القضاة به، وهذا هو المانع الفقهي الشرعي من تقنين وتدوين الأحكام الشرعية وصياغتها في قوانين، ولذا سنبحثه في فرعين:
الأوّل: آراء المذاهب الفقهيّة في التقييد بمذهب معيّن أو القول الراجح أو المشهور، و إلزام القضاة به.
والآخر: معالجة التعارض بين المذاهب الفقهيّة في تقنين وتدوين الأحكام الشرعية وصياغتها في قوانين.
أوّلاً: المذهب الجعفري: تقييد الحكام والقضاة بمذهب أهل البيت وهو الحقّ الذي يجب التشريع منه والحكم به، ولا يجوز الحكم بالمذاهب المخالفة إلّا للتقية
ص: 127
والإكراه ماعدا الدماء والفروج؛ لما ورد عن ابن إدريس الحلي(1) وأبي الصلاح الحلبي(2) والمحقّق الحلّي(3) والعلّامة الحلّي في التذكرة(4) وفي الإرشاد(5) والشهيد الأول(6) والمحقّق الأردبيلي(7) والشهيد الثاني(8) والفاضل الهندي(9) وغيرهم مع اختلاف عباراتهم بل لا خلاف أجده بينهم: لا يجوز لمن يتولّى الفصل بين المختلفين والقضاء بينهم أن يحكم إلّا بموجب الحقّ، ولا يجوز له أن يحكم بمذهب أهل الخلاف.
أقول: يستفاد من كلمات الأعلام الإجماع على التقييد بمذهب أهل البيت (علیهم السلام) والحكم به؛ لأنّه الحقّ، والمدار في الحكم على الحكم بالحقّ إلّا في حال التقية والاضطرار فجوزوا الحكم بمذاهب أهل الخلاف، وكلامنا ليس في حال الاضطرار والتقية الذي فيه تفصيل: على النفس لا كلام فيه، وعلى الغير فيه مناقشة بضعف أسانيد الروايات من جهة، وعدم دلالتها على المطلوب من جهة ثانية. وأمّا مع عدم التقية والاضطرار كما نحن فيه، فالتقييد بمذهب أهل البيت (علیهم السلام)، ولا يجوز للقاضي الحكم بمذاهب أهل الخلاف، لا تشريعاً، ولا تطبيقاً.
ص: 128
تنبيه: يمكن أن يقال: إنَّ الحكم بالحقّ من القرآن والرسول محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فيمكن الحكم والاستنباط من القرآن والرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) من دون الأخذ من أهل البيت (علیهم السلام) أو الأخذ منهم من دون اعتناق مذهبهم، فهل يصحّ ذلك؟ خصوصاً أنّ ما استدلوا عليه من وجوب الحكم بمذهب أهل البيت يمكن المناقشة فيه والاستدلال ضده وأنّ الطاغوت من يحكم بغير الحقّ مبالغة من الطغيان، وأمّا من يحكم بالكتاب وما ثبت عنده من السنة باجتهاده المطلق ويقضي بالبينات والأيمان لا نستطيع القول: إنه يحكم بغير الحقّ. نعم، وردت روايات عن أهل البيت (علیهم السلام) في المنع من التحاكم لغير العارف بأحكامهم والذي لا يحكم بحكمهم وما إلى ذلك، منها ما عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (كل حَكَمٍ حَكَمَ بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت)(1) وهذه الرواية صريحة بالحكم بقول أهل البيت (علیهم السلام)، وكذا رواية أبي خديجة وغيرها كلها تشير إلى أن الحكم والقضاء بالحقّ هو حكم أهل البيت (علیهم السلام)، ولا خلاف ولا نقاش في ذلك، إنّما الذي أريد أن أقوله وأناقش فيه: هل يستوي الاجتهاد في مذهب أهل البيت (علیهم السلام) في زمان الغيبة مع الاجتهادات في المذاهب الأُخر؟
والجواب: أنَّ هذا خلط واضح؛ لأنّ اجتهاد فقهاء أهل البيت (علیهم السلام) في تحصيل أحكامهم واتّباع رواياتهم وقواعدهم التي أسّسوها لهم، والقواعد الأصولية من نور فيضهم (علیهم السلام)، وقد أذنوا بل أوجبوا على أتباعهم الرجوع إليهم، وأمّا اجتهاد غيرهم فهو اجتهاد مع وجود النصّ وفي مقابلهم (علیهم السلام)، وأنّ المخالفين لهم وسّعوا المدارك إلى ما يشمل القياس والرأي والاستحسان وسدّ الذرائع وغيرها، وقد ذمّها أهل البيت (علیهم السلام)
ص: 129
ولم يقبلوها كأدلة للحكم الشرعي، فهي باطلة عندهم بل صرَّح الأئمة (علیهم السلام) أنّ الرشد خلاف فتاواهم. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلَالاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾(1).
ثانياً: المذاهب الفقهية الأربعة: فقد أجمعوا على عدم جواز تدوين الأحكام الشرعية وصياغتها في قوانين وإلزام القضاة بها من مذهب معين أو بالقول الراجح، فقد تقدَّم في المبحث الأول نهي (مالك) تدوين كتابه الموطّأ ليحكم به، وكذا علماء الأزهر.
ولنستعرض آراء المذاهب وعلى النحو الآتي:
1. المذهب الشافعي: لا يجوز تقييد القضاة بمذهب معيّن يرتضيه الخليفة، لما ورد عن النووي(2) والماوردي(3)، ولا يجوز أن يعقد تقلّد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه لقوله عزّ وجلّ: ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾(4) والحقّ ما دلّ عليه الدليل، وذلك لا يتعيّن في مذهب بعينه، فإن قلّد على هذا الشرط بطلت التولية؛ لأنّه علّقها على شرط، وقد بطل الشرط فبطلت التولية.
2. المذهب المالكي: تقييد القاضي المجتهد بمذهب معين:
أما العقد فغير جائز وينبغي فسخه وردّه، أو التولية صحيحة جائزة والشرط باطل. ونسب للمازري الجواز مع الاضطرار، أي جواز تقيّد القاضي بمذهب معيّن إذا
ص: 130
كان مقلّداً، ولا يحرم ذلك لما ورد عن مالك(1) وابن الحاجب: (وللإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه في الاجتهاد أو التقليد، ولو شرط الحكم بما يراه كان الشرط باطلاً والتولية صحيحة... هكذا نقله الطرطوشي عن الباجي، وهو جهل عظيم منهم، يريد لأنّ الحقّ ليس في شيء معين، وهذا القول عمل بمقتضى السياسة، ومقتضى الأصول خلافه، والمشروع اتّباع المجتهد مقتضى اجتهاده)(2).
3. المذهب الحنفي: المجتهد يعمل باجتهاده إلّا إذا وجد أفقه منه فاختلفوا في جواز الرجوع إلى الأفقه، ولا يقيّد بمذهب معيّن وإن كان الحكام نصبوا الحنفية للقضاء حتى وصل القول بأنّ عيسى بن مريم يحكم بمذهبهم ولكن لا يصحّ إلّا الصحيح؛ ولذا صرّح عقلاء المذهب ومجتهدوه بأنّ المجتهد إذا اجتهد في واقعة بحكم يمتنع عليه تقليد غيره فيها اتفاقاً، وأمّا المقلّد إن عرف أقوال الفقهاء وحفظها على الاختلاف والاتفاق حكم بما يعتقد قوله حقّ، وإن لم يحفظها عمل بفتوى أهل الفقه في بلده، وإن لم يكن إلا فقيه واحد يسعه العمل به. وهذا يعني حتى المقلّد لا يقيّد بمذهب معيّن، لما ورد عن ابن عابدين(3)، وأبي بكر الكاشاني(4):
4. المذهب الحنبلي: لا يجوز أن يُقلّد القضاء لواحد على أنْ يحكم بمذهب بعينه، والحقّ لا يتعيّن في مذهب، وأما المقلّد ففيه اختلاف وتفصيل، فقالوا بعدم جواز حكم المقلِّد بغير مذهب مقلَّده. وذهب الماوردي وغيره إلى جوازه. وقيل بالتفصيل بين
ص: 131
المتبحر وغيره، وتقدَّم أنَّه يراعي ألفاظ إمامه ومتأخّرها ويقلِّد كبار مذهبه في ذلك. وإن حكم بغير مذهب إمامه فإن كان قد ولّي على أن يحكم بمذهب معين لم ينفذ حكمه لقصور ولايته؛ لما ورد عن عبد الله بن قدامة(1)، والشافعي الصغير(2)، والبهوتي(3).وقد تحصّل ممّا ذكرنا: أنّ تقييد القضاة بمذهب معيّن وإلزامهم به يختلف باختلاف المذاهب:
1. أمّا المذهب الجعفري فبالإجماع على التقييد بمذهب أهل البيت (علیهم السلام) والحكم به؛ لأنَّه الحقّ، والمدار في الحكم على الحكم بالحقّ وتقييد الحكام والقضاة بمذهب أهل البيت وهو الحقّ الذي يجب أخذ التشريع منه والحكم به، ولا يجوز الحكم بالمذاهب المخالفة إلّا للتقيّة والإكراه ماعدا الدماء والفروج. ويشمل استنباط الأحكام الشرعية من المجتهدين من فقهاء أهل البيت (علیهم السلام).
2. وأمّا المذاهب الفقهية الأربعة فآراؤهم متّفقة على أن المجتهد المطلق لا يجوز أن يعقد تقلّد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه، لقوله عزّ وجلّ: ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾(4)، والحقّ ما دلّ عليه الدليل، وذلك لا يتعيّن في مذهب بعينه، وابن الحاجب يقول: (لأنّ الحقّ ليس في شيء معيّن)(5). والمقلّد فيه خلاف وتفصيل، قيل: بجواز تقييده بمذهبه، وقيل: بعدم الجواز، وقيل: بالتفصيل بين كونه متبحّراً فلا يجوز، وغير
ص: 132
المتبحر فيجوز تقييده على أن يحكم بمذهبه. وعلى قول الأصوليين: إنّ المجتهد إذا اجتهد في واقعة بحكم يمتنع عليه تقليد غيره فيها اتّفاقاً، لما ذكره أعلامهم أعلاه.
سؤال: إذا كان الحقّ ما دلّ عليه الدليل، والحقّ لا يتعيّن في مذهب بعينه؛ فهل يجوز الحكم بمذهب أهل البيت
(علیهم السلام) عندهم أو لا؟
الجواب: أذكر جواب اثنين من أعلامهم لحصر الحقّ في المذاهب الأربعة ونقل الإجماع على ذلك؛ فيخرج مذهب أهل البيت (علیهم السلام) عنها:
أحدهما: ابن عابدين بقوله: (المراد بالفقه ما يشمل مذهبنا وغيره، فإنّه بهذا المعنى لا يقبل الزيادة أصلاً، فإنّه لا يجوز إحداث قول خارج عن المذاهب الأربعة)(1).
والآخر: البهوتي بقوله: (لكن في الإفصاح أنَّ الإجماع انعقد على تقليد كلّ من المذاهب الأربعة وأنّ الحقّ لا يخرج عنهم)(2).
3. السلفية: حرمة التقنين والإلزام بمذهب معيّن أو بالراجح من الأقوال، واستدلوا بالقرآن والسنّة والإجماع وأنّ تقنين الأحكام الشرعية و إلزام القضاة بالحكم بها هو خلاف ما عليه الإجماع العملي للقرون المفضلة.
إنّ تدوين الأحكام الشرعية مستحب شرعاً؛ لما ورد من إجازته، بل أمره (صلی الله علیه و آله و سلم) بالكتابة والصحف التي ذكرناها والأحاديث المتكثرة في حثّه (صلی الله علیه و آله و سلم) على الكتابة، وفعله (صلی الله علیه و آله و سلم) وفعل أمير المؤمنين وابنه الحسن (علیهما السلام) ومجموعة من الصحابة، فهل يتعارض هذا
ص: 133
الاستحباب مع تحريم المذاهب الفقهية والسلفية له؟ وهل يمكن الخروج بأطروحة صالحة لولادة مشروع قانون إسلامي شرعي بجميع فروعه ولجميع المذاهب الفقهية وخصوصاً في الأحوال الشخصية ؟
الجواب: لا تعارض بينهما؛ لأنّ المستحب الذي فعله رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وحثّ عليه وفعله الأئمَّة والصحابة هو تدوين الأحكام الشرعية الثابتة من الله ورسوله، والذي لم تجوّزه المذاهب الفقهية الأربعة والسلفية هو تدوين وتقنين الأحكام الشرعية من مذهب معيّن أو بالقول الراجح، وإلزام القضاة المجتهدين به، ولذا يكون التعارض بينهم وبين الفقه الجعفري في التدوين بمذهب معيّن؛ لأنّ الفقه الجعفري يدّعي أنّ الحقّ في مذهبه، والمذاهب الأخرى تدّعي أنّ الحقّ لا يخرج عنها، فهل يمكن معالجة التعارض والخروج بأطروحة صالحة لولادة مشروع قانون إسلامي شرعي بجميع فروعه ولجميع المذاهب الفقهية وخصوصاً في الأحوال الشخصية؟
والجواب عن ذلك يمكن أن نبحثه في موضوعين:
الأوّل: المقصود من الحكم بالعدل.
لا خلاف بين المسلمين في وجوب الحكم بالحقّ وبما أنزله الله تعالى: ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾(1)، فالحكم بالعدل ليس إلا الحكم بالحقّ المأمور به، فقد يصدق على الحكم بالواقع، وهو حكم بالحقّ أو أن الحكم بالعدل أعمّ ممّا ذكر، فكلّ حكم بالحقّ حكم بالعدل دون العكس.
ويمكن أنْ يقال: إنّ الحكم بالعدل مورده الأحكام الحكومية والنظامية التي يحكم بها الحاكم حسب ما تقتضيه إدارة النظام ومصالحه، وأمّا ما يتعلّق بحقوق الناس والماليّات
ص: 134
ممّا يقع فيه بينهم التنازع والتخاصم، فالحكم فيه يجب أن يكون حكماً بالحقّ.
و يمكن أن يجاب عليه أيضاً بأنّ ما هو الواجب في مقام القضاء هو الحكم بالعدل لا الحكم بالواقع؛ لأنّه يحتاج إلى العلم بالغيب وإعماله ممّن كان عنده بإذن الله تعالى. والحكم بالعدل يتحقّق بحكم القانون والقواعد القضائية، وبأحكام الله الحقّة، فالحكم بالواقع حكم بالحقّ بكلا معنييه وإنْ كان الحاكم غير عالم بكونه حكماً بالواقع، ويجوز أن يكون المراد من قوله تعالى خطاباً لداود: ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾(1) الحكم بالواقع.
هذا بالنسبة إلى الحكم الكلي والقوانين التي يحكم بها بين الناس، وأمّا فضّ النزاعات والخصومات، وتطبيق الحكم بين الناس عملياً فيظهر مما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من قوله: (إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان)(2)، وفيه إشارة وتوطئة لبيان أنّه لا يقضي بعلمه بالواقعيّات، بل يقضي كغيره بالبينات والأيمان في الموضوعات الخارجية(3). وأنّ الحكم بالحقّ يصدق على ما وصل إليه المجتهدون على حسب الموازين التي قررها النبي وأهل بيته (علیهم السلام)، واختلاف المجتهدين بسبب اختلاف الموازين التي قرّرها صاحب الشرع لمعرفة الأحكام غير قادح في كون الجميع ممّا أنزل الله تعالى شأنه من الحكم، فإن ظنيّة الطريق لا تنافي قطعية الحكم كما قرّر في محلّه(4).
ص: 135
الموضوع الآخر: منصب القضاء شرعاً.
لا شكّ في أنّ آليّة تدوين الأحكام الشرعية بقوانين تتوقف على معرفة منصب القضاء شرعاً؛ لأنّ المنصب إذا انحصر بالقاضي المجتهد المطلق فلا داعي للتدوين ولا مبرر له؛ لأنّ كلّ مجتهد مطلق يحكم برأيه ويحرم عليه تقليد غيره في الفتوى فضلاً عن القضاء لما ثبت في الأمر الأول وعليه تكون الرسالة العمليّة لكلّ مجتهد هي القانون الذي يحكم به. وإنْ كان منصب القضاء للمجتهد المطلق وغيره فتدوين الأحكام الشرعية وصياغتها في قوانين أمرٌ ضروريٌ وحاجةٌ ماسة له فما هي آراء المذاهب الفقهية الإسلامية في منصب القاضي؟ وكيف يمكن تجويز إطلاق القاضي على الفاسق من القضاة في زماننا؟
وهذه الفقرة تتناولها نصوص الدستور، وفي هذا البحث أتناول آراء المذاهب الفقهيّة لا بوصفها نصّاً دستورياً، وإنّما بمقدار ارتباطها بالبحث، والنتائج التي تتوقف عليها في البحث الفقهي.
أوّلاً: الفقه الجعفري ومنصب القاضي.
والقدر المتيّقن منه (المجتهد المطلق)، وأمّا بالنسبة إلى غيره فنقول: تارة يقال بأنّ حكم الحاكم موضوع للنفوذ ووجوب الامتثال، وأخرى يقال بأنّه بيان لحكم الإمام (علیه السلام) , فيكون كناقل الحكم، فبناء على الثاني ينفذ حكمه سواء كان مجتهداً مطلقاً أم متجزئاً أم مقلداً.
وعلى الأول يكون لحكمه موضوعية، فيتوقف جواز الرجوع إلى المقلد والمتجزئ ونفوذ حكمهما على حجّة شرعية، ومع الشكّ فالأصل عدم النفوذ.
وآراء فقهاء الإمامية في ذلك يمكن حصرها في ثلاث:
ص: 136
الرأي الأوّل: ما هو المشهور بين الفقهاء - بل ادّعى بعضهم الإجماع عليه - من أنّ منصب القضاء للمجتهد المطلق الجامع للشرائط، ولا يحلّ لفاقدها أو بعضها تولي منصب القضاء حتى لو كان مجتهداً متجزئاً فضلاً عمّن دونه، منهم: الشيخ المفيد، وظاهر ابن إدريس(1)، والمحقّق الحلي(2)، والفاضل الآبي(3) والمحقّق الأردبيلي(4) والعلّامة في تذكرة الفقهاء(5)، والشهيد الثاني(6)، و السيد الخوئي(7)، والسيد محمد باقر الصدر(8)، والسيد عبد الأعلى السبزواري(9)، والسيد محمد محمد صادق الصدر(10)، والشيخ محمد إسحاق الفياض(11). واستدل بعضهم بالروايات والإجماع القطعي، بل الضرورة، وأنّ علماء الإمامية ومجتهديهم في جميع الأعصار والأمصار كانوا يباشرون القضاء والحكم بين الناس، ولا أحد منهم أنكر عليهم، فكان ذلك إجماعاً مستفاداً من السيرة مفيداً للقطع بالحكم، بل إجماع فقهاء الإسلام كما سيتضح.
ص: 137
نعم، قد يناقش في انحصاره به، وفي شموله للمتجزئ أو المقلد كما سيأتي في محله. ومع ذلك يرد عليهم بعض الإشكالات:
منها: دلالة المقبولة والمشهورة وغيرهما على العارف بأحكامهم، فهل يصدق على المجتهد المنسد عليه باب العلم والعلمي - بناءً على الحكومة - ومن رجع إلى الأصول العملية العقلية؟
الجواب: نعم، بناء على الكشف لا على الحكومة يصدق عليه أنّه عارف بحلالهم وحرامهم، كالمجتهد الذي قامت عنده الأمارة فيكون مشمولا للمقبولة(1). والمراد بحكمهم احترازاً من أن يحكم بحكم المخالفين، أو أهل العرف، أو بحكم العقل، أو بحكم السلطان.
الرأي الثاني: ما عن الشيخ الأنصاري من أنّه: (لا فرق بين المجتهدين المطلق والمتجزئ على الأقوى وفاقاً للمصنف والشهيدين وغيرهم)(2).
أقول: المقصود بالمصنف (العلامة الحلي)(3)، والشهيدين (الأول) في الدروس(4)، وأمّا الشهيد (الثاني) فلم يثبت لي قوله بالجواز للمتجزئ، حيث إنه قال في الروضة: (والاجتهاد في الأحكام الشرعية وأصولها)(5) فكلامه وإنْ كان مطلقاً إلّا أنّا لا نستطيع أن نستظهر شموله للمتجزئ خصوصاً بعد تصريحه في المسالك حيث قال: (والمراد
ص: 138
بكونه عالماً... كونه مجتهداً مطلقاً، فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعض على القول بتجزّئ الاجتهاد)(1)، وقال المحقق السبزواري في كفاية الأحكام: (وكيفما
كان فمع تيسّر المجتهد المطلق لا يكفي المتجزّئ؛ لما دلّ على تقديم قول الأعلم)(2). والشيخ حسين العصفور في اللوامع(3) حيث عدّ مقام العلماء في عصره من قبيل الاجتهاد المتجزئ، ولذا جوّزه.
وملخّص القول: إنّ الاختلاف في جواز القضاء للمتجزئ يرجع إلى أمرين:
أحدهما: في المقصود بالمتجزئ، فمن جوّزه يريد المعنى الذي قيّده الشيخ الأنصاري، وهذا عند من منع مجتهدٌ مطلقٌ وليس متجزئاً كما يظهر من أقوالهم.
والآخر: الأدلة على جواز تولّي المتجزئ للقضاء.
استدل الشيخ الأنصاري (قدس سره) بالأدلة الآتية:
1. الظاهر بل المقطوع أنّ المنصوبين في زمن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين (علیه السلام) لم يكن لبعضهم ملكة استنباط جميع المسائل، وإطلاق بعض أدلة النصب في حال الغيبة كما سيجيئ.
2. الرد على الإجماع المنسوب للشهيد الثاني بما ذكره الشيخ الأنصاري: (الإجماع في المقام على اعتبار كون القاضي مجتهداً محل نظر يظهر لمن لاحظ عبارة المسالك...الخ)(4).
3. رواية أبي خديجة: (ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه
ص: 139
بينكم فإني قد جعلته قاضياً)(1), وهي عمدة الأدلة على تولي المتجزئ للقضاء لأنها واضحة الدلالة على كفاية العلم ببعض أحكامهم (علیهم السلام) أو قضائهم في رواية أخرى.
والكلام فيها يقع في أمرين:
أحدهما: ضعف السند, ويظهر من بعضهم أنّ ضعف سندها بمعلّى وأبي خديجة، وأجاب الشيخ الأنصاري بقوله: (وأما الكلام في سند المرفوعة، فحقيق بالإعراض عنه بعد إطلاق المشهورة عليها، وركون المشهور إليها ولو في غير المقام بل في المقام...إلخ)(2).
أقول: الرواية منجبرة بالشهرة العظيمة لروايتها، حتى أنّ الأصحاب سمّوها بمشهورة أبي خديجة، ولذا يقول في المسالك عنها وعن مقبولة ابن حنظلة: (وفي طريق الخبرين ضعف، لكنهما مشتهران بين الأصحاب، متفق على العمل بمضمونهما بينهم، فكان ذلك جابراً للضعف عندهم)(3).
وأفاد السيد الخوئي (قدس سره): (بأنّ الرواية ليست ضعيفة بعد توثيق النجاشي، وتضعيف الشيخ (الطوسي) لا يمكن الأخذ به في نفسه في المقام، فتوثيق النجاشي ومدح ابن فضال يبقى بلا معارض، فالرواية صحيحة)(4).
والآخر: دلالة الرواية على تولي المتجزيء للقضاء؛ وذلك..
أوّلاً: إنَّ (من) للتبعيض؛ لأنّ المفرد إذا وقع بعد (من) مضافة للجمع تفيد
ص: 140
التبعيض لا البيان.
وثانياً: مقبولة عمر بن حنظلة لا معارضة ولا مقيدة لها؛ لعدم التنافي بينهما - بناءً على إفادة الجمع المضاف للعموم -؛ لأنّ المقبولة واردة في مقام بيان المرجع وتعريفه،
فالقيود فيها احترازيّة.
وثالثاً: الرواية تدل على القاضي المنصوب ابتداءً لا قاضي التحكيم؛ لأنّ المشهور يعدُّ (العلم) لإخراج المقلّد ولمناسبة الحكم والموضوع ولصريح كثير من المجتهدين بأن دلالتها تامة على القاضي المنصوب. فالرواية دالة على الاجتهاد خلافاً للسيد الخوئي(1).
أقول: ولكن ذكر الشيخ الأنصاري في رسائله ما لفظه: (فالتأمل في الخبر المخالف للمشهور إنّما هو إذا خالفت الشهرة نفس الخبر، لا عمومه أو إطلاقه، فلا يتأملون في عمومه إذا كانت الشهرة على التخصيص)(2). والحال أنّ الشهرة مخالفة لإطلاق الخبر، فليتأمل.
الرأي الثالث: ما عن صاحب الجواهر في منصب القاضي:
وهو جواز تولي القضاء لكل مؤمن عارف بالأحكام ولو تقليداً بشرط الحكم بالحقّ.
قال (قدس سره): (إنّ المستفاد من الكتاب والسنة صحة الحكم بالحقّ والعدل والقسط من كل مؤمن. كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾(3) و﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾(4)
ص: 141
والنصوص البالغة بالتعاضد أعلى مراتب القطع الدالة على أنّ المدار الحكم بالحقّ الذي هو عند محمّد وأهل بيته (علیهم السلام)، كقول الصادق (علیه السلام): (القضاة أربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة... ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنة). وخبر أبي خديجة عنه (علیه السلام): (إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا...) بناءً على إرادة الأعمّ من المجتهد، بل لعلّ ذلك أولى من الأحكام الاجتهادية الظنيّة. وفي خبر عبد الله بن طلحة - الوارد في اللص الداخل على المرأة وقتل ولدها وأخذ ثيابها - عن الصادق (علیه السلام) حيث أمر السائل بالقضاء بينهم بما ذكره الإمام. ولعلّ غيره أيضاً كذلك، فدعوى قصور من علم جملة من الأحكام مشافهة أو بتقليد لمجتهد عن منصب القضاء بما علمه خالية عن الدليل.
وحينئذٍ فتظهر ثمرة ذلك بناءً على عموم هذه الرئاسة أنّ للمجتهد نصب مقلِّده للقضاء بين الناس بفتاواه التي هي حلالهم وحرامهم
(علیهم السلام)، فيكون حكمه حكم مجتهده، وحكم مجتهده حكمهم (علیهم السلام)، وحكمهم (علیهم السلام) حكم الله تعالى شأنه، والرّاد عليه رادّ على الله تعالى)(1).
ويمكن الرّد على أدلته:
بأنّ إطلاق الآيتين اللتين ذكرهما (قدس سره) ممنوعٌ؛ لإهمالهما وورودهما في مقام بيان حكم آخر. ولو سلّمنا الإطلاق القابل للاستدلال بأنّ المأمور بالحكم هو الذي كان عالماً بالحقّ وبما أنزل اللَّه تعالى في الشبهات الموضوعية التي هي محل استعمال القاضي للبينة والأيمان(2).
ص: 142
وأمّا الروايات الدالة على أن المدار الحكم بالحقّ فالأُولى مرفوعة، ودلالتها قاصرة عن المدعى، والثانية - بعد القول بحجيتها وتمام سندها ودلالتها فقد أثبتنا دلالتها - على خصوص الاجتهاد، لا الأعم من الاجتهاد لتشمل أي مؤمن، والثالثة ضعيفة سنداً؛ لمجهولية عبد الله بن طلحة، ولو تنزلنا عن ضعف السند فالدلالة على المطلوب غير تامّة، إمّا لأنَّها في واقعة خاصة أذن له الإمام بالقضاء فيها، أو لأنّ الإمام اطّلع على الواقعة وقضى بها وأمره بنقل قضائه إليهم، أو ربما يكون المخاطب مجتهداً وأمره الإمام بالقضاء، ويحتمل غير ذلك.
وأمّا قوله: (قد يقال: باندراج من كان عنده أحكامهم بالاجتهاد أو التقليد الصحيحين وحكم بها بين الناس، كان حكماً بالحقّ والقسط والعدل) فالجواب عنه: إنّ المدار على الحكم بالحقّ صحيح، ولكن مَنْ يستطيع أن يحقّق الحكم بالحقّ خصوصاً بين المتنازعين بالأمور المالية؟ وما روي عن رسول الله صلوات ربي عليه وآله قوله: (إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان)(1)، ولم يقل أقضي بينكم بالحقّ. نعم، يمكن تحقيق الحكم بالعدل الذي هو أعمّ من الحكم بالحقّ حسب الضوابط والقواعد التي أسّسها رسول الله وأهل بيته (علیهم السلام)... وأنّى للمقلِّد الاطّلاع عليها ودقّة تطبيقها، وإنْ علم بها فهو ليس بمقلِّد.
وأمّا الإذن منهم؛ لما روي عن الصادق
(علیه السلام) في خبر سليمان بن خالد: (اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين, كنبي أو وصي نبي)(2).
ص: 143
فأقول: نعم, لو ثبت الإذن منهم (صلوات الله عليهم) لتصدي المقلِّد للقضاء لوجب علينا القبول والتسليم، ولكنه لوكان لبان. ولو سلم عدم الإذن لما جاز لهم التصدّي قطعاً؛ لأنّ الأصل في إلزام الحكم من شخص على شخص آخر هو المنع؛ وإلزامه به يحتاج إذن الشارع الأقدس، وقد أذن للنبي ومن نصبه ومن أذن له، فيخرجون عن الأصل؛ لثبوت الإذن, فيبقى من لم يؤذن له داخلاً بالمنع، وهو مَن دون المجتهد كالمقلِّد.
وهنا مسألتان:
(مسألة 1): القضاء من وظائف المجتهد، فهل له تفويض أمره إلى المقلِّد أو لا؟ وعلى فرض العدم، فهل له توكيله في أصل القضاء بجميع مقدّماته أم لا؟
وجوه واحتمالات.
والجواب: يعتمد على بيان مقدّمتين:
الأولى: قابلية المقلِّد للتصدّي له بحسب الحكم الجعلي الإلهي.
والثانية: ولاية المجتهد وسلطنته على إعطائه له.
ومن دون واحدة من المقدّمتين لا مجال لإثبات ذلك.
وما قُرّر عن السيد الخوئي (قدس سره): (فيما إذا لم يتمكن من ذلك، يجري عليه حكم قاضي التحكيم، فيحكم طبق رأي نظر مجتهد آخر)(1).
فنقول: إنّ المقدمة الأولى فرع إثبات عدم دخل الاجتهاد في أصل موضوع القضاء شرعاً، والمحلّ غير قابل؛ إذ من البديهي أنّ مثل هذه العمومات لا تصحّ للمشرّعية،
ص: 144
ولا يثمر في مورد لم يحرز من الخارج قابلية محلّه. وإثبات مثل هذا العموم في غاية الإشكال.
يبقى الكلام في المقدمة الثانية - في صلاحية الفقيه لمثل هذا التفويض - ويمكن منعه أيضاً باعتبار أنّه ليس من الأمور الحسبيّة التي عُلم من الشارع مطلوبية وجوده، فهو موقوف على ثبوت الولاية العامّة، وأنّ ما للإمام لهم، وهو أيضاً في غاية الإشكال(1).
أقول: وهذا الكلام لا يصحّ دليلاً للمنع عند من يقول بالولاية للمجتهد المطلق لسببين: الأول: تنصيب أُولي الأمر للفقهاء وجعلهم حاكمين. والآخر: السيرة العملية القطعية، حيث أجاز الفقهاء للمقلِّد الحكم والقضاء بشرط أن يكون الحكم بالحقّ والتمكّن منه خصوصاً للضرورة، ولعدم تعطيل الأحكام والفصل بين المنازعات والخصومات.
(مسألة 2): هل يجوز توكيل القضاء أو تجويزه لمن لم يكن مؤمناً ولا مقلّداً أو كان فاسقاً كما عليه القضاء في الدول الإسلامية في زماننا؟
الجواب: لا خلاف ولا إشكال في عدم تولّيه منصب القضاء بنوعيه القاضي المنصوب وقاضي التحكيم؛ لأنّه غير قابل للإمامة ولا تقبل شهادته، فلا يجوز له التصدّي للقضاء بطريق أولى، فهذا كلّه خلاف الشريعة المقدّسة، وتسميته بالقاضي تحكّم ظاهر، وتجري على الله عصمنا الله وإيّاكم من منابر أهل الضلال والجور والنار، ولوضوحه لا نحتاج إلى ذكر الأدلة وآراء المذاهب في هذا المختصر.
ثانياً: آراء المذاهب الفقهية الإسلامية الأُخر في منصب القاضي:
1. أمّا المذهب الشافعي فيشترط في القاضي الاجتهاد المطلق، وهو القادر على
ص: 145
الاستنباط المباشر من الكتاب والسنة، ولا يجيز تولي غيره للقضاء ممّن دونه، لما ذكره الماوردي: (فإنْ قلّد القضاء فحكم بالصواب أو الخطأ كان تقليده باطلاً، وحكمه وإن وافق الصواب مردود)(1). نعم, قد يفهم من النووي جواز تولّي مَن دون المجتهد المطلق(2)، والرملي: (فولّى السلطان أو من له شوكة... فاسقاً أو مقلداً... ولو جاهلاً نفذ قضاؤه)(3).
2. وأمّا المذهب المالكي فمع فقد المطلق يقولون بجواز تولي المقلِّد الأمثل، لما ذكره الخطّاب الرعيني بقوله: (وقدرةٌ على الترجيح بين أقاويل أهل مذهبه)(4).
3. وأمّا المذهب الحنفي فمع تعذره... فيصحّ تولية العامي... فلا بُدَّ من كون الحاكم في الدماء والفروج عالماً ديناً كالكبريت الأحمر(5). وهم يجوّزون قضاء المقلِّد ويعدونه فاسداً في نفسه، لما ذكره أبو يوسف(6)، وابن عابدين(7).
4. وأمّا المذهب الحنبلي فقد ادّعى الإجماع، والمفتي لا يجوز أن يكون عامياً مقلِّداً فالحاكم أولى. ونسب إلى بعضهم القول بجواز تولّي العامي ورفضه الأغلب, لما ذكره ابن قدامة(8).
ص: 146
فالنتيجة في منصب القاضي:
أنّ المجمع عليه أنَّه منصب المجتهد المطلق، وجوّز بعض الإمامية تولّي المجتهد المتجزئ القضاء؛ لصحيحة أبي خديجة في المقام خصوصاً، على نسخة (قضائنا) - كما في الكافي(1) والوسائل(2) بسند آخر - بدل قضايانا؛ لتماميتها سنداً ودلالةً على تولّي المجتهد المتجزئ القضاء إنْ كان مجتهداً بالمسائل التي تخصّ القضاء في المسألة المتنازع فيها كما يجوز للمجتهد المطلق. وجواز تولي القضاء للمتجزئ مطلقاً أو إذا تعذر الوصول إلى المطلق أو تعسّر ويمضي حكمه مطلقاً.
وجوّزت المذاهب الفقهية الأربعة لمجتهد المذهب تولي منصب القضاء، وكذا المقلِّد الأمثل - الذي هو محتاط عند الإمامية ومجتهد فتوى عند المذاهب - خلافاً للمشهور.
وجوّز صاحب الجواهر لكلّ مؤمن عارف بالأحكام ولو تقليداً، وبعض الحنفية للعامي والجاهل إنْ نصَّبه السلطان ذو الشوكة؛ ولكن لا يمكن المساعدة عليه لما ذكرنا.
نعم يجوز للمجتهد المطلق تفويض القضاء إلى المقلِّد، أو توكيله والحكم بفتوى المجتهد المطلق؛ لولايته العامة على القضاء.
أقول: إنّ المقلِّد والعامي لا يعدّ قاضياً، وإنّما قاضي تحكيم أو قاضي ضرورة وهو الصحيح؛ لعدم قابليته لمنصب القضاء. وأمّا الفاسق وغير المسلم فلا يجوز توليه؛ لأنّ هذا خلاف الشريعة المقدَّسة وتسميته بالقاضي تحكّم ظاهر وتجرُّؤ على الله، عصمنا الله
ص: 147
وإيَّاكم من منابر أهل الضلال والجور والنار.
فالنتيجة النهائية لهذا الفرع:
أنّه يمكن معالجة التعارض بين المذاهب الفقهية الإسلامية في التقنين وتدوين الأحكام الشرعية وصياغتها في قوانين والحكم بها بعد ثبوت أمرين:
1. يمكن تحقيق الحكم بالعدل الذي هو أعمّ من الحكم بالحقّ حسب الضوابط والقواعد التي أسّسها رسول الله وأهل بيته (علیهم السلام) وعمل بها المجتهدون من فقهاء المذاهب الإسلامية.
2. عدم انحصار منصب القاضي بالمجتهد المطلق, وقد ثبت جواز تولي القضاء لغيره.
وبهذا ينتهي المبحث الأوَّل، ويليه المبحث الثاني، والذي فيه مطلبان: دراسة تحليلية وفقهية لعنوان الباب الأوّل (الزواج) والمادة الثالثة (ف1) من قانون الأحوال الشخصية العراقي، وما يقابلها عنوان الباب الثاني (النكاح) والمادة (42) من مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري. ودراسة تحليلية وفقهية للمادة الثالثة (ف4) تعدّد الزوجات، وما يقابلها المادة (102) و(104) من مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري في العدد القادم إن شاء الله تعالى.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
* * *
ص: 148
يُسلّطُ هذا البحث الأضواء على مسألة أُصوليَّة مهمَّة وهي (تبعيَّة المدلول الالتزامي للمدلول المطابقي) حيث استعرض البحثُ الأقوال مع أدلّتها، ثُمَّ نقدها ومناقشتها.
وسيتَّضح - إنْ شاء الله تعالى - أنَّ الأقوال ثلاثة، أوّلها: التّبعيّة مطلقاً. ثانيها: عدم التبعيّة مطلقاً. ثالثها: التَّفصيل.
ثُمَّ ينتهي البحث إلى اختيار القول الثالث، ولكن على أساس آخر غير الّذي اعتمده أصحاب هذا القول.
ص: 149
ص: 150
بسم الله الرحمن الرحیم
من المسائل الأصوليّة المهمة هي هذه المسألة، لما يترتب عليها من ثمرات فقهيّة كثيرة، وقد وقعت محلّا ً للكلام بين الأعلام، حيث تعرّضوا لبحثها في موضعين، الأوَّل: في مبحث الضد، والآخر: في مبحث التعارض، وسنعرضها ضمن الأبحاث التالية:
البحث الأوّل: تحرير محل النّزاع.
البحث الثّاني: آراء الأعلام في المسألة.
البحث الثّالث: الرأي المختار.
من الواضح أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الوجود، بمعنى أنّ وجودها تابع لوجود المطابقيّة، ولكن الكلام في الحجّيّة، فهل الدلالة الالتزاميّة تابعة للمطابقيّة في الحجّيّة أيضاً؟ بمعنى أنّ دليل الحجّيّة يدل عليهما في عَرَض واحد، أو يدلُّ عليهما بشكلٍ طولي فدلالته على الحجّيّة الالتزاميّة فرع دلالته على الحجّيّة المطابقيّة. ويترتب على الاحتمال الأوَّل عدم الملازمة بين الدلالتين في الحجّيّة، إذ دليل الحجّيّة يدلّ على كلِّ واحدةٍ منهما بشكلٍ مستقل، فلا يلزم - حينئذٍ - من سقوط إحداهما سقوط الأخرى لعدم التلازم بينهما في الحجّيّة، بينما على الاحتمال الثّاني يمكن أن تثبت الملازمة بينهما في الحجّيّة لافتراض الطوليّة بينهما، فإذا سقطت المطابقيّة سقطت الالتزاميّة؛ لأنّها
ص: 151
فرعها، وهذا بخلاف العكس، فإذا سقطت الالتزاميّة فلا يلزم منه سقوط المطابقيّة؛ لأنّ المطابقيّة ليست فرعاً منها.
والذي ينبغي أن يُعلم أنّ المراد من السّقوط: سقوط حجّيّة الدلالة المطابقيّة، لا سقوطها في الوجود، فإذا عُلم بكذب المُخبِر أو بخطئه خرج المورد عن محل النّزاع؛ للعلم حينئذٍ بعدم وجود الدلالة المطابقيّة من رأس وما كان موجوداً قبل العلم مجرد وهم، وسيتضح لاحقاً - إن شاء الله تعالى - أنّ بعض المناقشات والإشكالات تبتني على دخول هذه الصورة في محلّ النّزاع، وهو أمر لا يمكن قبوله؛ لكون المورد حينئذٍ من السّالبة بانتفاء الموضوع، فكيف يُعقل بقاء الدلالة الالتزاميّة فضلاً عن حجّيّتها بعد العلم بعدم وجود الدلالة المطابقيّة!
إذا اتّضح هذا يُعلم أنّ القائل بعدم التبعيّة - كالمحقّق النّائيني (قدس سره) - لا يقول بها في هذه الصورة وإنّما يقول بها في صورة سقوط حجّيّة الدلالة المطابقيّة دون وجودها، فالمفروض وجودها الذي يُعلم معه وجود الالتزاميّة، ولكن سقطت حجّيّتها بسبب وجود المعارض مثلاً أو غيره، فيبقى النزاع بعد ذلك في بقاء حجّيّة الدلالة الالتزاميّة.
والآراء ثلاثة:
الأوَّل: عدم التبعيّة مطلقاً.
الثّاني: التبعيّة مطلقاً.
الثّالث: التفصيل.
وتفصيلها ما يلي:
ص: 152
وقد صار إليه جماعة من الأعلام، منهم: المحقّق الخراساني، والمحقّق العراقي، والمحقّق النّائيني، والسّيّد البجنوردي، والسّيّد الحكيم (قدس سرهم).
وحاصله: أنّ الدلالة الالتزاميّة وإن كانت تابعةً للدلالة المطابقيّة في الحدوث والوجود، لكنّها ليست تابعةً لها في الحجّيّة، فمتى سقطت المطابقيّة عن الحجّيّة بسبب التعارض أو نحو ذلك لا يلزم منه سقوط الالتزاميّة عنها، وقد اتّضح ممّا سبق أنّ محل الكلام فيما لو سقطت المطابقيّة عن الحجّيّة فقط، لا عن الوجود، وإلّا لسقطت الالتزاميّة حينئذٍ أيضاً؛ لكونها من السّالبة بانتفاء الموضوع.
وبتعبير آخر: إنّ الدلالة المطابقيّة قد أُخذت في موضوع وجود الالتزاميّة، ولم تؤخذ في موضوع حجّيّتها، فهي فرعها في الوجود والتحقّق، وليست فرعها في الحجّيّة، فهما بلحاظ دليل الحجّيّة متساويان.
وقبل عرض أدلة هذا الرأي لابأس بنقل بعض عباراتهم..
اختلفت الكلمات في نسبة هذا الرأي إليه بين مثبتٍ ونافٍ، ولكن عند التأمل فيما ذكره (قدس سره) في حاشيته على الفرائد المسمّاة (دُرر الفوائد) يتّضح التزامه بالتفكيك بين الدلالتين في الحجّيّة.
حيث ذكر في تقريب دلالة الخبرين المتعارضين على نفي الثّالث ما نصّه:
(وأمّا بالنّسبة إلى مدلولهما الالتزامي - وهو نفي الثّالث المخالف لكلّ واحد منهما - فلمّا لم يكن بينهما تنافٍ ولم يُعلم كذب أحدهما - ولو إجمالاً - فلا مانع من جمعهما مع وجود المقتضي على ما هو المفروض من اشتمال كلٍّ على جميع ما يعتبر في الحجّيّة.
ص: 153
وبالجملة: لا بُدَّ أن يقتصر في رفع اليد عن الحجّيّة مع وجود المقتضي على قدر المانع، ولا مانع منهما إلَّا بالنّسبة إلى مدلولهما المطابقي دون الالتزامي، فيكون نفي الثّالث مستنداً إلى كلّ واحد)(1).
وتوضيحه: أنّ المدلول المطابقي لكلٍّ من المتعارضين قد سقط عن الحجّيّة بسبب المعارضة، ولكن مقتضى الحجّيّة في كلٍّ واحدٍ منهما موجود إلّا أنّ المعارضة تمنع من تأثيره، وأمّا المدلول الالتزامي لكلٍّ منهما فلا يوجد ما يمنع من تأثيره؛ إذ لا معارضة بينهما حسب الفرض، فيكون المدلول الالتزامي في كلٍّ منهما حجّة في نفي الثّالث المخالف. وواضح من هذا البيان التزامه (قدس سره) بالتفكيك بين المدلولين في الحجّيّة، ولكن مع توفر شرطين أساسيين هما:
1. مقتضي الحجّيّة في كلا المدلولين المطابقيين والالتزاميين.
2. وجود المانع وهو التكاذب بلحاظ المدلولين المطابقيين، وعدم وجوده بلحاظ المدلولين الالتزاميين.
ثمّ ناقش (قدس سره) في هذا الدليل وقال ما نصّه:
(ولكن التّحقيق على ما يقتضيه النّظر الدّقيق أن يقال: إنّ الأصل سقوط أحدهما بلا عنوان، من دون تعيين لا واقعاً ولا ظاهراً عن الحجّيّة، وبقاء الآخر كذلك على الحجّيّة. وأمّا نفي الثّالث مستند إلى أحدهما الحجّيّة، لا إلى كلِّ واحد؛ وذلك لأنّ المفروض لمّا كان وجود المقتضي وليس المانع إلَّا العلم بالكذب وليس ما عُلم كذبه إلَّا أحدهما كذلك، فلا وجه لسقوط غيره عن الحجّيّة بالنّسبة إلى كلا مدلوليه المطابقي والالتزامي، كما لا وجه لبقائه على الحجّيّة بالإضافة إلى مدلوله الالتزامي، وهذه على ما
ص: 154
قرّر أوَّلاً؛ إذ ليس للَّفظ دلالة عليه بالاستقلال، بل يتبع دلالته على مدلوله المطابقي - كما حقّق في محلَّه - فكيف يبقى حجّة بالنّسبة إليه بعد ما لم يكن حجّة إلى ما كان دلالته بتبعه. نعم، لمّا كانت الحجّة أحدهما بلا عنوان كانت حجّيّته بالإضافة إلى مؤدّاه المطابقي غير مفيدة إلَّا نفي الثّالث بتبعه، لا التزام به بخصوصه لعدم تعيّنه، وكان الأمر بالنّسبة إليه كما إذا لم يكن واحد منهما بحجّة أصلاً، كما لا يخفى)(1).
وحاصل المناقشة: أنّنا نلتزم بنفي الثّالث ولكن ليس بكلا المدلولين الالتزاميين، وإنّما بأحدهما؛ لأنّ أحد المدلولين المطابقيين نعلم بكذبه، وبالتالي نعلم بعدم صدوره أصلاً، فكيف يبقى مدلوله الالتزامي على الحجّيّة، وهو فرعه في الوجود والتحقّق؟ وهذا ممّا يؤكّد ما ذكرناه في البحث الأوَّل من خروج صورة العلم بكذب المُخبِر أو الخبر عن محل النّزاع؛ إذ الجميع متفق على سقوط المدلول الالتزامي عن الحجّيّة؛ لأنّه من السّالبة بانتفاء الموضوع.
والذي نريد قوله: إنّ المحقّق الآخوند (قدس سره) لم يناقش في كبرى (التفكيك بين المدلولين) وإنّما ناقش في قضية أخرى، وهذا ممّا يؤكّد التزامه بها.
قال في المقالات ما نصّه:
(إنّ دليل حجّيّة الظهور لا يفرّق بين الدلالتين، [فتكون] الدلالة الالتزاميّة [مستقلة] تحت [التعبّد] بالظهور وإن [كانت بوجودها] تبعاً للدلالة [المطابقيّة]، ولذا ربّما [ تكون ] حجّة بلا حجّيّة الدلالة المطابقيّة، كما هو الشأن في موارد التعارض
ص: 155
الموجب لتساقطهما في المدلول المطابقي مع قيامهما على الحجّيّة في [المدلول] الالتزامي في نفي الثّالث كما هو تبانيهم أيضاً على ذلك كما لا يخفى)(1).
قال (قدس سره) - في ردّ مَن قال: إنّ الدلالة الالتزاميّة فرع المطابقيّة وبعد سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزاميّة لهما على نفي الثّالث - ما نصّه:
(إنّ الدلالة الالتزاميّة إنّما تكون فرع الدلالة المطابقيّة في الوجود لا في الحجّيّة)(2).
قال (قدس سره) ما نصّه:
(إنّ تبعيّة دلالة اللفظ والكلام على مدلوله الالتزامي لدلالته على مدلوله المطابقي في عالم الوجود، لا في عالم الحجّيّة، فيمكن التفكيك في عالم الحجّيّة بعد وجودهما معاً)(3).
كرّر (قدس سره) في كتابه حقائق الأصول التزامه بفكرة (التفكيك بين المدلولين) في عدّة مواضع منه، فمن ذلك قوله:
(فإنْ قلت: الدلالة على ثبوت المناط إذا كانت التزاميّة فهي تابعة للدلالة المطابقيّة على فعليّة الحكم، فإذا سقطت الدلالة المذكورة عن الحجّيّة سقطت الدلالة الالتزاميّة أيضاً.
ص: 156
قلت: الدلالة الالتزاميّة لا بُدَّ أن تكون تابعة للدلالة المطابقيّة ثبوتاً ووجوداً ولا يجب أن تكون تابعة لها حجّيّة وإثباتاً؛ إذ لا مانع من التفكيك بينهما في الجملة إذا ساعده الجمع العرفي كما في بعض الأمارات التي لا يكون المثِبت منها حجّة؛ فإنّ ذلك إنّما هو لعدم حجّيّة الدلالة الالتزاميّة مع حجّيّة الدلالة المطابقيّة، وكما في باب المتعارضين فإنّه سيأتي - إن شاء الله تعالى - في مبحث التعارض أنّ الوجه في بناء الأصحاب على حجّيّة المتعارضين في الدلالة على نفي الحكم الثّالث في مورد التعارض - مع البناء على أصالة سقوط المتعارضين عن الحجّيّة - هو إمكان التفكيك بين الدلالة المطابقيّة والالتزاميّة في الحجّيّة)(1).
هؤلاء خمسة من الأعلام قد التزموا بالتفكيك بين المدلولين، كما قد اتّضح ذلك من خلال كلماتهم التي نقلناها، وهناك غيرهم قد التزموا بذلك أيضاً، كالسّيّد مصطفى الخميني (قدس سره) (2).
وبعد عرض كلمات أصحاب هذا الرأي ننتقل إلى عرض أدلتهم أو ما يمكن الاستدلال به لهم، مع عرض المناقشات التي سُجلت عليها، أو التي يمكن أن تُسجل عليها، وهي كالتالي:
يتفق أصحاب هذا الرأي على أنّ دليل الحجّيّة شامل لكل من المدلولين في عرض واحد، فالمدلول المطابقي مشمول لدليل الحجّيّة القائل (صدّق العادل)، كما أنّ المدلول الالتزامي مشمول أيضاً له، فكلُّ واحدٍ منهما فرد من أفراد الحجّيّة بشكل مستقل عن الآخر، فإذا سقط أحدهما عن الحجّيّة لسببٍ وآخر لا يلزم منه سقوط الآخر عنها أيضاً.
ص: 157
ويمكن أن نصوغ هذا الدليل بشكل أكثر فنيّة، فنقول: إنّ دليل حجّيّة الخبر عامّاً أو مطلقاً يشمل كل خبرٍ خبر، سواء الأخبار ذات المداليل المطابقيّة أو ذات المداليل الالتزاميّة، وسواء الأخبار المتعارضة فيما بينها أو غير المتعارضة. نعم، خرج من تحت هذا العموم أو الإطلاق الخبران المتعارضان، وحيث إنّ المتيقّن منه خروج المدلولين المطابقيين، ولا يُعلم بخروج المدلولين الالتزاميين، نقتصر فيه على المتيقّن، ويبقى غيره تحت العامّ أو المطلق، بعد الالتفات إلى كون المدلول الالتزامي فرداً آخر من أفراد الحجّيّة كما ذكرنا، فيثبت المطلوب.
ثم إنّ التفكيك بين الدلالتين ليس بعزيز؛ إذ له شواهد متعددة، نذكر منها:
الشّاهد الأوَّل: فيما لوكان المدلول المطابقي مجملاً، والمدلول الالتزامي مبيَّناً، فإنّه ممّا لا شكّ فيه يكون المدلول الالتزامي حجّة فيؤخذ به، بخلاف المطابقي.
الشاهد الثاني: إنّ سقوط تمام المطابقي لا يلازم سقوط المدلول التضمني، ومثاله: الخبر إذا سقط بعضه فإنّ البعض الآخر يبقى على الحجّيّة ويؤخذ به.
وقد سُجلت على هذا الدليل عدة إشكالات، أهمها:
أمّا النّقض فبعدة موارد، منها..
(ما إذا قامت البيِّنة على ملاقاة الثّوب للبول - مثلاً -، ثُمَّ علمنا من الخارج بكذب البيِّنة، أو عدم ملاقاة الثّوب للبول، ولكن احتملنا نجاسته من جهة أُخرى - كملاقاته للدم مثلاً أو نحوه - فحينئذ هل يمكن الحكم بنجاسة الثّوب من جهة
البيِّنة المذكورة، بدعوى: أنّ الإخبار عن ملاقاة الثّوب للبول إخبارٌ عن نجاسته بالدلالة الالتزاميّة؛ لأنّ نجاسته لازمة لملاقاته للبول، وبعد سقوط البيِّنة عن الحجّيّة
ص: 158
بالإضافة إلى الدلالة المطابقيّة من جهةِ مانعٍ لا موجب لسقوطها بالإضافة إلى الدلالة الالتزاميّة؛ لعدم المانع عنها أصلاً، ولا نظن أن يلتزم بذلك أحد حتّى من يدعي بأنّ سقوط الدلالة المطابقيّة عن الحجّيّة لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزاميّة عنها، وهذا واضح جداً)(1).
وفيه:
أنَّ هذا المورد خارج عن محل الكلام؛ لأنّه يفترض كذب البيِّنة، أو العلم بخطئها، كما لو عُلم بعدم حصول الملاقاة؛ فإنّ هذا المورد - كما ذكرنا عند تحرير محل النّزاع - خارج عن كلامنا؛ لأنّ مفروض الكلام سقوط حجّيّة المدلول المطابقي فقط، لا سقوطه وجوداً وثبوتاً؛ فإنّ المورد سيكون من السّالبة بانتفاء الموضوع.
(ما إذا كانت الدار - مثلاً - تحت يد زيد، وادّعاها عمرو وبكر، وأَخبرتْ بيِّنة على أنّها لعمرو، وأُخرى على أنّها لبكر فتساقطت البيِّنتان من جهة المعارضة بالإضافة إلى مدلولهما المطابقي، فلم يمكن الأخذ بهما ولا بإحداهما، فهل يمكن عندئذ الأخذ بالبيِّنتين في مدلولهما الالتزامي - وهو عدم كون الدار لزيد - بدعوى: أنّ التعارض بينهما إنّما كان في مدلولهما المطابقي لا في مدلولهما الالتزامي، وبعد سقوطهما عن الحجّيّة في مدلولهما المطابقي لم يكن موجب لرفع اليد عنهما في مدلولهما الالتزامي - وهو أنّ الدار ليست لزيد - فلا بُدَّ أن يعامل معها معاملة مجهول المالك؟ ولا نظن أن يلتزم به متفقه فضلاً عن الفقيه)(2).
ص: 159
وفيه:
أوَّلاً: نُسب إلى المحقّق العراقي (قدس سره) الالتزام بذلك، مع الالتفات إلى كونه من القائلين بالتفكيك كما تقدّمت عبارته(1).
وثانياً: إذا رجعنا إلى الروايات وكلمات الأعلام في هذا المجال نجدها تذكر التفصيل التالي: إذا قامت بيِّنة على ملكيّة الدار لشخص، وقامت أُخرى على أنّها لشخص آخر، وكانت الدار في يد ثالث، وقد تكافأت البيِّنتان، فإن أقرّ الثّالث لأحدهما قُضي بها للمشهود له، وإن دفعهما قُضي لهما مناصفةً تبعاً لبعض الروايات، أو يُقرع بينهما، فمن خرج اسمه أُحلف وقُضي له، فإن نكل أُحلف الآخر، فإن حلف قُضي له، وإن نكل أيضاً نُصّفت بينهما على ما هو المشهور، تبعاً لبعض الروايات(2).
ومنه يتّضح أنّ القائلين بالتفكيك بين المدلولين لا يمكنهم المصير إلى ما يقتضيه المدلول الالتزامي: إمّا للدليل التعبدي في المسألة، وإمّا لأنّ الحكم بالمناصفة إعمالٌ لمقتضى المدلول المطابقي في كلٍّ منهما، الذي معه لا يُصار إلى ما يقتضيه المدلول الالتزامي. وعليه فعدم الحكم على وفق المدلول الالتزامي، لا من أجل تبعيّة المدلول الالتزامي للمطابقي في الحجّيّة وإنّما من أجل ما ذكرناه.
(ما إذا شهد واحد على أنّ الدار في المثال المزبور لعمرو، وشهد آخر على أنّها لبكر، والمفروض أنّ شهادة كلِّ واحد منهما ليست بحجّة في مدلولها المطابقي مع قطع النظر عن معارضة إحداهما مع الأُخرى، لتوقف حجّيّة شهادة الواحد على
ص: 160
ضمّ اليمين، ففي مثل هذا الفرض هل يمكن الأخذ بمدلولهما الالتزامي - وهو عدم كون هذه الدار لزيد - لكونهما متوافقين فيه فلا حاجة إلى ضمّ اليمين في الحكم بأنّ الدار ليست لزيد؟ كلا)(1).
ويرد عليه:
أوَّلاً: ما ذكره بعض أعلام العصر (قدس سره) بقوله:
(إنّ بعض هذه النقوض ليس من باب سقوط الدلالة المطابقيّة بل من باب عدم ترتب الأثر عليها، لعدم توفّر شرائط الحجّيّة كلّها - كما في النّقض الثّالث - والمُدعى عند القائل بالتبعيّة سقوط الدلالة الالتزاميّة بسقوط المطابقيّة، لا توقف حجّيّتها على حجّيّة المدلول المطابقي وترتب أثر شرعي عليه بالفعل)(2).
ولكنّه ليس بتام؛ وذلك لأنّ المراد من السقوط عدم الحجّيّة مطلقاً، أي سواء كان ذلك بسبب وجود مانع من تأثير المقتضي كما في المتعارضين، أو بسبب عدم تماميّة
المقتضي كما في المقام، فإنّ شهادة الواحد جزء المقتضي، ووجه الإطلاق وعدم الفرق واضح، فإنّ محل البحث توقف وجود المدلول الالتزامي على وجود المدلول المطابقي، سواء كان المدلول المطابقي حجّة أو لا، وسواء كان عدم الحجّيّة بسبب وجود المانع أو بسبب عدم تماميّة المقتضي.
والمناسب في الجواب أن يُقال: إنّ موضوع البيِّنة غير متحقّق في المقام ليكون مشمولاً لدليل حجّيّتها؛ وذلك لأنّ تحقّق موضوعها متوقف على توفّر شاهدين عادلين، مع عدم العلم بخطئهما أو أحدهما، وفي المقام نحن نعلم: إمّا بكذب أحدهما،
ص: 161
وإمّا بخطئه؛ فإنّ المفروض أنّ أحد الشاهدين قد شهد لعمرو، والآخر لبكر، ومدلولهما الالتزامي عدم كون الدار لزيد، فدليل البيِّنة ليس شاملاً لهذا المدلول الالتزامي.
إن قلت: إنّ العلم بكذب أحدهما أو خطئه لم يكن بلحاظ المدلول الالتزامي؛ إذ هما متفقان في ذلك، فلماذا لا يكون المدلول الالتزامي مشمولاً لدليل البيِّنة؟
قلت: بعد العلم بكذبه لا يتحقّق عنوان الشاهدين العادلين، وأمّا في صورة احتمال الخطأ فلا تبقى قيمة لشهادته؛ إذ الخطأ في المدلول المطابقي يلازم الخطأ في المدلول الالتزامي، وهو شيء واضح.
إذا اتّضح هذا نقول: إنّ عدم حجّيّة المدلول الالتزامي في المقام لا من أجل تبعيّته للمطابقي، وإنّما من أجل عدم كونه مشمولاً لدليل حجّيّة البيِّنة.
إذن عدم التزام الأعلام في المقام بحجّيّة المدلول الالتزامي لا يكشف عن بطلان نظريّة التفكيك، فلا يصلح المورد المذكور للنقض.
(ما إذا قامت البيِّنة على أنّ الدار التي في يد عمرو لزيد، ولكنّ زيداً قد أقرّ بأنّها ليست له، فلا محالة تسقط البيِّنة من جهة الإقرار، فإنّه مقدّم عليها، وبعد سقوط البيِّنة عن الحجّيّة بالإضافة إلى الدلالة المطابقيّة من جهة قيام الإقرار على خلافها، فهل يمكن الأخذ بها بالإضافة إلى الدلالة الالتزاميّة، والحكم بعدم كون الدار لعمرو؟ كلا)(1).
وفيه: يمكن للخصم أن يدعي أنّ المدلول الالتزامي - في المقام - ثابت غير أنّه لا يترجّح على أماريّة اليد، أو أنّ ترجحه ليس شيئاً واضحاً؛ لاقتران البيِّنة بتكذيب المشهود له، فيمكن القول: إنّ البيِّنة التي تتقدّم على اليد هي البيِّنة غير المقرونة بتكذيب
ص: 162
المشهود له، فإنّ ذلك مضعّف لها، كما هو واضح.
وعليه فعدم التزام الأعلام بمدلول البيِّنة الالتزامي في المقام لا لتبعيته للمطابقي في السقوط، وإنّما من أجل أقوائيّة اليد عليه لخصوصيةٍ في المورد.
إلى هنا اتّضح أنّ النقوض التي سجّلها المحقّق السّيّد الخوئي (قدس سره) ليست بتامّة.
هذا كله بلحاظ النقض.
وأمّا الإيراد الحلّي فقد بيَّنه (قدس سره) بقوله:
(وأمّا حلّا ً فلأنّ الدلالة الالتزاميّة ترتكز على ركيزتين من ضم إحداهما إلى الأُخرى يتشكل القياس على نحو الشّكل الأوَّل، الأُولى: ثبوت الملزوم. الثانية: ثبوت الملازمة بينه وبين شيء. ومن ضمّ الصغرى إلى الكبرى تحصل النتيجة، وهي ثبوت اللّازم. وأمّا إذا لم تثبت الصغرى أو الكبرى أو كلتاهما فلا يمكن إثبات اللّازم، وفي المقام بما أنّ المدلول الالتزامي لازم للمدلول المطابقي فثبوته يتوقف على ثبوت الملازمة وثبوت المدلول المطابقي، فإذا لم يثبت المدلول المطابقي أو ثبت ولكن لم تثبت الملازمة فلا يثبت المدلول الالتزامي لا محالة، ولا يفرّق في ذلك بين حدوثه وبقائه أصلاً.
وبعبارة أُخرى: إنّ ظهور الكلام في مدلوله الالتزامي وإن كان مغايراً لظهوره في مدلوله المطابقي، إلّا أنّ ظهوره في ثبوت المدلول الالتزامي ليس على نحو الإطلاق، بل هو ظاهر في ثبوت حصة خاصّة منه، وهي الحصة الملازمة للمدلول المطابقي.
مثلاً: الإخبار عن ملاقاة الثّوب للبول وإن كان إخباراً عن نجاسته أيضاً، إلّا أنّه ليس إخباراً عن نجاسته على الإطلاق بأيّ سبب كان، بل إخبار عن حصة خاصّة من النّجاسة، وهي الحصة الملازمة لملاقاة البول، بمعنى أنّه إخبار عن نجاسته المسبّبة عن ملاقاته للبول في مقابل نجاسته المسبّبة لملاقاته للدم أو نحوه، فإذا قيل إنّ هذا الثّوب
ص: 163
نجس، يراد به أنّه نجس بالنّجاسة البولية، وعندئذ إذا ظهر كذب البيِّنة في إخبارها بملاقاة الثّوب للبول، فلا محالة يُعلم بكذبها في إخبارها بنجاسة الثّوب المسبّبة عن ملاقاته للبول. وأمّا نجاسته بسبب آخر وإن كانت محتملة، إلّا أنّها نجاسة أُخرى أجنبية عن مفاد البيِّنة تماماً. وعليه فكيف يمكن الأخذ بالدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية!!)(1).
ملاحظة: إنّ النقطة الجوهرية التي يعتمد عليها هذا الإشكال هي أنّ الإخبار عن اللّازم ليس إخباراً عنه بشكلٍ مطلق، بل إخبار عن الحصة المقارنة للمدلول المطابقي، فالإخبار عن ملاقاة البول للثوب ليس إخباراً عن مطلق النّجاسة، وإنّما عن النّجاسة البوليّة.
وفيه: أنّنا نسلّم بذلك، ولكن الكلام ليس في سقوط المدلول المطابقي وجوداً، وإنّما الكلام في سقوطه حجّةً، والمفروض في الإشكال العلم بكذب الخبر، أو اتّضاح اشتباهه، وقد ذكرنا عند تحرير محل النّزاع أنّ بعض الإشكالات تبتني على تصور النّزاع في حالات العلم بكذب الخبر أو خطئه، وهو شيء لا يدعيه أحد.
- وهو المناسب في الجواب - حيث نقول: إنّ الدليل على حجّيّة الخبر إمّا النّصوص، وإمّا السّيرة. وعلى الأوَّل يكون المقام من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.
وتوضيحه: أنّ المفروض كون كلٍّ من المدلول المطابقي والالتزامي فرداً مستقلاً للحجّيّة، وقد دلَّ الدليل على خروج المدلول المطابقي من تحت عموم حجّيّة الخبر: إمّا للتعارض، وإمّا لشيء آخر، فيبقى المدلول الالتزامي مشكوكاً؛ إذ لا نعلم - بعد سقوط
ص: 164
مدلوله المطابقي - هل يبقى مشمولاً للعامّ أو لا؟ وفي مثله لا يكون العامّ حجّة فيه؛ لأنّ العامّ لا يثبِت موضوع نفسه، كما هو واضح.
هذا كلّه إذا كان دليل الحجّيّة لفظياً.
وأمّا إذا كان لُبيّاً - وهي السّيرة - فالمناسب الاقتصار على المقدار المتيقن، وهو حجّيّة المدلول الالتزامي إذا كان المطابقي باقياً على الحجّيّة بالفعل، وأمّا في صورة سقوطه عن الحجّيّة فإنّنا نشكُّ في بقاء الالتزامي على الحجّيّة، ومعه لا يمكن التمسّك لإثبات حجّيّته بالسّيرة لأنّها دليل لبيّ.
والحاصل: عدم تماميّة الدليل المذكور.
وأمّا الشّاهدان المذكوران لصالح التفكيك فيمكن مناقشتهما بما يلي:
1. أمّا الشّاهد الأوَّل فإنّه أخصّ من المدعى؛ إذ المدعى بقاء حجّيّة المدلول الالتزامي بعد سقوط حجّيّة المطابقي مطلقاً، سواء كان السّقوط بسبب التعارض أو بسبب الإجمال أو غير ذلك، وأقصى ما يثبته الشّاهد إمكان التفكيك في صورة إجمال المدلول المطابقي. مضافاً إلى أنّ ذلك يحتاج إلى تتبع الموارد التي يلتزم فيها الفقهاء بالتفكيك مع مساعدة العرف على ذلك، ليتّضح وجود سيرة على ذلك والتي هي العمدة في باب الظهورات أو عدم وجودها.
2. أمّا الشّاهد الثّاني فيمكن مناقشته من جهتين:
الجهة الأولى: إنّ الأخذ ببعض الخبر إذا سقط بعضه الآخر ليس من المدلول الالتزامي وإنّما هو أخذٌ بالمدلول التضمّني، ولا ملازمة بين الأمرين.
الجهة الأُخرى: إنّ قيام السّيرة العقلائيّة على الأخذ ببعض الخبر بعد عدم إمكان الأخذ بالكلّ أوَّل الكلام؛ إذ أنّنا نشكّك في جريان السّيرة على التفكيك في مدلول الخبر
ص: 165
الواحد إذا كان السّياق واحداً، وفي مثله يكفي الشّكّ القاضي بعدم حجّيّتها، لكونها دليلاً لُبيّاً، الذي يحتاج في تماميّته إلى حصول اليقين أو الاطمئنان.
إنّ الدلالة الالتزاميّة ليست من دلالة اللفظ على المعنى، وإنّما من دلالة المعنى على المعنى، فاللفظ يدل على المعنى المطابقي، ثمَّ يدل المعنى المطابقي على المعنى الالتزامي، كما هو الحال في الكنايات، فإذا سقطت الدلالة المطابقيّة لا يبقى ما يدل على الالتزاميّة، فتثبت التبعيّة بينهما.
وفيه: أنّ هذا الدليل يفترض سقوط الدلالة المطابقيّة بكاملها، وفي مثله لا خلاف في سقوط الدلالة الالتزاميّة وجوداً فضلاً عن الحجّيّة؛ لأنّها من السّالبة بانتفاء الموضوع، كما تقدّم التنبيه على ذلك عند تحرير محل النّزاع.
إلى هنا انتهينا من عرض الرأي الأوَّل ومناقشته، وقد اتّضح أنّ الإشكال الثّاني وارد على هذا الرأي، بينما الإشكالان الأوَّل والثالث غير واردين.
وقد اتّضح وجهه من خلال عرض الرأي الأوَّل ومناقشاته.
وحاصله: أنَّ المدلول الالتزامي كما هو تابع للمدلول المطابقي في الوجود هو تابع له في الحجّيّة أيضاً، فمتى سقطت حجّيّة المطابقي سقطت حجّيّة الالتزامي؛ لأنَّها متفرّعة عليها. وقد تبنى هذا الرأي جماعة منهم المحقّق السّيّد الخوئي (قدس سره) كما اتّضح ذلك من مناقشته للرأي الأوَّل، ومنهم السّيّد الشّهيد محمَّد باقر الصدر (قدس سره)، ومنهم الميرزا التبريزي (قدس سره)، ومنهم شيخنا الأستاذ الإيرواني (دامت افاداته) (1) وغيرهم، ولننقل بعض عباراتهم:
ص: 166
ذكر المحقّق النّراقي (قدس سره) في عوائده: أنّ الدلالة الالتزاميّة فرع الدلالة المطابقيّة. وهو (قدس سره) وإن لم يذكر مقصوده من التفرّع ولكن اتّضح مقصوده من خلال الأمثلة التي ساقها..
قال (قدس سره) في بيان ذلك: (اعلم أنّ من الأمور الواضحة: أنّ المدلول الالتزامي للفظ فرع مدلوله المطابقي وتابع له. فإذا انتفى المطابقي ينتفي الالتزامي أيضاً.
ويتفرّع على ذلك: أنّه لو جاء خبر: أنّ من تزوج باكراً بإذن وليّها خاصّة ثبت لها حقّ المضاجعة، فمدلوله المطابقي ثبوت حقّ المضاجعة للزوجة، ويدل بالالتزام الشّرعي على وجوب النفقة، ولمحقِّق الزوجيّة، وصحة النّكاح، وغير ذلك.
فلو جاء خبر يدل على عدم ثبوت حقّ المضاجعة لها أو لمطلق الزوجيّة، وترجّح على الخبر الأوَّل عند فقيه، وَرَدَّ الخبر الأوَّل لأجل تلك المعارضة، لا يمكنه القول بثبوت الزوجيّة والنّفقة المفهومين من الخبر الأوَّل، حيث إنَّ المعارض مخصوص بحقّ المضاجعة؛ لأنّ الزوجيّة والنّفقة كانتا تابعتين لثبوت حقّ المضاجعة، فإذا لم يثبت فأين الدال على الزوجيّة والنّفقة؟)(1).
فقوله: (إنّ المدلول الالتزامي للفظ فرع مدلوله المطابقي وتابع له، فإذا انتفى المطابقي ينتفي الالتزامي أيضاً)، وإن كان لم يصّرح فيه بالتبعيّة في الحجّيّة إلّا أنّه يمكن استفادة ذلك: إمّا من نفس إطلاق العبارة، وإمّا من خلال المثال الذي ذكره، فإنّه لم يفرض سقوط الخبر الأوَّل وجوداً وإنَّما فرض وقوع التعارض بينه وبين خبرٍ آخر، وتقدّمه عليه، وهذا يعني سقوط حجّيّته فقط.
ص: 167
جاء في تقريرات درسه ما نصّه: (والحاصل: أنّ الأصول اللفظيّة طريقيّتها بالنسبة إلى المداليل الالتزاميّة ليست أصليّة في عرض كشفها عن المداليل المطابقيّة، بل إنّما هي تابعة لطريقيّتها حينئذٍ إلى المداليل المطابقيّة، فإذا سقطت عن كونها طريقاً إلى المدلول المطابقي بسبب التعارض، وصار اللفظ مجملاً فيه، فلا يعقل - حينئذٍ - طريقيّتها وكشفها عن المدلول الالتزامي، فإنّه كان لازماً عند العقل لإرادة الملزوم، فإذا لم يُعلم إرادته فلا يعقل الظن من اللفظ بإرادة اللّازم، فعلى هذا فالحقّ هو التساقط رأساً)(1).
تقدّم نقل كلامه (قدس سره) عند عرض مناقشته للرأي الأوَّل.
فإنّه بعد عرضه لاستدلال المحقّق النّائيني (قدس سره) في إثبات نظريته في التفكيك قال ما نصّه:
(ولكن لا يخفى ما فيه؛ فإنّ الإخبار عن المدلول الالتزامي إنّما هو بفرض ثبوت المدلول المطابقي لا مطلقاً; ولذا لو سُئِلَ مِن المخبِر لو اتفق في الواقع عدم ثبوت للمدلول المطابقي في خبرك فهل تخبر مع ذلك بثبوت المدلول الالتزامي؟ يكون جوابه النفي، فالمعارضة المفروضة بين الخبرين المتعارضين في مدلولهما المطابقي تجري في مدلوليهما الالتزاميين أيضاً; ولذا لو أخبر شخص بإصابة البول لمايع فهو إخبار بنجاسته المترتّبة على إصابته، فإنْ أخبر شخص آخر أنّه أصابه الخمر دون البول فهو أيضاً إخبار بنجاسته المترتّبة على إصابة الخمر فلا تثبت نجاسته; لأنّ النّجاسة المترتّبة
ص: 168
على ذلك المايع نجاسة خاصّة ينفيها من يخبر بإصابة الخمر إيّاه لا البول، وأيضاً لا يؤخذ المال من ذي اليد إذا أخبر عدل بأنّ ذلك المال لعمرو، وأخبر عدل آخر أنّه ليس لعمرو بل هو لبكر، فلا يقال إنّ خبرهما في موردٍ يعتبر بيّنة على أنّ المال ليس لذي اليد إلى غير ذلك)(1).
هذا جانب من كلمات بعضهم واستدلالاتهم، وفيما يلي نستعرض أهم أدلتهم مع المناقشة.
ملاحظة: بعض أدلّة هذا الرأي قد تقدّمت، وتقدّمت مناقشتها أيضاً، كالذي ذكره السّيّد الخوئي (قدس سره) من المناقشة، فإنّه مناقشة للرأي الأوَّل وفي نفس الوقت تشييد لهذا الرأي فلا نعيد ذكره والمناقشة التي سُجلت عليه.
وأمّا باقي الأدلة فهي:
(التقريب الثّالث - وهو الوجه المختار -: إنّ ملاك الحجّيّة في الدلالتين واحد فلا تبقى نكتة لحجّيّة الدلالة الالتزاميّة إذا سقطت الدلالة المطابقيّة.
وتوضيح ذلك: أنّ نكتة الحجّيّة وملاكها في الإخبار والحكاية إنّما هو أصالة عدم الكذب - بالمعنى الشّامل للاشتباه - وفي الإنشاء والقضايا المجعولة أصالة الظهور وإرادة المعنى من اللفظ، وإذا سقطت الدلالة المطابقيّة بظهور كذبها في باب الإخبار أو عدم إرادتها في باب الإنشاء فافتراض عدم ثبوت المدلول الالتزامي لها لا يستدعي افتراض كذب زائد في الإخبار أو مخالفة زائدة في الإنشاء؛ لأنّ هذه الدلالة لم تكن بدال إخباري أو إنشاء مستقل وإنّما كانت من جهة الملازمة بين المدلولين فتكون من دلالة المدلول
ص: 169
على المدلول وليست دلالة واجدة لملاك مستقل للكاشفيّة والحجّيّة.
وعلى هذا الأساس صحّ التفصيل في التبعيّة بين الدلالة الالتزاميّة البيِّنة عرفاً - أي الدلالة التصوريّة - والدلالة الالتزاميّة غير البيِّنة - الدلالة التصديقيّة العقليّة - حيث لا نلتزم بالتبعيّة في الأولى؛ إذ لو كانت الدلالة الالتزاميّة بدرجة من الوضوح بحيث تشكّل ظهوراً في الكلام زائداً على مدلوله المطابقي فسوف يكون عدم إرادة المتكلم لها مخالفة إضافية زائداً على ما يستلزمه عدم إرادته للمدلول المطابقي فيكون مثل هذه الدلالة الالتزاميّة مستقلة عن الدلالة المطابقيّة في ملاك الحجّيّة فلا تتبعها في السقوط)(1).
ويمكن تلخيص ما ذكره (قدس سره) في نقطتين:
الأولى: إنَّ كذب المدلول الالتزامي لا يستدعي مخالفة زائدة في نظر العرف.
الأخرى: بناءً على النّقطة الأولى يمكن التفصيل في التبعيّة؛ إذ أنّ المدلول الالتزامي على نحوين:
1. مدلول التزامي بيّن يشكّل في نظر العرف مدلولاً مستقلاً؛ لأنّ مخالفته تستدعي مخالفة زائدة في نظرهم. وفي هذا النحو لا نقول بالتبعيّة؛ إذ سقوط الالتزامي يحتاج إلى بيان زائد.
2. مدلول التزامي غير بيّن لا يشكّل مدلولاً مستقلاً، في نظر العرف، وفي هذا النّحو نلتزم بالتبعيّة.
هذا خلاصة الدليل.
وفيه:
أوَّلاً: إنّ ما ذكره (قدس سره) مبني على دخول صورة العلم بكذب الخبر أو الاشتباه في محلّ
ص: 170
النّزاع، وقد تقدّم أنّ هذه الصورة خارجة عن محل الكلام.
ثانياً: إنّ نكتة (المخالفة الزائدة) تتنافى مع التفصيل الذي ذكره (قدس سره) بين كون المدلول الالتزامي بيِّناً واضحاً، وبين كونه غير بيِّن؛ وذلك لأنّ المخالفة الزائدة تفترض كذب المُخبر بلحاظ مدلوله المطابقي، ومعه كيف يُعقل بقاء المدلول الالتزامي سواء كان بيِّناً أو غير بيِّن!!
ثالثاً: إنّنا نلتزم بالتفصيل، ولكن لا لما ذكره من فكرة (المخالفة الزائدة) وإنّما من جهة ٍ أخرى سنشير إليها عند عرض الرأي الثّالث.
وحاصله: أنّ وقوع المعارضة على مستوى المدلول المطابقي توجب إجمال الدليل فيسري هذا الإجمال إلى المدلول الالتزامي أيضاً، ومعه لا يمكن الالتزام بالتفكيك.
وفيه:
أوَّلاً: هذا الدليل أخصّ من المدعى؛ إذ أقصى ما يثبته هو تبعيّة المدلول الالتزامي للمطابقي في صورة المعارضة فقط، أو في صورة إجمال المطابقي، بينما المدعى ثبوت التبعيّة مطلقاً، أي حتى في صورة عدم المعارضة وعدم الإجمال كما في صورة عجز المكلّف عن امتثال المدلول المطابقي.
ثانياً: إنّنا لا نسلّم سريان الإجمال إلى المدلول الالتزامي دائماً، بل نسلّمه في الجملة، كما سيتضح ذلك لاحقاً إن شاء الله تعالى.
وحاصله: أنّ دليل حجّيّة الخبر هو السّيرة، وهي دليل لبّيّ يُقتصر فيه على القدر المتيقن، والقدر المتيقن هو حجّيّة المدلول الالتزامي حال بقاء المطابقي على الحجّيّة،
ص: 171
وأمّا في صورة الافتراق فلا يُعلم انعقاد سيرتهم على بقاء حجّيّة المدلول الالتزامي.
وبتعبير آخر: لا يُعلم قيام السّيرة العقلائية على التفكيك بين المدلولين في الحجّيّة.
وفيه..
ما سيتضح لاحقاً - إن شاء الله تعالى - من إمكانيّة التفكيك عرفاً في بعض الموارد.
هذا حاصل الرأي الثّاني مع مناقشته.
وقد اختلف أصحاب هذا الرأي في أساس التفصيل، على أنحاءٍ..
وحاصله: أنّ الدلالة التصديقيّة متقوّمة بالقصد والالتفات، فإذا كان اللّازم مقصوداً للمخِبر وملتفتاً إليه فهو حجّة حتى في صورة سقوط المدلول المطابقي عن الحجّيّة، أو فيما إذا كان المدلول الالتزامي مدلولاً عرفياً عادياً ثابتاً لدى العرف، بحيث لا يتأتى للمتكلم إنكاره.
والذي يظهر من السّيّد الحكيم (دام ظله) في المحكم تبني هذا التفصيل مع زيادة في البيان والتوضيح، قال (دام ظله):
(فلعلّ الأَوْلى أن يقال: المدلول الالتزامي..
تارة: يراد به ما يساق الكلام لبيانه ببيان الملزوم، بأن يكون المتكلم في مقام الحكاية عنه، نظير الكنايات.
وأخرى: يراد به ما لا يستفاد من الكلام إلّا لمحض الملازمة الواقعيّة بينه وبين مؤداه من دون أن يكون المتكلم في مقام بيانه ولا بصدد الحكاية عنه: إمّا لاعتقاده عدم الملازمة، أو غفلته عنها، أو عدم تعلّق غرضه ببيان اللازم.
ص: 172
أمّا الأوَّل فيصدق عليه عنوان الخبر والشهادة وظاهر الكلام ونحوها من موضوعات الحجّيّة كما تصدق على المدلول المطابقي، ويشتركان معاً في الدخول تحت عموم الحجّيّة. فيتجّه ما سبق في توجيه التفكيك بينهما في السّقوط عن الحجّيّة من لزوم الاقتصار على المدلول المطابقي لاختصاص المانع عن الحجّيّة به، ويبقى المدلول الالتزامي حجّة بمقتضى العموم بعد كونه فرداً آخر له في قبال المدلول المطابقي.
وأمّا الثّاني فلا تصدق عليه عناوين موضوعات الحجّج من الخبر والشّهادة ونحوهما، لتوقفها على قصد الحكاية وبيان المؤدّى، وإنّما بني على الحجّيّة فيها توسعاً في إعمال عمومها في المدلول المطابقي وتبعاً له بضميمة المرتكزات العقلائيّة التي يبتني عليها عموم الحجّيّة، من دون أن يكون فرداً آخر للعموم في قبال المدلول المطابقي، على ما سبق التعرّض له في لواحق مبحث الأصل المثبت في بيان الفرق بين الأمارة والأصل)(1).
والمقدار الذي أضافه السّيّد الحكيم (دام ظله) هو في بيان مستند الحجّيّة، ففي الحالة الأولى يدخل المدلول الالتزامي تحت عنوان الظهور بشكل مستقل؛ لأنّ الكلام قد سيق لبيانه كما في مثل الكناية، بينما في الحالة الثانية لا يدخل تحت عنوان الظهور لعدم سوق الكلام لبيانه، وإنّما فُهم من الكلام بتبع المدلول المطابقي.
والشّيء الذي ذكره المحقّق الأصفهاني (قدس سره) ولم يذكره السّيّد الحكيم (دام ظله) هو إدخال صورة كون المدلول الالتزامي لازماً عرفيّاً بيِّناً في الحالة الأولى.
والإنصاف مع المحقّق الأصفهاني؛ إذ المدار على الظهور وعدمه، واللّازم إذا كان واضحاً عرفاً بيِّناً لا يتأتى للمتكلم إنكاره يدخل تحت عنوان الظهور العرفي.
ويُسجّل على السّيّد الحكيم (دام ظله): أنّ المدلول الالتزامي إذا كان هو المقصود للمتكلم
ص: 173
- كالكنايات - فما معنى التفكيك بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي في الحجّيّة؟ إذ المدلول المطابقي ليس مقصوداً للمتكلم، وإنّما هو مجرد طريق للالتزامي ليس إلّا، والتفكيك المبحوث بين المدلولين إنّما يكون في صورة وجود مدلولين مستقلين في الوجود والحجّيّة، والمفروض بناءً على ما ذكره أنْ لا وجود لمدلولٍ مطابقيّ مستقلٍ وإنّما وجوده مرآة وطريق للالتزامي.
ثم ذكر السّيّد الحكيم شيئاً آخر وهو: أنّه (لا بُدَّ من ملاحظة بناء العقلاء ومرتكزاتهم في عموم الحجّيّة للّازم أو قصورها عمّا إذا لم يكن الدليل حجّة في المدلول المطابقي. والظاهر أنّه يختلف باختلاف منشأ عدم الحجّيّة فيه..
فإن كان ناشئاً من قصور في طريقيّة الطريق كان مستتبعاً لعدم حجّيّته في اللّازم، لتفرّع طريقيّته عليه عندهم على طريقيّته على الملزوم، سواء كان ذلك لعدم طريقيّته رأساً، كما لو علم بكذبه فيه، وإن احتمل تحقّق اللّازم، أم لعدم طريقيّته شرعاً، كما لو شهد كل من الشّاهدين بأمرٍ مباينٍ لما شهد به الآخر، واشترك كلا الأمرين المشهود بهما في لازم واحد، أو شهدت البيِّنة في الحسيات عن حدس، كالشّهادة اعتماداً على الحساب بهلال شهرٍ إذا استلزم تعيين هلال شهر آخر، وغير ذلك.
أمّا إذا كان عدم حجّيّة الطريق في المدلول المطابقي ناشئاً من خصوصية فيه يمتاز بها عن اللّازم تمنع من ثبوته بالطريق من دون قصور في طريقيّة الطريق ولا في كاشفيّته، فلا يكون مستتبعاً لعدم حجّيّة الطريق في اللّازم بعد فرض عدم اشتماله على الخصوصية المذكورة وصلوحه لأنْ يثبت بالطريق المذكور، كما لو أُخذ في حجّيّة الطريق عنوان لا ينطبق على المدلول المطابقي، كالإقرار المتقوّم بكون موضوعه حقّاً على الُمقرّ، حيث قد لا يتضمن الخبر حقّاً على المخبر بمدلوله المطابقي، بل بلازمه. أو فُرِّق بين الموضوعات
ص: 174
في حجّيّة الطريق بنحو لا ينطبق على المدلول المطابقي، كما في السّرقة التي هي موضوع الحدّ، حيث لا تثبت بالشّاهد واليمين، لأنْ الحدّ من حقوق الله تعالى، فإنّه حيث لا يرجع إلى قصور في طريقيّة الشّاهد واليمين المتضمنين للسرقة، بل لخصوصية في السّرقة تمنع من ثبوتها بهما، تعيّن ثبوت لازمها بها إذا كان حقّاً للناس، كالضمان)(1).
أقول: ما ذكره متين جداً، ولكن السّؤال ما هو المرجع في تحديد كون الطريق إلى المدلول الالتزامي كاشفاً لا قصور في كاشفيته، ليُقال بأنّ المدلول الالتزامي لا تتضرر حجّيّته من جرّاء سقوط حجّيّة المدلول المطابقي؟
فلا بُدَّ من إبراز هذا المرجع ليكون التفصيل المذكور تامّاً.
ما ينبغي أن يُقال: إنّ أسباب سقوط حجّيّة المدلول المطابقي متعدّدة ومختلفة..
فمنها: سقوطها بسبب المعارضة.
ومنها: سقوطها بسبب العجز وعدم القدرة على الامتثال.
ومنها: سقوطها بسبب إجمال المدلول المطابقي.
ومنها: سقوطها بسبب قصور المدلول المطابقي عن إثبات الحجّيّة له لانخرام شرط عرفي أو شرعي. إلى غير ذلك من الأسباب.
ويبدو أنّ بعض الأعلام قد لاحظ بعض هذه الأسباب، بينما البعض الآخر قد لاحظ بعضاً آخر، فالذي يُرجِع المسألة إلى الإجمال لاحظ السّبب الثّالث، وألحق به السّبب الأوَّل، والذي لاحظ السّبب الرابع أهمل بقية الأسباب كالثّاني - مثلاً - وهكذا.
ص: 175
والتحقيق يقتضي ملاحظة جميع الصور، بل ملاحظة الصورة الواحدة واختلافها بحسب الموارد، فالأولى - مثلاً - قد تقتضي الإجمال الساري إلى الالتزامي، وقد لا تقتضي ذلك، وحيث لا توجد ضابطة يمكن الركون إليها والاعتماد عليها نوكل الأمر إلى ركيزتين:
الأولى: الدليل الشّرعي، فإذا فهم منه التفكيك أُخذ به، وإلّا يُرجع إلى الركيزة الأخرى.
الأخرى: العرف، فإذا فَهِمَ التفكيك فهو المرجع؛ لأنّ المسألة من صغريات الظهور الذي يعتمد في حجّيّته على السّيرة العقلائيّة.
ولنلاحظ المثالين التاليين..
جاء في روايات الإقرار أنّ مَن أقرّ على نفسه ثمَّ أنكر لزمه الحدّ؛ من قبيل موثقة الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام)
في رجل أقرّ على نفسه بحدّ ثم جحد بعدُ، فقال: (إذا أقرّ على نفسه عند الإمام أنّه سرق ثم جحد، قُطعت يده وإن رغم أنفه، وإن أقرّ على نفسه أنّه شرب خمراّ، أو بفرية فاجلدوه ثمانين جلدة، قلت: فإن أقرّ على نفسه بحدّ يجب فيه الرجم، أكنتَ راجمه؟ فقال: لا، ولكن كنتُ ضاربه الحدّ)(1).
وهناك غيرها بالمضمون نفسه.
بتقريب: أنّ الإقرار بالجناية والفرية مدلول مطابقي، بينما ثبوت الحدّ مدلول التزامي، فمع إنكاره للمدلول المطابقي لم يسقط المدلول الالتزامي حيث رتّب عليه الإمام (علیه السلام) الحدّ، وهذا يدلّ على عدم الملازمة بين المدلولين في هذا المورد.
ص: 176
إنْ قلت: لِمَ لم يأخذ الإمام (علیه السلام) بالمدلول الالتزامي في صورة استحقاق الرجم، ألا يدلُّ هذا على التبعيّة؟
قلت: عدم أخذه (علیه السلام) بالمدلول الالتزامي في حدّ الرجم وأخذه به في بقية الحدود دليل على التفكيك التعبدي، ومعلوم من حال الشّارع تحفظه في موارد الدماء والفروج.
هذا، ولكن لم يتّضح من الرواية سقوط المدلول المطابقي لتكون شاهداً لصالح التفكيك؛ اذ لا يُعلم من إنكاره كذب مدلوله المطابقي، فكما يُحتمل كذبه عند الإقرار يُحتمل كذبه عند الإنكار أيضاً، فلا يُعلم حينئذٍ حاله، ومعه كيف يُعلم سقوط المدلول المطابقي؟
ويمكن أنْ يُجاب ثانياً: بأنّ المفروض في المسألة كون المدلول الالتزامي قضيةً مستقلةً عن قضية المدلول المطابقي تلازمها في الوجود والثبوت، وفي مقامنا ليس الأمر كذلك؛ إذ الإقرار موضوع لإقامة الحدّ، وحيث يثبت الموضوع يثبت الحكم، فثبوت الحدّ في الرواية كاشف عن تحقّق موضوعه وهو الإقرار، وهذا يعني أنّ الإقرار مطلقاً سواء لحقه الإنكار أو لا، يُحقِّق موضوع الحكم بإقامة الحدّ.
حيث ذكر (قدس سره) أمثلة للشهادات التي قد يُدّعى اتفاقها أو اختلافها في المشهود به، ثُمَّ علّق عليها، بإمكان الالتزام - في بعضها - بتماميّة الشّهادة بلحاظ المدلول الالتزامي، مع عدم تماميّتها بلحاظ المدلول المطابقي، وفيما يلي نذكر خلاصة ما ذكره(1).
بعد أنْ ذكر هذه القضيّة وهي: (أنّه يشترط في قبول شهادة الشّاهدين ورودهما على فعل واحد) فرّع نوعين من الفروع.
ص: 177
النّوع الأوَّل: ادّعى أنّ الفقهاء قد التزموا فيها بعدم قبول الشّهادة، من قبيل..
1. أنْ يشهد أحد الشّاهدين بالبيع، والآخر بالإقرار بالبيع.
2. أنْ يشهد أحدهما أنّه أقرّ على نفسه بغصبيّة ثوبٍ، والآخر: أنّه أقرّ على نفسه بغصبيّة دينار.
3. أنْ يشهد أحدهما أنّه قذف غدوة، والآخر: أنّه قذف عشيّة. إلى غيرها من الفروع.
النّوع الآخر: ادّعى أنّ الفقهاء قد قبلوا فيها الشّهادة، من قبيل..
1. لو شهد أحدهما أنّه أقرّ بقتلٍ أو دينٍ أو غصبٍ ببغداد أو يوم الخميس أو بالعربية، والآخر أنّه أقرّ بذلك بعينه بالكوفة أو يوم الجمعة أو بالفارسيّة، ثبت المقرّ به.
2. لو شهد أحدهما أنّه أقرّ لزيد بألف، والآخر أنّ له ألفين، ثبت الألف بهما، والألف الآخر بانضمام اليمين.
3. لو شهد أحدهما أنّه سرق ثوباً قيمته دينار، والآخر أنّه سرق ثوباً قيمته ديناران، ثبت الدينار بشهادتهما. إلى غيرها من الفروع.
ثمّ قال (قدس سره): (لو شهد أحدهما أنّه أوصى لزيد بمائة يوم الخميس، أو في المرض الفلاني، أو في مكان كذا، وبوصايته على صغيره كذا، وشهد الآخر بأنّه أوصى به يوم الجمعة، أو في المرض الآخر، أو في مكان آخر، لم أعثر فيه على تصريح منهم على أنّه من قبيل النّوع الأوَّل، أو النّوع الثاني، إلا أنّ ظاهرهم قبول ذلك).
وبعد ذلك استشكل في الفرق بين كثير من فروع النّوع الأوَّل، وفروع النّوع الثّاني، وطرح حلّا َ لذلك..
وخلاصته: أنّ في جميع هذه الفروع مداليلَ مطابقيّة، وأخرى التزامية، وعليه: فإنْ
ص: 178
كان التغاير والاختلاف بين الشّهادتين الثّابت لهما على مستوى المدلول المطابقي يسري ويتعدى إلى المدلول الالتزامي لم تُسمع الشّهادة؛ لأنّه إمّا غير متحقّق الوجود، وإمّا غير متحدّ من حيث الشّهادة، كما في فروع النّوع الأوَّل؛ لأنّه إن أُخذ المشهود به جنس هذه الأمور بلا فصلٍ لم يمكن وجوده خارجاً وإن اتحد في الشّهادتين، وإنْ أُخذ الجنس مع الفصل فإنّه وإن أمكن وجوده خارجاً، ولكن فصله المشهود به متغاير فلا تثبت الشّهادة.
هذا كلّه إذا كان التغاير مسرياً ومتعدياً إلى اللّازم.
وأمّا إذا لم يكن مسرياً ومتعدياً إلى اللّازم، وكان اللّازم ممكن التحقّق في الخارج فتُسمع الشّهادة عليه ويثبت المشهود به، كمثال الإقرار والوصية من فروع النّوع الثّاني؛ وذلك لأنَّ المدلول المطابقي وهو (الإقرار) في المثال وإن تغاير في الشّهادتين وقتاً وقدراً ولكن لازمهما - الذي هو تعلّق حقّ المُقرّ له بالمُقرّ به، أو القدر الناقص، أو استحقاق الموصى له للموصى به بعد موته - أمر واحد ممكن الوجود في الخارج، والمشخصان المذكوران في الشّهادة ليسا مشخصين للّازم أصلاً، فيكون اللّازم مشهوداً به. غاية الأمر عدم بيان بعض مشخصاته وهو لا يضرّ.
هذه خلاصة ما ذكره (قدس سره).
ومرجع ما ذكره إلى أنّ أدلة الشّهادة قاصرة عن شمول المدلول المطابقي في هذه الفروع، وعدم قصورها عن شمول المدلول الالتزامي، فتثبت في الثّاني دون الأوَّل، فيكون ذلك من أمثلة التفكيك في الحجّيّة بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي فيما لو ساعد الفهم العرفي على ذلك.
إنْ قلت: إنّ الأمثلة المذكورة لا تصلح شاهداً لصالح القائلين بالتفكيك في بعض
ص: 179
الصور والحالات لخروجها عن حريم النزاع تخصصاً؛ إذ الخلاف بين الأعلام قائم فيما لو سقطت حجّيّة المدلول المطابقي بسبب المعارضة، لا بسبب القصور في مقتضي الحجّيّة كما في المقام.
قلت: يمكن أنْ نجيب بجوابين:
1. إنّ المهم إنّما هو سقوط حجّيّة المدلول المطابقي مع بقاء حجّيّة المدلول الالتزامي سواء كان السّقوط بسبب المعارضة أو بسبب القصور في المقتضي، أو بسبب الإجمال، أو نحو ذلك، وسواء ثبتت الحجّيّة للمطابقي أوَّلاً ثم سقطت، أو لم تثبت له من البداية أصلاً، فإنّ المطلوب تفرّع حجّيّة المدلول الالتزامي عن حجّيّة المدلول المطابقي أو عدم تفرّعها.
2. يظهر من بعض الأعلام دخول هذه الصورة في محل النّزاع، فالمحقّق السّيّد الخوئي (قدس سره) قد ذكر في بعض الموارد التي من هذا القبيل: أنّ الحجّيّة في المدلول الالتزامي تتوقف على القول بعدم التبعيّة، فراجع(1).
وقد اعترف السّيّد الشّهيد محمّد باقر الصدر
(قدس سره) بحجّيّة المدلول الالتزامي وشمول أدلة البيِّنة له على الرغم من عدم حجّيّة المدلول المطابقي فيما كان من هذا القبيل، فليراجع(2).
ص: 180
قد اتّضح ممّا سبق أنّ القول الأوَّل القائل بالتفكيك مطلقاً ليس بتام، وهكذا القول الثاني القائل بالتبعيّة مطلقاً، فيبقى القول بالتفصيل هو المناسب، ولكنّه لا يبتني على الأساس الذي ذكره العلمان المحقّق الأصفهاني (قدس سره)، والسّيّد الحكيم (دام ظله)، وإنّما يبتني على تتبع الموارد والحالات، بحسب أدلتها الشّرعيّة التي تقتضي التبعيّة تارةً، وأخرى عدم التبعيّة، وملاحظة الفهم العرفي في غير ذلك، وقد اتّضح أنّ ما كان من قبيل القصور في المقتضي يمكن الالتزام فيه بالتفكيك، وأمّا بقيّة الموارد فتحتاج إلى أمثلة وتطبيقات ليتضح الحال فيها.
والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين.
* * *
ص: 181
1. بحوث في شرح العروة الوثقى: السّيّد الشّهيد محمد باقر الصدر (ت1400ﻫ ), مطبعة الآداب - النّجف الأشرف، ط1، 1391ﻫ - 1971م.
2. بحوث في علم الأصول: تقريرات آية الله العظمى السّيّد محمد باقر الصدر (قدس سره) (ت1400ﻫ )، تأليف السّيّد محمود الهاشمي، النّاشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (علیه السلام)، ط3، مطبعة محمد، 1426ﻫ - 2005م.
3. تفصيل وسائل الشّيعة إلى تحصيل مسائل الشّريعة: الشّيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (ت1104ﻫ )، تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیه السلام) لإحياء التراث، مطبعة: مهر - قم، ط2، 1414ﻫ.
4. تقريرات المجدد الشّيرازي (ت1312ﻫ )، المحقّق المولى علي الروزدري (ت 1290ﻫ ), تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (علیه السلام) لإحياء التّراث - قم المشرّفة، مطبعة: مهر - قم، 1409ﻫ.
5. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: الشّيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر) (ت 1266ﻫ )، تحقيق وتعليق: الشّيخ عباس القوچاني، النّاشر: دار الكتب الإسلامية - طهران، ط2، مطبعة: خورشيد، 1365 ش.
6. حقائق الأصول: السّيّد محسن الطباطبائي الحكيم (ت1390ﻫ ), النّاشر: مكتبة بصيرتي - قم، مطبعة: الغدير، ط5، 1408ﻫ.
7. درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: المحقّق الأصولي الشيخ محمد كاظم الهروي
ص: 182
المشهور ب-(الآخوند الخراساني) (ت 1329ﻫ), النّاشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، ط1، 1410ﻫ - 1990م.
8. دروس في مسائل علم الأصول: الشّيخ الميرزا جواد التبريزي (ت1437ﻫ )، النّاشر: دار الصدّيقة الشّهيدة، مطبعة: نگين - قم، 1429ﻫ - 1387ش.
9. شرح العروة الوثقى - كتاب الطهارة - تقرير بحث السّيّد الخوئي (قدس سره) (ت 1413ﻫ ) تأليف: الشّيخ علي الغروي التبريزي (قدس سره) (ت 1419ﻫ ), النّاشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدس سره)، ط2، 1426ﻫ - 2005م.
10. عوائد الأيام: الشّيخ المحقّق أحمد بن محمد مهدي النّراقي (ت 1245ﻫ )، تحقيق مركز الدراسات والأبحاث الإسلامية, مطبعة مكتب الإعلام السياسي، ط1، 1417 ﻫ.
11. فوائد الأصول: تقريرات بحث الميرزا محمد حسين الغروي النّائيني (ت 1355ﻫ )، تأليف: المحقّق الشّيخ محمد علي الكاظمي الخراساني (ت 1365ﻫ ), النّاشر: مؤسسة النّشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، ذي الحجة 1404ﻫ.
12. قواعد نافعة في الاستنباط: تقرير بحث الشّيخ باقر الإيرواني (دامت افاداته)، بقلم الشّيخ خالد السويعدي, النّاشر الأميرة للطباعة والنّشر - بيروت, 1432 ﻫ - 2011 م.
13. المحكم في أصول الفقه: السّيّد محمد سعيد الحكيم, النّاشر: مؤسسة المنار، ط1، مطبعة: جاويد، 1414ﻫ - 1994 م.
14. مستند الشّيعة في أحكام الشّريعة: الشّيخ المحقّق أحمد بن محمد مهدي النراقي (ت 1245ﻫ )، تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - مشهد المقدسة، النّاشر:
ص: 183
مؤسسة آل البيت (علیه السلام) لإحياء التراث - قم، ط 1، مطبعة: ستارة - قم، 1415ﻫ.
15. مقالات الأصول: المحقّق آغا ضياء الدين العراقي (ت1361ﻫ ), تحقيق: الشّيخ محسن العراقي والسّيّد منذر الحكيم, مجمع الفكر الإسلامي، ط1، 1414ﻫ.
16. منتقى الأصول: تقرير بحث السّيّد محمد الحسيني الروحاني (ت 1418ﻫ )، تأليف: السّيّد عبد الصاحب الحكيم (ت 1403ﻫ )، مطبعة الهادي، ط2، 1416ﻫ.
17. منتهى الأصول: السّيّد حسن البجنوردي (ت 1379ﻫ ), النّاشر: مؤسسة مطبعة العروج.
ص: 184
لا شكّ في أنّ مبحث الأمارة من أهمّ الأبحاث، وله أثر كبير في استنباط الأحكام الشرعية.
وهذه الدّراسة الّتي بين أيدينا تتضمّن محاولة لبيان ما هو المجعول في الأمارة على أهم مسالك الأعلام.
كما تتضمّن ذكر أهمّ الثمرات المترتّبة على مسلك تتميم الكشف الذي شيّد أركانه المحقّق النائيني (قدس سره).
وهذه الثمرات مهمّةٌ لكونها تدخل في كثير من مباحث علم الأصول.
ص: 185
ص: 186
بسم الله الرحمن الرحیم
إنّ علم الأصول يعدُّ منطق علم الفقه، فهو علم موضوع لتكوين القواعد العامة والنظريات المشتركة وفق الشروط المسموح بها شرعاً، وعلم الفقه هو الموضوع لتطبيق تلك القواعد على عناصرها الخاصة، وتلك العملية التطبيقية تسمى بعملية الاستنباط والاجتهاد، والنتيجة من هذه العملية هي المسألة الفقهية والحكم الفقهي.
ولا يخفى أنّ غالب الأحكام الشرعية الفقهية هي أحكام نظرية تحتاج إلى تلك العملية الاستنباطية، والعمدة في عملية الاستنباط والاجتهاد هي حجّية ظواهر الألفاظ وحجّية الأخبار، وهما من الظنون الخاصة والأمارات المعمول بها في استنباط الأحكام الشرعية الخارجة عن أصل عدم الحجّية، وعن أصالة حرمة العمل بما سوى العلم والاطمئنان في الشرعيّات، ومن هنا تُعدّ مسألة حجّية خبر الواحد من أهمّ المسائل الأصولية، وبإثباتها ينفتح باب العلميّ في الأحكام الشرعية، وينسدّ باب الانسداد، وبنفيها ينسدّ باب العلميّ ويأتي البحث عن دليل الانسداد.
ثُمَّ إنّ الفقيه إذا لم يحصل عنده القطع الوجداني أو الاطمئنان بالحكم ينتهي إلى الحكم عن طريق وظيفة ظاهرية مقرّرة من أمارة - كرواية معتبرة سنداً وتامة دلالة ومتناً وجهة - أو أصل عملي.
وهذه دراسةٌ تتناول مسألة جعل الأمارة والتركيز على مسلك تتميم الكشف
ص: 187
للمحقّق النائيني (قدس سره) , والاستفادة منه في تخريج جملة من المسائل التي وقعت محلّ بحث بين الأعلام, ولذا سيكون منهج الدراسة كالآتي:
مقدمة: يُذكر فيها معنى الأمارة لغةً, وما هو المراد منها اصطلاحاً.
المقام الأوّل: في مُفاد أدلّة الأمارات من جهة وجود جعل وعدمه, وفيه رأيان رئيسان:
الرأي الأوّل: عدم وجود جعل ومجعول في الأمارة.
الرأي الثاني: وجود جعل ومجعول فيها، وسنقتصر على أهمّ المسالك المذكورة في المسألة:
المسلك الأول: جعل الحكم المماثل.
المسلك الثاني: المنجّزية والمُعذّرية.
المسلك الثالث: تتميم الكشف.
المقام الثاني: في الثمرات الأصولية المترتّبة على المسلك الثالث.
ص: 188
الأمارة لغةً: هي العلامة(1).
وأمّا في اصطلاح الأصوليين فهي - إجمالاً - تعني الأدلة الظنية العقلائية التي لها نحو كشف ناقص عن الواقع فلا تصل لمرتبة اليقين والقطع في كشف مؤدّاها عن الحكم الواقعي وبمطابقة مدلولها للواقع، وعليه فإنّما تكون الأمارة حجّة شرعاً ويصحّ التعبد بها ويعوّل عليها في استكشاف الحكم إذا قام الدليل القطعي على حجّيتها شرعاً؛ فهي إذاً مفتقرة إلى الجعل والاعتبار، فحجّية الأمارات حجّية مجعولة لا ذاتية كالقطع، ولولا الجعل والاعتبار لما كانت مؤهّلة وصالحة للدليلية والكاشفية والوسطية في الإثبات، ولما صحّ ترتيب الأثر على مؤدّاها لعدم إحراز الواقع بها؛ لأنّها دليل ظنّي، والذي له حقّ اعتبار الحجّية للدليل الظنّي هو الشارع المقدس؛ لأنّ الذي يراد التعرّف عليه بواسطة الأمارة هو الحكم الشرعي، ويثبت للشارع الاحتجاج على المكلّف.
وبعبارة أخرى: إنّ الظنّ وإنْ كان فيه رجحان ولكنّه ليس بحجّة ولا يجوز العمل به عقلاً، وإنّما حجّيته تحتاج إلى جعل شرعي، ووقوع التعبّد من الشرع بالأمارة والظنّ أمر ممكن، فالمشهور إمكان ذلك, بل وقوعه، ولا يلزم من إمكان وقوع التعبّد بالظن مفسدة ومحال - كاجتماع الضدين أو المثلين - فما ذكر من محاذير في استحالة وقوع ذلك ثبوتاً مدفوع(2)، والتعبّد بالظن واقع، فقد وقع التعبّد بأمارات كخبر الواحد وظواهر
ص: 189
الكلام.
وأهمّ الأمارات في الفقه الظواهر وخبر الثقة(1) و(لا إشكال في أنّ معنى اعتبار الأمارة هو أنّه إذا قامت على حكم أو موضوع ذي حكم يجب ترتيب آثار القطع بهما عليها، فكما أنّ القطع بهما منجّزٌ وموجب لوجوب العمل على وفقه عقلاً كذلك الأمارات المعتبرة... فإذا كانت صلاة الجمعة مشكوكاً فيها وقامت الأمارة على وجوبها وحكم الشارع باعتبار تلك الأمارة يجب عقلاً ترتيب آثار القطع بوجوبها. وكذا إذا شك في حياة زيد فقامت على حياته، يجب ترتيب آثار القطع بحياته. فالحكم الواقعي يصير منجّزاً بالأمارة المعتبرة كتنجّزه بالقطع بلا افتراق بينهما من هذه الحيثية)(2).
ولكن هناك اختلاف في بيان مفاد أدلة اعتبار الطرق والأمارات، فقيل بأنّه لا جعل أصلاً. وقيل بوجود جعل. ثُمَّ وقع الكلام على الثاني في أنّه ما هو المجعول في
ص: 190
باب الأمارات، أي ما هو مدلول أدلة الأمارات(1)؟
لا شبهة في أنّ القاعدة الأولية(2) المستفادة من حكم العقل وعمومات النقل عند الشك في إنشاء الحجية هي الحرمة وعدم الحجية الفعلية(3) - إلّا ما خرج بالدليل - بمعنى عدم ترتيب آثار الحجية من صحّة الاستناد إليها في مقام العمل، وعدم صحّة إسناد مؤداها إلى الشارع، ولا شبهة في أنّ الاستناد والإسناد من آثار حجية الأمارة بوجودها العلميّ؛ فحرمة الاستناد والإسناد مترتّبان على عدم العلم بالحجّية الأعم منه ومن العلم بالعدم، فمع عدم العلم والإذعان بحكم الشارع يكون الإسناد والاستناد تشريعاً قولياً وعملياً وقد قامت الأدلة على حرمته فيكون إسناداً بلا إذن منه سبحانه، وافتراءً عليه تعالى، وإسناد ما لم يعلم أنّه من الدين إلى الدين. إلّا أنّه وقع الكلام في ما هو
ص: 191
المستفاد من أدلّة اعتبار الأمارات من ناحية وجود جعل وعدمه؟ رأيان رئيسان:
ذهب بعض الأصوليين إلى عدم وجود جعل في الأمارات من قبل الشارع أصلاً، وإنّما هي طرق عقلائية دائرة بينهم، غاية الأمر أنّه يستكشف الإمضاء والرضا بها من قبل الشارع من خلال عدم ردعه عنها، فالموجود من قبل الشارع ليس هو إلّا الإمضاء والتقرير لما بنى عليه العقلاء من العمل بأخبار الثقة - مثلاً - على أساس ما فيها من نكتة أقربيتها إلى الواقع وأقوائية كشفها عنه من غيرها من الأخبار، فلا جعل في باب الأمارات ولا مجعول لا من قبل العقلاء ولا من قبل الشارع، فليس هناك جعل من قبل الشارع حتى يكون المجعول هو العلم التعبدي والكاشفية أو غير ذلك.
وبعبارة أخرى: إنَّ الموجود هو الإمضاء لهذا الكشف الناقص عن الواقع، وهذا الإمضاء مستفاد من سكوت الشارع عن السيرة العقلائية الجارية على الأخذ بخبر الثقة والظواهر، فينتزع العقل الحجية، فالحجية أمر انتزاعي عقلي، فتترتب المنجزية والمعذرية، فمضافاً إلى حكم العقل بحجية العلم والقطع الوجداني الحقيقي - الذي هو متفق عليه - يحكم العقل أيضاً بحجية الأمارة تعبداً بعد أنْ أمضى الشارع السيرة.
وعلى هذا الوجه - من عدم جعل شرعي أساساً في باب الأمارات - لا تصل النوبة أصلاً إلى البحث عن تعيين ما هو المجعول، ويكون الأمر من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.
وممّن ذهب إلى هذا المسلك السيد الخميني (رحمة الله)، حيث قال في تقرير ذلك ما نصّه: (فاعلم أنّ الأمارات المتداولة على ألسنة أصحابنا المحققين كلّها من الأمارات العقلانية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم وجميع أمورهم، بحيث لو
ص: 192
ردع الشارع عن العمل بها لاختل نظام المجتمع، ووقفت رحى الحياة الاجتماعية، وما هذا حاله لا معنى لجعل الحجية له وجعله كاشفاً محرزاً للواقع بعد كونه كذلك عند كافة العقلاء، وها هي الطرق العقلائية - مثل الظواهر، وقول اللغوي، وخبر الثقة، واليد، وأصالة الصحة في فعل الغير - ترى أنّ العقلاء كافة يعملون بها من غير انتظار جعل وتنفيذ من الشارع، بل لا دليل على حجّيتها بحيث يمكن الركون إليه إلّا بناء العقلاء، وإنّما الشارع عمل بها كأنّه أحد العقلاء.
وفي حجية خبر الثقة واليد بعض الروايات التي يظهر منها بأتمّ ظهور أنّ العمل بهما باعتبار الأمارية العقلائية، وليس في أدلّة الأمارات ما يظهر منه بأدنى ظهور جعل الحجية وتتميم الكشف، بل لا معنى له أصلاً.
ومن ذلك علم أنّ قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه ممّا لا معنى له: أمّا في القطع الموضوعي فواضح؛ فإنّ الجعل الشرعي قد عرفت حاله وأنّه لا واقع له، بل لا معنى له. وأمّا بناء العقلاء بالعمل بالأمارات فليس وجهه تنزيل المؤدى منزلة الواقع، ولا تنزيل الظن منزلة القطع، ولا إعطاء جهة الكاشفية والطريقية أو تتميم الكشف لها، بل لهم طرق معتبرة يعملون بها في معاملاتهم وسياساتهم من غير تنزيل واحد منها مقام الآخر، ولا التفات إلى تلك المعاني الاختراعية والتخيلية، كما يظهر لمن يرى طريقة العقلاء ويتأمل فيها أدنى تأمل. ومن ذلك يعلم حال القطع الطريقي، فإنّ عمل العقلاء بالطرق المتداولة حال عدم العلم ليس من باب قيامها مقام العلم، بل من باب العمل بها مستقلاً ومن غير التفات إلى تلك المعاني. نعم القطع طريق عقلي مقدم على الطرق العقلائية، والعقلاء إنّما يعملون بها عند فَقْدِ القطع، وذلك لا يلزم أنْ يكون عملهم بها من باب قيامها مقامه، حتى يكون الطريق منحصراً بالقطع عندهم، ويكون
ص: 193
العمل بغيره بعناية التنزيل والقيام مقامه)(1).
كما اختاره الشيخ الفياض (دام ظله)، حيث قال: (لا جعل ولا مجعول في باب الأمارات أصلاً وإنّما هو إمضاء وتقرير من الشارع لما بنى عليه العقلاء من العمل بأخبار الثقة على أساس ما فيها من النكتة المبرّرة لذلك البناء، وهو أقربيتها إلى الواقع من غيرها، وهذا القول هو الصحيح)(2).
وقال (دام ظله) أيضاً: (قد ذكرنا في غير مورد أنْ لا جعل ولا مجعول في باب الأمارات في مقتضى دليل حجّيتها، لا الطريقية والكاشفية، ولا المنجّزية والمعذّرية، ولا الحكم الظاهري المماثل للحكم الواقعي في صورة المطابقة والمخالفة في صورة عدم المطابقة؛ لما ذكرناه من أنَّ عمدة الدليل على حجيتها بناء العقلاء على العمل بها وإمضاء الشارع لهذا البناء، وقد تقدّم أنّه يكفي في الإمضاء السكوت وعدم الردع؛ فلهذا ليس في هذا الباب شيء مجعول من قبل الشارع فضلاً عن كون المجعول الطريقية والعلم التعبدي... وحيث إنَّ عملهم بها لا يمكن أنْ يكون جزافاً وبلا نكتة، فالنكتة فيه قوة درجة الكشف النوعي لأخبار الثقة عن الواقع من أخبار غير الثقة فلا جعل في البين من قبل العقلاء. وأمّا من قبل الشارع فلا يكون إلّا إمضاء هذه السيرة وتقريرها، ويكفي في الإمضاء السكوت وعدم الردع. نعم، هذا الإمضاء يكون منشأ لانتزاع الحجية لها بمعنى المنجّزية والمعذّرية، وهذا معنى ما ذكرناه من أنّه لا جعل ولا مجعول في باب الأمارات)(3).
ولكن يمكن أنْ يقال: إنَّ الشارع المقدس قام بإقرار بعض الطرق ورفض بعضها
ص: 194
الآخر، وليس هذا إلّا بنكتة قوة الكاشفية والطريقية الثابتة عن الواقع عند عدم توفّر القطع بالواقع، وهو بعدما أمضى وأقرّ طريقة العقلاء بالعمل بخبر الثقة - مثلاً - والأخذ به فهذا يعني أنّه اعتبر العمل به طريقاً إلى الواقع، ويقوم مقام القطع فيترتب عليه الأثر من المنجّزية والمعذّرية، في مقابل ردعه وعدم موافقته على بعض الطرق والمعاملات - كردعه عن القياس، أو الاستحسان، أو النهي عن بيع الموزون بزيادة -، فالظن حجيته وطريقيته ليست ذاتية فلا بُدَّ أنْ تكون بجعل جاعل وهو ينقسم إلى ما يكون حجّة مجعولة وما لا يكون كذلك.
ولك أنْ تقول: إنّ سكوت الشارع وعدم ردعه عن بعض الطرق يكون دالاً على الالتزام بها، وأنّها لا تخالف مرامه، ويكشف عن اعتباره لها وإعطائها صفة الحجية، فسكوته نفسه معناه جعل الاعتبار لها في مقابل ما نهى عنه من الطرق، فمفاد أدلة اعتبار الأمارات هو وجود جعل واعتبار للحجية كحكم شرعي ظاهري، وهذه المرحلة بيد المولى، وهذه الحجية الإمضائية المجعولة تستلزم وتستتبع المنجّزية والمعذّرية في الموقف العملي للمكلّف تجاه المولى.
وإنْ شئت قلت: إنَّ الشارع في مقابل رفضه لبعض الطرق الظنية والذي يعني عدم إعطائه صفة الحجية لها وسلبها عنها، توجد موافقة وإمضاء منه لبعض الطرق العقلائية، وهذا يعني إعطاءه صفة الحجية لها، وهذا الإمضاء ناتج عن عدم الردع، وهو يعني اعتبارها، بمعنى جعل الحجّية لها والطريقية، وجعل الحجية بعدم الردع الملازم للإمضاء والارتضاء هو كجعل الحجّية التأسيسية لشيء من الأشياء، وهذه الحجية الإمضائية(1) لبعض الأمارات والتقنين لها أثرها من التنجيز والتعذير عقلاً، فإنْ
ص: 195
أصابت فهي منجزة وإلّا فهي معذّرة(1).
ولا إشكال ولا غائلة من جعل الحجية الإمضائية بمعنى اعتبار العمل الخارجي وأنّه حجّة يوافق مرام الشارع.
ولا ضرورة لأنْ يكون المراد من الجعل في الكلمات هو خصوص الجعل التأسيسي والأمارة التأسيسية الصرفة - كقاعدة الفراغ والتجاوز - حتى يقال لا جعل أساساً من الشارع، لاسيّما مع التفات القائلين بوجود الجعل إلى أنّها طرق إمضائية موجودة عند العقلاء يعملون بها وليست تأسيسية مخترعة من الشارع. وإذا كان مراد النافي نفيه الجعل التأسيسي فلا كلام.
وكون الأمارات طرقاً يعتمد عليها العقلاء في أمورهم وبيان مراداتهم لعدم اعتنائهم باحتمال مخالفتها وجعلها كالعدم، والبناء على أنّها كالعلم بنظرهم لا ينافي ولا يمنع من الجعل التشريعي على هذا البناء العقلائي، حيث وقع الإمضاء على هذا البناء بإلغاء احتمال الخلاف تشريعاً.
وبعبارة أخرى: إنّ كون الأمارة طريقاً عقلائياً وليست طريقاً شرعياً ابتدائياً لا يمنع من جعلها الإمضائي شرعاً، ولا مقتضي لتخصيص الجعل بخصوص الطريق التأسيسي المحض الصرف. وجعل الحجية في الأمارة - بمعنى أنّها معتبرة عند المولى ويُستند إليها - هو شيء عقلائي حيث يمكن أنْ يكون الشيءُ حجّةً عقلائيةً يحتجّ به عندهم مع ردع الشارع عنه - كالقياس - ويمكن العكس.
ثمّ إنّ المرتكزات العقلائية تقتضي أنّ الإمضاء يدل على الجعل الإلزامي الشرعي،
ص: 196
وإلّا فما ذكر من مجرّد ارتضاء ذلك بلا جعل لا يقتضي الإلزام من ناحية الأحكام والتكاليف الشرعية الإلهية التي هي بيد المولى تشريعاً، وكذلك بيده اعتبار طرق الوصول إليها التي يحتج بها على العبد، والعقلاء يرتبون آثار الأمر عند اعتباره ممّن بيده الاعتبار، فالمجعول الشرعي في باب الأمارات يكون على ما استقر عليه بناء العقلاء، ولم يتعلق بناؤهم على جعل حكم تكليفي في موارد الطرق، بل يحتجون بها ويتعاملون بها عملياً في مواردها.
ثم إنّ تلك الارتكازات مقتضية بأنّ جعل الأمارة هو جعل نفس الحجية وصحة الاحتجاج بها من معتبرها، وأنّه يستند إليها ويحتجّ بها على الغير وأنّ هذه الطرق حجّة على مؤدياتها كالقطع، وبالتالي تُحمل أدلّة اعتبار الأمارة على ذلك، وتترتب على ذلك الأحكام العقلية من المنجّزية والمعذّرية عند الموافقة والمخالفة للواقع؛ فإنّ ارتضاء الأمارة يدل على اعتبار الحجية لها بهدف ترتيب آثار العلم عليها من كونها طريقاً مجعولاً إلى الواقع فيترتب عليها عقلاً صحة المؤاخذة والاعتذار، وليست الحجية المجعولة عين المنجّزية والمعذّرية بل هي غيرهما، وهما متفرعان عنها، ومترتبان عليها، ولازمان لها عقلاً، فإذا لم يُجعل الشيء أوّلاً حجّة صالحاً للاحتجاج به لا يصحّ الاحتجاج وإلزام الغير به، ولا تترتب عليه صحة المؤاخذة.
ثم إنّ لازم جعل الحجية شرعاً - التي هي الموضوع للمنجّزية والمعذريّة - أمران:
أ - المنجّزية والمعذّرية عقلاً، وهما من مختصّات العقل غير القابلة للجعل.
ب - عدم الاعتناء باحتمال الخلاف، وذلك لا يعني العلمية بالضرورة.
وعليه فإنَّ مرجع التعبّد بالشيء ظاهر في جعله، والأحكام التكليفية وكذلك
ص: 197
الحجية من الأحكام القابلة للجعل التشريعي(1)، وبعد أنْ يجعل الشارع الحجية للأمارة يلزم من ذلك عقلاً استلزام العقاب أو الأمان.
وبناءً على تكفّل أدلّة اعتبار الأمارة بوجود جعل فما هو المجعول فيها؟ فيه عدّة مسالك:
نُسب إلى المشهور أنّ المجعول في باب الأمارات هو الحكم الظاهري المماثل للواقع لما أدت إليه الأمارة، فالأمارة إذا قالت - مثلاً -: (تجب صلاة الجمعة) فهذا يعني جعل الشارع حكماً وجوبياً تكليفياً ظاهرياً لصلاة الجمعة مماثلاً لمضمون الأمارة، فما تقوله الأمارة يجعل الشارع مماثله من الحكم، ثم نحن ننتزع الحجية من ذلك الحكم التكليفي والوجوب الشرعي المجعول.
إنّ مؤديات الأمارات - كخبر الثقة - أحكام ظاهرية شرعية، أو قل أحكام واقعية ثانوية قد جُعِلت للموضوع الذي قامت عليه الأمارة بسبب قيامها عليه، فمعنى حجية الأمارة هو جعل الحكم المماثل لمؤداها، فإذا دلّت على الوجوب فدليل حجيتها يجعل وجوباً مماثلاً لمؤداها، وإذا دلت حجيتها على الحرمة يجعل حرمة مماثلة، وإذا أخبرت الأمارة بطهارة ثوب ثبتت طهارة ظاهرية مماثلة للطهارة التي أخبرت عنها. هذا هو المعروف بينهم كما اعترف به صاحب الكفاية(2).
ص: 198
ولعل هذا المسلك يظهر من الشيخ الأنصاري (رحمة الله) فقد قال في دليل الانسداد في ردّ الوجه الثاني من أدلة القائلين باعتبار الظن في المسائل الأصولية دون الفرعية - الذي ذكره الشيخ محمد تقي (رحمة الله) صاحب هداية المسترشدين -: (إنّ تفريغ الذمة عمّا اشتغلت به: إمّا بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعية، وإمّا بفعل ما حكم حكماً جعلياً بأنّه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة)(1).
وقال أيضاً في بحث دليل الانسداد: (مثلاً: إذا فرضنا حجّيّة الخبر مع الانفتاح تخيّر المكلّف بين امتثال ما علم كونه حكماً واقعياً بتحصيل العلم به، وبين امتثال مؤدّى الطريق المجعول الذي عُلِمَ جعله بمنزلة الواقع، فكلّ من الواقع ومؤدّى الطريق مبرئ مع العلم به، فإذا انسد باب العلم التفصيلي بأحدهما تعيّن الآخر، وإذا انسد باب العلم التفصيلي بهما تعيّن العمل فيهما بالظن)(2).
ص: 199
ثمّ إنّه على هذا المسلك يكون مفاد دليل الأمارة ابتداءً هو جعل أحكام شرعية وإحداث أحكام مماثلة على طبق مؤديات الأمارة، ثم بعد ذلك تنتزع الحجية من تلك الأحكام، وهذا بخلافه على المسلكين الآتيين - جعل المنجّزية والمعذّرية، تتميم الكشف - فهما لا يتضمّنان جعل حكمٍ أصلاً وإنّما يتضمّنان جعل المنجزية أو جعل العلمية لا أكثر، فالحجية المجعولة للأمارات لا تستتبع حكماً.
قال الآخوند (رحمة الله): (فمؤدّيات الطرق والأمارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقية نفسية ولو قيل بكونها أحكاماً طريقية، وقد مرّ غير مرة إمكان منع كونها أحكاماً كذلك أيضاً وأنّ قضية حجيتها ليست إلّا تنجيز مؤدياتها عند إصابتها والعذر عند خطئها، فلا يكون حكماً أصلاً إلّا الحكم الواقعي)(1).
ص: 200
ولا يخفى أنَّ الآخوند (رحمة الله) وإنْ اختار أنّ المجعول في باب الأمارة هو الحجية ونفى كون المراد من جعل الحجية إنشاء أحكام ظاهرية شرعية على طبق مؤدّى الأمارة في أكثر من مورد(1)، ولكنّه (رحمة الله) ذكر أنَّ المستفاد من أخبار باب الاستصحاب أنَّ المجعول فيه إنشاء الحكم المماثل(2)، وسيأتي في الوجه الآتي التعرّض لكلمات الآخوند (رحمة الله).
وعلى أيّ حال يلاحظ على مسلك جعل الحكم المماثل:
1- لا دليل ظاهر إثباتاً في جعل المؤدّى وتنزيله منزلة الواقع، وظهور الأدلة في التعبد بلحاظ العمل لا يدلّ على أنَّ ذلك بعناية التنزيل، بل غاية ما يقتضيه دليل التعبد كونها مورداً للعمل كالواقع ولزوم البناء على كون مضمونها هو الواقع لا تنزيل أمر آخر منزلة الواقع.
وبعبارة أخرى: إنَّ عمدة أدلة الأمارات والعمل بها هو بناء العقلاء، وهو دليل لبّي، ولا لسان للسيرة حتى يستفاد منها التنزيل، فغاية ما يستفاد هو لزوم المتابعة عملاً بلا تفريع ذلك على عناية التنزيل وجعل الحكم المماثل، أو التنزيل منزلة العلم.
إنْ قيل: إنَّ غالب الطرق حجيتها بالبناء العقلائي الممضى، ومقتضى المرتكزات العقلائية التنزيل على ذلك، فتحمل أدلة الإمضاء على ذلك.
أمكن الجواب: بأنَّ المتيقّن من البناء هو العمل بالطرق وترتيب مضمونها عملاً، وعدم الاعتناء باحتمال الخطأ، فيقتصر على ذلك، فالارتكازات والسيرة دليل لبّي لا لفظي حتى يصح التنزيل كما في (الطواف بالبيت صلاة) فإذاً بناء العقلاء لا يقتضي كون العمل بها بعناية التنزيل، ولم يتعلق بناؤهم على جعل حكم تكليفي في موارد الطرق.
ص: 201
وما استدل به من الأدلة اللفظية هو في مقام التأكيد لما بنى عليه العقلاء والإمضاء له، ومفادها الإرشاد إلى ما هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء، والثابت في أعماق نفوسهم، وهو العمل بها.
2- لا يصح ثبوتاً أنْ يكون مراد دليل الاعتبار جعل المؤدّى وتنزيله منزلة الواقع وجعله كالواقع، فإنّ هذا يستلزم جعل الحكم الظاهري في قبال الحكم الواقعي، وهو محل إشكال، إذ يستلزم التصويب وتبعية الواقع لقيام الطريق، وهو خلاف مذهب العدلية. ولأجل ذلك لو فرضنا ورود التنزيل فهو يحمل على الكناية عن حجية الأمارة وإحراز الواقع وترتيب آثاره.
3- إنّ ترتيب أثر الواقع على المؤدّى ليس متوقفاً على توسط عناية التنزيل، بل يكفي في ذلك اتصاف الأمارة بالحجية ابتداءً من خلال إمضاء الشارع لبناء العقلاء على العمل بها.
نسب إلى صاحب الكفاية (رحمة الله) كون المجعول في باب الأمارات هو جعل نفس المنجّزية والمعذّرية، فالمقصود من كون الأمارة حجّة وكون الخبر حجّةً هو أنّه ينجّز الحكم الواقعي في ظرف إصابته له؛ بمعنى استحقاق العقوبة على المخالفة ويكون معذّراً في فرض الخطأ، فالوجوب الواقعي لصلاة الجمعة مثلاً بما أنّه مجهول لا يكون منجَّزاً، ولكن إذا دلّ عليه خبر الثقة صار منجَّزاً(1).
إنَّ اعتبار الأمارة هو بمعنى حجيتها وجعلها منجِّزة للواقع في ظرف الإصابة
ص: 202
فيستحق العبد المؤاخذة لو خالف التكليف الإلزامي، وأنّها معذِّرة للمكلف في ظرف الخطأ إذا عمل المكلف بها، وأنّ فوت الواقع عنه لا يوجب الذم واللوم(1).
وبعبارة أخرى: إنّ المستفاد من الحجية هو جعل المنجّزية والمعذّرية بجعل ذلك شرعاً وتعبداً، وليس المستفاد من الحجية هو جعل الحكم النفسي الثانوي على طبق مؤدّى الطريق - كما عن المشهور - ولا جعل الحكم المماثل الطريقي الذي لازمه جعل الحكم المماثل في حال الإصابة، لا في حال الخطأ. فإذاً لا حكم في مرحلة الظاهر وليس هناك حكم غيرَ الحكم الواقعي أصلاً، وإنّما الغرض هو الطريقية إلى الحكم الواقعي غاية الأمر عند عدم الإصابة يكون العامل على طبق الأمارة معذوراً.
وهذا المسلك والاتجاه لعلّه يظهر من الآخوند (رحمة الله) في بعض كلماته(2).
ولكن يمكن أن يقال: إنّه يظهر من كلامه في مبحث الظن بصورة واضحة أنّ مفاد أدلة اعتبار الطرق والأمارات هو جعل نفس الحجية، وهي مستلزمة ومستتبعة وموجبة للمنجّزية والمعذّرية - وهما في واقعهما حكمان عقليان منتزعان من جعل الشارع الحجية بالجعل الشرعي الإمضائي - وليس المجعول هو عين المنجّزية والمعذّرية، ويدل على ذلك قوله - في مبحث الظن، في جوابه الأول عمّا ذكره عن أدلة استحالة اعتبار
ص: 203
الأمارة وجعلها -: (إنَّ ما ادعي لزومه إمّا غير لازم، أو غير باطل؛ وذلك لأنّ التعبد بطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجيته، والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق، بل إنّما تكون موجبة لتنجيز التكليف به إذا أصاب، وصحة الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته تجرياً وانقياداً مع عدم إصابته كما هو شأن الحجّة غير المجعولة، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين، ولا طلب الضدين، ولا اجتماع المفسدة والمصلحة، ولا الكراهة والإرادة، كما لا يخفى)(1).
ص: 204
فهذه العبارة تدل على أنّ مختاره (رحمة الله) كون المجعول هو نفس الحجية الصرفة والطريقية(1) لا غير؛ بمعنى أنّها لا تستتبع ولا توجب جعل الحكم النفسي المماثل لما أدت إليه الأمارة - كما هو المنسوب إلى المشهور - ولا تستتبع ولا توجب جعل الحكم الطريقي - إمّا بتبع جعل الحجية، أو من غير جعل الحجية - وإنّما تستتبع وتوجب المنجزية لو أصابت، والمعذرية لو أخطأت. وحجية الطريق لا تماثل الحكم الواقعي الثابت ولا تضادّه، وترتبُ العمل على الحجية عقليٌ.
فعبارته (رحمة الله) تدل بوضوح على أنَّ المجعول هو نفس الحجية، وهي من الأحكام الوضعية القابلة للجعل بالاستقلال شرعاً، وتترتب عليها آثارها الأربعة من تنجيز التكليف الواقعي على تقدير إصابة الأمارة له، والتعذير مع عدمها، وكون مخالفتها تجرياً، وموافقتها انقياداً.
ومن الواضح أنَّ المنجّزية والمعذّرية ولزوم الإطاعة وعدم المعصية من مختصات العقل غير القابلة للجعل شرعاً، وإنّما يكون للشارع جعلُ موضوعاتها، وهي الأحكام التكليفية أو الحجية أو نحوهما، وبناءً على تمامية هذا الفهم لا يُشكل بأنّ المنجّزية والمعذّرية - اللذين هما حكمان عقليان - غير قابلين للجعل الشرعي في غير موضوعهما؛ فلا يصحّ جعل المنجزية والمعذرية في صورة الأمارة غير العلمية؛ فإنّ لازمه التخصيص في حكم العقل، وحكم العقل - بعد ثبوت مدركه - غير قابل للتخصيص.
ص: 205
ولا يخفى أنّ عبارته (رحمة الله) في مبحث الظن هي الأساس؛ لأنّها هي محل البحث في المجعول في الأمارة، وهو الموضع الأصلي لذلك. وأمّا كلماته الأخرى التي فيها ذكر المنجّزية والمعذّرية فيمكن حملها - مثلاً - على أنّه ذَكرهما وركّز عليهما باعتبارهما الأثر المهم لحجية الأمارة أو ذَكرهما باعتبار نفيه لجعل الحكم المماثل. وإلّا فالمجعول هو الحجية، أو جعل ما يصح الاحتجاج به على المكلف ممّا يستلزم المنجّزية والمعذّرية عقلاً، أو قل جعل المنجّزية والمعذّرية الشرعية، ولازم ذلك المنجّزية والمعذّرية العقلية، وحكم العقل بالمنجّزيّة والمعذّريّة موضوعه الأعمّ من العلم الوجداني والعلم التعبدي والحجيّة التعبديّة، فالمجعول هو الحجيّة الشرعيّة، أو قل المنجّزية والمعذّريّة الشرعيّة. وعلى أيّ حال لا يبعد أن يكون المجعول في الأمارة هو ما تقدّم.
تبنّى المحقّق النائيني - وتبعه السيد الخوئي (قدس سرهما) - أنَّ المجعول في باب الأمارات هو تتميم الكشف وجعل العلمية التعبدية، فالخبر - مثلاً - هو ظنّ وليس علماً وقطعاً، وهو طريق ناقص لا تامّ، فإذا اعتبره الشارع فذلك يعني جعله فرداً من العلم وطريقاً تامّاً بعد أنْ كان ظناً وطريقاً ناقصاً، فدور الجعل هو اعتبار الأمارة الظنية علماً تعبداً وتتميم الكشف. وأدلّة اعتبار الأمارة توسّع خاصيّة الكشف التامّ للأعمّ من القطع والأمارة وبالتالي قيام الأمارة يوجب العلم بالواقع تعبداً.
قال المحقّق النائيني (رحمة الله) - بعد ذكره جهات ثلاث تمثّل خواصّ العلم الوجداني -: (فهذه الجهات الثلاث كلها مجتمعة في العلم وتكون من لوازم ذات العلم، حيث إنّ حصول الصورة عبارة عن حقيقة العلم ومحرزيّته وجدانيّ والبناء العمليّ عليه قهريّ. ثمّ إنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هي الجهة الثانية من جهات العلم، وفي باب
ص: 206
الأصول المحرزة هي الجهة الثالثة. وتوضيح ذلك: هو أنّ المجعول في باب الأمارات نفس الطريقيّة والمحرزيّة والكاشفيّة، بناءً على ما هو الحق عندنا من تعلّق الجعل بنفس الطريقيّة، لا بمنشأ انتزاعها، كما هو مختار الشيخ (قدس سره) - وسيأتي إن شاء الله تفصيله في مبحث الظن - وأنّ تصوير ما يكون منشأ لانتزاع الطريقية في غاية الإشكال، بل كاد أنْ يكون من المحالات. وليس المجعول في باب الأمارات هو المؤدّى بحيث يتعلق حكم بالمؤدّى غير ما للمؤدّى من الحكم الواقعي، فإنّ ذلك غير معقول كما سيأتي، بل المجعول هو الطريقية والوسطية في الإثبات والكاشفية عن الواقع، أيْ تتميم الكاشفية بعد ما كان في الطرق والأمارات جهة كشف في حدّ أنفسها، غايته أنّ كشفها ناقص وليس ككاشفية العلم. ومن هنا اعتبرنا في كون الشيء أمارة من أن يكون له في حدّ ذاته جهة كشف، والشارع في مقام الشارعيّة تمّم كشفه وجعله محرزاً للواقع ووسطاً لإثباته، فكأنّ الشارع في عالم التشريع جعل الظنّ علماً من حيث الكاشفية والمحرزية بلا تصرف في الواقع ولا في المؤدّى، بل المؤدّى بعدُ باقٍ على ما هو عليه من الحكم الواقعي صادفت الأمارة للواقع أو خالفت، لأنّه يكون من مصادفة الطريق أو مخالفة الطريق لذي الطريق من دون توسعة في الواقع وتنزيل شيء آخر منزلة الواقع، فإنّ كل ذلك لم يكن، بل المجعول هو نفس الطريقية والكاشفية والمحرزية التي كان القطع واجداً لها بذاته والظن يكون واجداً لها بالتعبد والجعل الشرعي، فهذا هو المجعول في باب الطرق والأمارات)(1).
ص: 207
وقال (رحمة الله): (إنّ مقتضى التحقيق أنّ المجعول في باب الأمارات والطرق - كما أشرنا إليه في بعض مباحث القطع - أنّما هو المرتبة الثانية من العلم الطريقي وهي المحرزية والوسطية في الإثبات دون الأحكام التكليفية البعثية أو الزجرية على ما سيجيء في بحث الاستصحاب من كون الأحكام الوضعية - في غير الجزئية والشرطية والسببية والمانعية - ممّا تنالها بأنفسها يد الجعل تشريعاً وليست هي منتزعة من الأحكام... فإذا كان الحكم الوضعي بنفسه قابلاً للجعل كالحكم التكليفي ولم يكن هناك مقتض لتخصيص المجعول الشرعي بخصوص الحكم التكليفي فلا مانع من كون المجعول في باب الطرق والأمارات نفس صفة المحرزية والوسطية في الإثبات؛ إذ هي نظير الملكية والزوجية والرقية وغيرها في كونها قابلة للاعتبار ممّن بيده الاعتبار... وممّا يدلّ على أنّ المجعول في باب الطرق محض صفة المحرزية ليس إلّا أنّه ليس في الشريعة طريق مجعول ابتدائي أبداً، وإنّما الطرق الشرعية هي التي يعتمد عليها العقلاء في أمور معاشهم ومعادهم لما يرونها طرقاً متقنة نظير العلم الوجداني ولا يعتنون باحتمال مخالفة الطريق للواقع بل يفرضون هذا الاحتمال كالعدم... وإذا كانت الطرق المجعولة طرقاً عقلائية ولم يكن للشارع بالإضافة إليها تصرف إلّا إمضاؤها فلا بدّ وأنْ يكون المجعول محض صفة الطريقية والمحرزية. ضرورة أنّ جعل الأحكام التكليفية في موارد تلك الطرق
ص: 208
غير محتمل من العقلاء بالكلية، بل شأنهم أنّما هو إلغاء احتمال الخلاف الموجود في موارد تلك الطرق وجعله كالعدم والمعاملة معها معاملة الطرق العلمية. فلو سلمنا أنّ لاحتمال كون الحجية منتزعة من الحكم التكليفي مجالاً واسعاً على تقدير كون الطرق مجعولات شرعية ابتدائية لكنّه ليس له مجال على تقدير كونها مجعولات إمضائية، كما هو الواقع.. وبالجملة الإشكال إنّما يتوجّه على من ذهب إلى عدم استقلال الحجّية بالمجعولية، وإنّما هي تنتزع من الحكم التكليفي، وبعد البناء على كونها بنفسها قابلة للجعل من دون أن يكون في موردها حكم تكليفي غير الأحكام الواقعية يندفع الإشكال ويكون انتفاء التضاد بين الحكم الواقعي والظاهري من باب السالبة بانتفاء الموضوع)(1).
وبملاحظة كلماته (رحمة الله) تتّضح عدة أمور:
1 - إنّ الشارع المقدّس جعل الطريقية والحجية، وليست الحجية منتزعة من الحكم التكليفي.
2 - إنّ معنى جعل الحجّية للأمارة هو تتميم كاشفية الأمارة واعتبارها علماً(2) ومحرزيتها للواقع كإحراز القطع والعلم للواقع - غايته محرزية القطع للواقع ذاتية لا
ص: 209
تحتاج إلى جعل واعتبار بخلافه في الأمارة فهي بواسطة الجعل - فيكون لها نفس الدور الثابت للقطع، وهو الوسطية في الإثبات والكاشفية عن الواقع.
3- إنّ الأمارة لا تقتضي تبدّل الواقع، بل الواقع باقٍ على ما هو عليه، كما أنّه لا يُتصرّف في الواقع بجعل مؤدّى الأمارة وما تكشف عنه واقعاً تنزيلاً(1)، كما أنّه لا يُجعل
ص: 210
حكم مماثل للأمارة، وإنّما جعل الشارع الأمارة في عالم التشريع علماً ووسّع خاصية الكشف التامّ للأعمّ من القطع والأمارة، فالمجعول في أدلة الحجية ليس هو التنزيل ولا الحكم المماثل، بل جعل الظنّ علماً على حدّ المجاز الادعائي عند السكاكي، واستفاد (رحمة الله) من ذلك في التخلّص من محذور المنافاة مع القاعدة العقلية وغيره، كما سيأتي في ثمرات مسلك تتميم الكشف.
4 - إنّ الشارع المقدس جعل الأمارة فرداً تشريعياً من العلم بتتميم كشف الأمارة ولو إمضاءً بإلغاء احتمال الخلاف تشريعاً، كما أنّ احتمال الخلاف في العلم ملغىً تكويناً، وهذا بخلاف الأصل فإنّ المجعول فيه هو الجري العملي مطلقاً، قال (قدس سره): (إنَّ المجعول في الأمارات... إنّما هو نفس صفة المحرزية والوسطية في الإثبات... وبعبارة أخرى: جعل فرد تشريعي من العلم، وهذا بخلاف الأصل، فإنّ المجعول فيه هو الجري العملي مطلقاً...)(1).
وبالتالي يكون دور الأمارة دور الوسطية في الإثبات كما هو حال القطع، ويترتب على ذلك ثبوت المنجزية والمعذرية، غايته أنّ موضوعية القطع للتنجيز والتعذير ثابتة
ص: 211
بالوجدان وموضوعية الأمارة لهما ثابتة بالتعبد والجعل الشرعي، فبالتعبّد أخرجت الأمارة حقيقة من الظنون بعد إعطائها خاصيّة الكشف.
5 - إنّ الوجه في اختيار كون المجعول في الأمارات هو الطريقية وتتميم الكشف هو أنّ الأمارات ليست مخترعةً من الشارع، وإنّما هي طرق معتمدة عند العقلاء في أمورهم وبيان مراداتهم، وبملاحظة العقلاء نجد أنّهم لا يعتنون باحتمال مخالفتها ويجعلونه كالعدم، ويبنون على الأمارات باعتبارها كالعلم الوجداني في نظرهم، فجاء الجعل التشريعي عليه حيث وقع الإمضاء على هذا البناء العقلائي.
6- إنّ القطع تجتمع فيه ثلاث جهات: جهة كونه صفة قائمة بنفس العالم من حيث إنشاء النفس صورة على طبق ذي الصورة. وجهة إضافة الصورة لذي الصورة وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيته له. وجهة البناء والجري العملي على وفق العلم. والمجعول في باب الأمارات الجهة الثانية، وفي الأصول المحرزة الجهة الثالثة، ففي مثل الأمارات والطرق الناظرة إلى الواقع يكون المجعول الشرعي الطريقية إلى الواقع كما أنّ القطع طريق إليه، وفي مثل الأصول المحرزة - التي أُخذ الشك في موضوعها، وليس لها نظر إلى الواقع ولكن حكم الشارع مع فرض الشك بالبناء على الواقع وبعدم الاعتناء بوجوده كالاستصحاب - يكون المجعول الشرعي الجري العملي، وفي كل منهما يكون لأدلّة اعتبارهما حكومة ظاهرية على الأدلّة الواقعية.
وعن الميرزا (قدس سره) أنّه قسّم الأصول العملية إلى ثلاثة أقسام: تنزيلي، ومحرز، وصرف غير التنزيلي وغير المحرز:
والأول كأصالة الطهارة وأصالة الحل، فيُراد بهما تنزيل المشكوك منزلة الطاهر والحلال، فالشارع المقدّس لا يلاحظ الاحتمال بل مباشرة يعطينا النتيجة.
ص: 212
والثاني كالاستصحاب، فالشارع هنا يلاحظ الاحتمال ويقول: لا تنقض اليقين بالشك.
والثالث كالبراءة والاحتياط, والمجعول فيهما صفة المنجزية والمعذرية. والفرق بين الأصل العملي المحرز وبين جعل العلمية للأمارة أنّ الملاحظ في الأول هو فقط خصوصية الجري العملي. وأمّا في الثاني فالملاحظ هو خصوصية الكاشفية التامة،
والجري العملي إنّما جاء من الانكشاف(1). هذا أحد الفروق بينهما.
ومن الفروق الأخرى التي ذكرت: أنّ الأمارة - في حدّ ذاتها ومع قطع النظر عن حجيتها شرعاً - قد أُخذت فيها حيثية الكشف عن الواقع، وهذا بخلاف الأصول فإنّها لم تلحظ فيها هذه الجهة.
ومنها: أنَّ مثبتات الأمارة حجّة دون مثبتات الأصول.
ومنها: أنّ الأمارات حاكمة على الأصول، بمعنى أنّها رافعة لموضوع الأصول وهو الشك، فموضوع الأصول يرتفع بوجود الدليل(2).
قال (رحمة الله): (فظهر: أنّ المجعول في الأمارات ليس هو مجرد تطبيق العمل على المؤدّى،
بل تطبيق العمل على المؤدّى من لوازم المجعول فيها، وإنّما المجعول أولاً وبالذات نفس الإحراز والوسطية في الإثبات، وبتوسطه يلزم تطبيق العمل على المؤدّى. نعم،
ص: 213
المجعول في باب الأصول العملية مطلقاً هو مجرد تطبيق العمل على مؤدّى الأصل، إذ ليس في الأصول العملية ما يقتضي الكشف والإحراز، وليست هي طريقاً إلى المؤدّى، بل إنّما تكون وظائف تعبدية للمتحير والشاك لا تقتضي أزيد من تطبيق العمل على المؤدّى)(1).
وأضاف (قدس سره): (فالأقوى: أنّ الحجّية والوسطية في الإثبات بنفسها ممّا تنالها يد الجعل بتتميم كشفه، فإنّه لا بُدّ في الأمارة من أنْ يكون لها جهة كشف عن الواقع كشفاً ناقصاً، فللشارع تتميم كشفها ولو إمضاء بإلغاء احتمال الخلاف في عالم التشريع، كما ألقى احتمال الخلاف في العلم في عالم التكوين، فكأنّ الشارع أوجد في عالم التشريع فرداً من العلم، وجعل الطريق محرزاً للواقع كالعلم بتتميم نقص كشفه وإحرازه، ولذا قامت الطرق والأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية)(2).
وأفاد السيد الخوئي (رحمة الله) هذا المضمون أيضاً بقوله:(أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الكاشفية والطريقية بتتميم الكشف، بمعنى أنّ الشارع يعتبر الكاشف الناقص كاشفاً تامّاً، والأمارة غير العلمية علماً، إذ عليه يكون التعبد ناظراً إلى نفس الطريقية والكاشفية، بلا حاجة إلى كون المؤدى حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي)(3).
وقال السيد الشهيد الصدر (رحمة الله): (إنّهم حاولوا تخريج قيام الأمارة مقام العلم الطريقي على أحد أساسين:
1 - ما صنعته مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) من أنّ المجعول في الأمارات هو الطريقية
ص: 214
واعتبار الأمارة علماً من دون تنزيل وإسراء فيرتفع اللابيان وينقلب بياناً وعلماً.
2- ما ذهبت إليه مدرسة الشيخ الأنصاري (قدس سره) حيث ادعت أنّ التنزيل بحسب الحقيقة لمؤدّى الأمارة منزلة المقطوع؛ لأنّ المؤدّى إمّا حكم شرعي أو موضوع لحكم شرعي فيكون قابلاً للإسراء الشرعي)(1).
فإذن على مسلك تتميم الكشف يكون المراد من حجّية الأمارة هو اعتبارها فرداً من العلم، وبعد صيرورتها علماً تترتب عليها آثار العلم قهراً من التنجيز والتعذير، لا تنزيلها منزلة العلم، والفارق بين عمليتي الاعتبار والتنزيل أنّه في الأول تصير الأمارة فرداً من العلم من قبيل المجاز السكاكي وتترتب عليها آثاره قهراً، وهذا بخلافه في الثاني فإنّه تبقى الأمارة ظناً، غاية الأمر ترتب عليها آثار العلم فالمنظور ابتداءً في باب التنزيل الآثار.
وعلى هذا فلا يصح الإيراد على المحقق النائيني (رحمة الله) بأنّ جعل الأمارة علماً - الذي يعني تنزيلها منزلة العلم - هو عبارة أخرى عن جعل أحكام العلم من التنجيز والتعذير لها، والمفروض استحالة ذلك، لأنّه يجاب بأنّه ليس مقصود المحقق النائيني (رحمة الله) تنزيل الأمارة منزلة العلم في الآثار، بل مقصوده اعتبار الأمارة علماً ثم يرتّب (رحمة الله) على هذا الاعتبار التنجيز والتعذير.
وقد رتّب واستفاد المحقّق النائيني على مسلكه في موارد كثيرة وسيأتي التعرض لذلك.
وعلى أيّ حال يلاحظ على مسلك تتميم الكشف وجعل الأمارة تعبداً من حيث كونه طريقاً وكاشفاً:
ص: 215
1- أنّه لا معنى ثبوتاً لاعتبار الطرق علماً، وإنّما التعبد والاعتبار يتناول الحقائق الجعلية.
وبعبارة أخرى: إنَّ جعل ما ليس بعلم علماً يستحيل صدوره عن الحكيم حيث لا يترتّب عليه أثر؛ لأنّ خبر الثقة - وكذا ظواهر الألفاظ - في حدّ ذاته كشفه غير تام وطريقيته ناقصة، فطريقية الأمارات ذاتية غايته ظناً نوعاً، أو قل تفيد الظن النوعي - كما أنَّ طريقية القطع ذاتية وتكوينية غير قابلة للجعل - ولا يمكن بالأمر والجعل التشريعي جعل العلمية له.
إنْ قيل: المراد جعل الطريقية والكاشفية الاعتبارية التشريعية لا جعل الطريقية التكوينية.
كان الجواب: إنَّ هذا لا أثر له فهو لا يزيد في طريقية أخبار الثقة، فوجود الطريقية كالعدم. اللهم إلّا أنْ يرجع جعل الطريقية لأخبار الثقة إلى تنزيل أخبار الثقة منزلة العلم. ولكن مدرسة المحقق النائيني تنفي تنزيل الأمارات منزلة العلم، بل تقول بالطريقية تعبداً.
2- مع التنزّل والقول بإمكان الجعل المذكور، فإنّه إثباتاً لا مجال لاستفادته من الأدلّة؛ لعدم تضمّن أدّلة الاعتبار توصيف الطرق بأنّها علم وبالتالي جعل العلمية يحتاج إلى مثبت، فالسيرة القطعية الجارية عند العقلاء على العمل بأخبار الثقة(1) في أغراضهم الاجتماعية والشخصية والدينية وغيرها لا تدلّ على جعل العلمية، وما استدل به من الآيات والروايات على حجية أخبار الآحاد تفيد التأكيد لا التأسيس.
ص: 216
إنْ قيل: يلزم حمل الأدلّة على ذلك بقرينة ورودها مورد الإمضاء لبناء العقلاء، وعملهم بالطرق مبنيٌ على معاملتها معاملة العلم الوجداني.
كان الجواب: أنَّ المتيقّن من بنائهم هو العمل وترتيب مضمونها وعدم الاعتناء عملاً باحتمال خطئها والخلاف، وأمّا البناء تشريعاً على كونها علماً والتعبد بذلك فهو بحاجة إلى دليل، ولا يستفاد من سيرة العقلاء وارتكازاتهم، فالدليل المهم - إثباتاً - على حجّية خبر الثقة هو السيرة، وهي لا لسان لها يدلّ على جعل ما ليس بعلم علماً، فالسيرة كما لا تدلّ على جعل الأحكام الظاهرية المماثلة كذلك لا تدلّ على جعل العلمية، وغاية ما هو ثابت في نفوس العقلاء هو العمل على طبق الأمارة ومن يخالف يستحق العقوبة، ولا تدلّ سيرتهم على أنّهم يجعلون خبر الثقة علماً ثم يرتبون عليه المنجزية والمعذرية كالقطع.
إنْ قيل: إنَّ استحقاق العقوبة هو أثر ومعلول عقلي للعلم والقطع ولا يقبل الجعل، فإذاً العقلاء مسبقاً يعتبرون الأمارة علماً، فيترتّب قهراً استحقاق العقوبة.
كان الجواب: إنّه أثر عقلي للعلم وليس أثراً عقلياً للأمارة، ثم إنَّ الأثر العقلي يمكن جعله - والعقلاء ببابك - كما لو قال أحدٌ: عليكم باتباع أمر ولدي، ومن خالف سأعاقبه.
هذا كله إذا كان المراد أنَّ دليل حجية الأمارة يدلّ مباشرة على أنَّ خبر الثقة معناه جعله علماً. وأمّا إذا كان المراد أنَّ دليل حجية الأمارة يجعل الأمارة موجبة لاستحقاق العقوبة، ونستكشف أنَّ المولى قد جعلها علماً من باب الدلالة الالتزامية فيرده: أنّه لا معنى لجعل الأمارة علماً وجدانياً؛ لأنّ كلّ حاكم يتصرّف في موضوع الأحكام الصادرة عنه دون الصادرة عن غيره، والعقل يحكم باستحقاق العقوبة بخصوص العلم
ص: 217
الوجداني، فلا معنى لأنْ يأتي غيره ويوسّع ذلك إلى الأمارة. نعم، الذي يعقل هو أنْ يكون حكم العقل من البداية معلقاً على ما إذا لم يجعل الشارع الأمارة علماً، ولكن هذا لا يتوقف على خصوص جعل العلمية للأمارة فالعقل يمكن أنْ يقول إذا أمر الشارع باتباع الأمارة فأنا أرفع اليد عن حكمي بكون المنجّز هو خصوص القطع.
وعلى أيّ حال لا يبعد أنَّ الأقرب هو كون مفاد أدلّة اعتبار الأمارة جعل واعتبار نفس الحجية لها، كما تقدّم بيان ذلك في التعليق على الوجه الأول، وكذلك في الوجه الثالث، فلاحظ. وهذا أيضاً ظاهر عبارة الآخوند في باب الظن وتقدّم توضيحه.
ولا ظهور للأدلة في كون لسانها لسان التنزيل - سواء أ كان تنزيل المؤدّى منزلة الواقع أم التنزيل منزلة العلم وإلغاء احتمال الخلاف معها ادعاءً لأجل التنزيل المذكور - كما لا يتضمّن لسانها جعل العلمية التعبدية. والذي لا إشكال في ثبوته وظهوره من أدلّة الاعتبار هو التعبد بلحاظ العمل، ولزوم البناء على كون مضمونها هو الواقع والتعبّد بذلك، والإحراز له إثباتاً، وبيان جعل الحجية لهذه الطرق، وأنّها حجة في مؤدّياتها كالقطع في ظرف الجهل بالواقع، ومعنى جعل الحجية أنّها معتبرة عند معتبرها أي يستند إليها في الاحتجاج فالخبر إذا كان حجّة يحتجّ به، وبالتالي لازم ذلك عقلاً المنجزية والمعذرية، وهذا المعنى من الحجية عقلائي وهو مرتكز عرفاً دون جعل الحكم المماثل أو تتميم الكشف، فالمرتكز في أذهان العرف والعقلاء والثابت في أعماق نفوسهم هو العمل بالطرق والاعتناء بمضمونها عملاً وعدم الاعتناء باحتمال خطئها.
وبعبارة أخرى: إنّ العقلاء يعتنون بخبر الثقة عملاً ويرونه طريقاً متقناً ولا يعتنون باحتمال الخلاف، ومن لم يعمل بخبر الثقة يلام عندهم، فخبر الثقة حجّة يحتجّ به، ويكفي في ترتيب أثر الواقع اتصاف الأمارة بالحجية من خلال إمضاء الشارع لبناء
ص: 218
العقلاء على العمل بها. وأمّا القول بجعل العلمية أو بجعل حكم تكليفي مماثل فهذا بحاجة إلى مثبت واضح وإلى كلفة ومؤونة زائدة، ولا دليل من بناء العقلاء على ذلك، والعقل يدرك حجية الأمارة شرعاً بعد إمضاء الشارع لهذا البناء، فالمنجّز عقلاً القطع وكذلك ما جعله الشارع من خلال الحجية الإمضائية(1).
ص: 219
(ثمرات مسلك تتميم الكشف)
إنَّ هذا المسلك - الذي شيّد أركانه المحقّق النائيني وتبعه السيد الخوئي (قدس سرهما) - ترتّبت عليه كثير من الثمرات، الأعم من اختصاص ترتبها على هذا المسلك ومن كونها توظيفات وتفريعات عنه ونتائج له, وإليك جملة منها:
يوجد في باب الظنّ عدّة من المباحث..
بحث ثبوتي في أنَّ الظن بنفسه - رغم الرجحان الذي فيه - ليس بحجّة لا يجوز العمل به عقلاً، وإنّما تحتاج حجيته إلى عناية جعل شرعي، أو تطرأ حالة استثنائية - كالانسداد لباب العلم - وهذا البحث عرف ممّا تقدّم.
وكذلك يوجد بحث ثبوتي آخر في إمكان وقوع التعبد من الشرع بالظن ولا يلزم من وقوع التعبد محال، فالظنّ ليس بممتنع أنْ يجعل الشارع الحجّية له عقلاً، بل هو ممكن(1)، ولكن نُسب إلى ابن قِبة استلزام وقوع التعبد بالظنّ للمحال، فيكون الظنّ ممتنع الحجّية، وأنّ الشارع لا يمكنه جعل الحكم الظاهري - وهو جعل الأمارة حجّة(2)
ص: 220
- لأنّ لازم جعل الحجية للأمارة والظن - التي أحد أفرادها خبر الثقة - تحليل الحرام وبالعكس.
ويقول السيد الشهيد الصدر (رحمة الله): إنَّ شبهة ابن قِبة حرّكت الفكر الأصولي في باب الأمارات والأحكام الظاهرية باتجاه التماس تخريجات وتفسيرات لحقيقة هذا الحكم وكيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي(1).
وقد ذكر الأصوليون عدّة أجوبة عن شبهة ابن قِبة - بعد أنْ قرّروها بعدة محاذير، محصلها أنَّ الحكم الظاهري يتنافى مع الحكم الواقعي ولا يجتمع معه - وأطلقوا على هذا المبحث اسم الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية.
وبيّن المحقّق النائيني (رحمة الله) أنَّ المحاذير المتوهمة من التعبد بالأمارات: منها ما يرجع إلى محذور ملاكي. ومنها ما يرجع إلى محذور خطابي. وأراد بالأول تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة، وبالثاني اجتماع الضدين أو المتناقضين(2). وفي المحذور الثاني ذكر (رحمة الله) ما أُجيب به عنه وناقشه، ثمّ ذكر جوابه المختار بناءً على مسلكه, قال (قدس سره): (ليس المجعول فيها حكماً تكليفياً حتى يتوهم التضاد بينه وبين الحكم الواقعي... - إلى أن قال - (ليس في باب الطرق والأمارات حكم حتى ينافي الواقعي ليقع في إشكال التضاد أو التصويب، بل ليس حال الأمارة المخالفة إلّا كحال العلم المخالف، فلا يكون في البين إلّا الحكم الواقعي فقط مطلقاً أصاب الطريق الواقع أو أخطأ، فإنّه عند الإصابة يكون المؤدّى هو الحكم الواقعي كالعلم الموافق ويوجب تنجيز الواقع وصحة
ص: 221
المؤاخذة عليه كالعلم المخالف من دون أنْ يكون هناك حكم آخر مجعول)(1).
وقال (رحمة الله): (إنّ مقتضى التحقيق أنَّ المجعول في باب الأمارات والطرق - كما أشرنا في بعض مباحث القطع - إنّما هو المرتبة الثانية من العلم الطريقي وهي المحرزية والكاشفية في الإثبات دون الأحكام التكليفية أو الزجرية على ما سيجيء في بحث الاستصحاب من كون الأحكام الوضعية - في غير الجزئية والشرطية والسببية والمانعية - ممّا تنالها بأنفسها يد الجعل تشريعاً وليست هي منتزعة من الأحكام التكليفية... فإذا كان الحكم الوضعي بنفسه قابلاً للجعل كالحكم التكليفي ولم يكن هناك مقتضٍ لتخصيص المجعول بخصوص الحكم التكليفي فلا مانع من كون المجعول في باب الطرق والأمارات نفس صفة المحرزية والوسطية في الإثبات، إذ هي نظير الملكية والزوجية والرقية وغيرها في كونها قابلة للاعتبار ممّن بيده الاعتبار.... وممّا يدل على أنَّ المجعول في باب الطرق محض صفة المحرزية ليس إلّا أنّه ليس في الشريعة طريق مجعول ابتدائي أبداً، وإنّما الطرق الشرعية هي التي يعتمد عليها العقلاء... وإذا كانت الطرق المجعولة طرقاً عقلائية ولم يكن للشارع بالإضافة إليها تصرف إلّا إمضاؤها فلا بدّ وأنْ يكون المجعول محض صفة الطريقية والمحرزية، ضرورة أنَّ جعل الأحكام التكليفية في موارد تلك الطرق غير محتمل من العقلاء بالكلية، بل شأنهم إنّما هو بإلغاء احتمال الخلاف... وبالجملة الإشكال إنّما يتوجه على من ذهب إلى عدم استقلال الحجية بالمجعولية، وإنّما هي تنتزع من الحكم التكليفي، وبعد البناء على كونها بنفسها قابلة للجعل من دون أن يكون في موردها حكم تكليفي غير الأحكام الواقعية يندفع
ص: 222
الإشكال، ويكون انتفاء التضاد بين الحكم الواقعي والظاهري من باب السالبة بانتفاء الموضوع)(1).
والخلاصة: أنَّ الأمارة لا تجعل حكماً - بل الحكم واحد وهو الحكم الواقعي - كي يلزم المحذور، وإنّما هي مجرّد طريق قد تخطئ وقد تصيب(2).
لا إشكال بين الأصوليين في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي في التنجيز والتعذير لكن يوجد إشكال فني نظري، وهو أنَّ المنجِّز - أي الموجب لاستحقاق العقوبة على المخالفة - هو العلم والقطع فقط؛ لأنّ مقتضى القاعدة العقلية المشهورة هو قبح العقاب بلا بيان، فالعقل يقبّح العقاب بلا بيان أي بلا علم، وهذا معناه أنّ الذي ينجِّز فقط هو العلم بمعنى القطع وغير القطع لا يصح معه العقاب، فكيف يجعل المولى الأمارة حجة منجزة ومعذرة! فهذا مخالف للحكم العقلي والقاعدة العقلية المتقدّمة، وهو يستلزم تخصيص حكم العقل، والأحكام العقلية لا تقبل التخصيص، فلا يصحّ أنْ يقال (إنَّ العقاب بلا بيان قبيح إلّا مع قيام الأمارة على التكليف), فإنّ العقاب بلا بيان في هذا المورد ليس بقبيح.
ص: 223
وبعبارة أخرى: إنَّ الظن ليس منجّزاً لعدم كون الحجية من لوازمه ومقتضياته في نفسه؛ لأنّه ليس فيه انكشاف تام للواقع كما في القطع، لوجود احتمال الخلاف فلا يجوز العمل به عقلاً، فلو قيل: بأنّه منجّز لزم تخصيص القاعدة العقلية، وهو غير ممكن.
فإذاً فرض كون مفاد الحكم الظاهري هو جعل المنجزية من دون سبق جعل العلمية ليس بصحيح، بل يستحيل؛ لأنّه ليس بياناً فيلزم محذور تخصيص قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
والتخلّص من هذا المحذور والإشكال على مسلك جعل العلمية يكون بأنْ يعتبر المولى الأمارة علماً كالعلم الوجداني، ومعه يتمّ البيان، وسوف تثبت المنجزية للأمارة قهراً بحكم العقل بلا حاجة إلى جعل التنجيز.
قال المحقّق النائيني (رحمة الله): )المجعول فيها نفس المحرزية، والتنجيز والعذر من اللوازم العقلية المترتبة على ما هو المجعول، لوضوح أنَّ التنجيز لا يكون إلّا بالوصول إلى الواقع وإحرازه إمّا بنفسه - كما في العلم والطرق والأمارات والأصول المتكفلة للتنزيل - وإمّا بطريقه - كما في موارد جريان أصالة الاحتياط -... وعلى كل حال: نفس التنجيز والعذر غير قابل للجعل كما ربّما يوهمه بعض الكلمات، وإنّما الذي يكون قابلاً للجعل هو المحرزية والوسطية في الإثبات ليكون الواقع واصلاً إلى المكلّف ويلزمه عقلاً تنجيز الواقع)(1).
وقال السيد الخوئي (رحمة الله): (ثمّ إنّ الصحيح في باب الأمارات هو القول بأنّ المجعول هو الطريقية والكاشفية، لا القول بأنّ المجعول هو المنجزية والمعذرية، لكونه مستلزماً
ص: 224
للتخصيص في حكم العقل، وحكم العقل بعد ثبوت ملاكه غير قابل للتخصيص)(1).
والخلاصة: أنَّ التخلص من الإشكال إنّما يكون بجعل البيان والعلم تعبداً، فيكون دليل اعتبار الأمارة موسّعاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان بتوسعة موضوعها - الذي هو البيان والعلم والقطع الوجداني - ليشمل الأمارة كخبر الثقة بجعلها طريقاً وبياناً، فدليل اعتبار الأمارة يوسّع البيان الوارد من الشارع لما يشمل البيان الواقعي - الوجداني، والظاهري التعبدي - فبقيام الأمارة يتحقق فرد من البيان الشرعي، وحينئذ يرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
إنَّ القطع والجزم الذي لا يحتمل الخلاف يجب السير على وفقه عملاً، وهذا هو معنى حجية القطع، وللقطع الحاصل من القاطع خواص ثلاثة: الكاشفية، والمحركية والمنجزية لتكليف المولى على العبد عقلاً، وهذه الخاصية الثالثة هي ما يبحث عنه في علم الأصول فإذا قالوا القطع حجّة فالمراد منجزيته ومعذريته.
واستدل بعض على حجّية القطع بحكم العقل كما استدل بعضهم بحكم العقلاء، والمعروف امتناع الردع عن حجّية القطع ومنجزيته - وهذا هو معنى أنَّ حجّية القطع ذاتية - وإنّما الممكن تنبيه المخطئ في قطعه إلى الخلل في مقدمات قطعه فيحصل تبدّل قطعه، والقطع على نحوين طريقي وموضوعي. والأول هو طريق، ويُثبت المنجزية والمعذرية للحكم الثابت، ولا يكون مأخوذاً في موضوع الحكم. الآخر هو القطع المأخوذ في موضوع الحكم واقعاً(2) بأنْ كان له دخل في ترتب الحكم واقعاً، فدور
ص: 225
القطع الموضوعي أنّه يثبت به الحكم، أو قل يتحقّق به موضوع الحكم، كما لو قيل (الشهادة المقطوع بها تجوز) فجواز الشهادة موضوعه القطع بالشيء، وإلّا لا تجوز الشهادة.
وقُسّم القطع الموضوعي إلى قسمين باعتبار أنَّ القطع قد يكون مأخوذاً في الموضوع بنحو الصفتية وبما هو صفة نفسانية، وقد يكون مأخوذاً في الموضوع بنحو الطريقية بما هو طريق ومنجِّز للواقع؛ لأنّ القطع من الصفات الحقيقية ذات الإضافة التي تحتاج في وجودها إلى المتعلق وهو المقطوع به، فللقطع جهتان: الأولى: كونه من الصفات المتأصلة وله تحقق واقعي. والثانية: كونه متعلقاً بالغير وكاشفاً عنه، وحينئذ قد يكون القطع مأخوذاً في الموضوع بلحاظ الجهة الأولى، ويسمى بالقطع الموضوعي الصفتي، وقد يكون مأخوذاً في الموضوع بملاحظة الجهة الثانية، ويسمى بالقطع الموضوعي الطريقي(1).
وقد وقع الكلام بين الأصوليين في أنّ الأمارة لو خُلينا نحن ودليل حجّيتها هل تفي بالقيام مقام القطع الموضوعي؟ فلو قال المولى: (كل ما قطعت بأنّه خمر فأرقه) وقامت أمارة على أنَّ هذا خمر، فهل يترتّب وجوب الإراقة؟ المعروف أنَّ الأمارات تقوم مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية دون المأخوذ على نحو الصفتية،
ص: 226
والشيخ الآخوند (رحمة الله) ذهب إلى عدم قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية(1).
وحاصل بيان مرامه كما حرّره السيد الخوئي (قدس سره): (أنَّ التنزيل يستدعي لحاظ المنزّل والمنزّل عليه. ولحاظ الأمارة والقطع في تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي آلي؛ إذ الأثر مترتب على الواقع المنكشف بالقطع لا على نفس القطع كما هو المفروض، فيكون النظر في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الأمارة، ولحاظ الأمارة والقطع في تنزيل الأمارة منزلة القطع المأخوذ في الموضوع استقلالي؛ إذ الأثر مترتب على نفس القطع، فالجمع بين التنزيلين في دليل واحد يستلزم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي المتعلقين بملحوظ واحد في آن واحد ولا يمكن الجمع بينهما، فلا يمكن أنْ يكون دليل واحد متكفلاً لبيان كلا التنزيلين، وحيث إنَّ أدلة حجّية الأمارات ظاهرة بحسب متفاهم العرف في التنزيل من حيث الطريقية فلا بُدّ من الأخذ به ما لم تقم قرينة على التنزيل من حيث الموضوعية)(2).
واختار المحقّق النائيني (رحمة الله) أنَّ الأقوى هو قيام الأمارة مقام القطع الطريقي مطلقاً
ص: 227
ولو كان مأخوذاً في الموضوع، فهو (رحمة الله) فرّع على مسلكه - من جعل العلمية وتتميم الكشف - قيام الأمارة مقام كلا قسمي القطع.
قال (رحمة الله): (فإنّ ما ذكر مانعاً عن قيامها من القطع المأخوذ موضوعاً على وجه الطريقية - من استلزام الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في لحاظ واحد - ضعيف غايته، فإنّ الاستلزام المذكور مبني على جعل المؤدى الذي قد تبيّن فساده. وأمّا على المختار من أنَّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو نفس الكاشفية والمحرزية والوسطية في الإثبات فيكون الواقع لدى من قامت عنده الطرق محرزاً كما كان في صورة العلم، والمفروض أنّ الأثر مترتب على الواقع المحرز، فإنّ ذلك هو لازم أخذ العلم من حيث الكاشفية موضوعاً، وبنفس دليل حجية الأمارات والأصول يكون الواقع محرزاً فتقوم مقامه بلا التماس دليل آخر... فإنّ مبنى الإشكال هو تخيّل أنَّ المحمول في باب الطرق والأمارات والأصول هو المؤدّى وتنزيله منزلة الواقع... فيقال: إنَّ في قيام الظن مقام العلم المأخوذ موضوعاً يحتاج إلى تنزيلين: تنزيل المظنون منزلة المقطوع، وتنزيل الظن منزلة القطع، وأنت بعدما عرفت حقيقة المجعول في باب الأمارات والأصول ظهر لك: أنّه ليس في البين تنزيل أصلاً، بل الشارع إنّما أعطى صفة المحرزية للظن، فيرتفع الإشكال من أصله)(1).
وقال السيد الخوئي (رحمة الله) بعد ذكر رأي صاحب الكفاية: (وفيه: أنَّ تنزيل مؤدى الأمارة منزلة الواقع مبني على القول بالسببية والموضوعية في باب الأمارات، وهذا المسلك منافٍ لما التزمه صاحب الكفاية (قدس سره) من أنَّ المجعول في باب الأمارات هو المنجزية والمعذرية على ما صرح به غير مرة. مضافاً إلى أنّه فاسد في أصله ثبوتاً وعدم
ص: 228
مساعدة الدليل عليه إثباتاً. أمّا الأول فلاستلزامه التصويب الباطل. وأمّا الثاني فلأنّ أدلة حجّية الأمارات - وعمدتها سيرة العقلاء - لا دلالة لها على جعل الحكم مطابقاً لمؤدى الأمارات أصلاً... وأمّا بناءً على ما اختاره صاحب الكفاية (قدس سره) - من أنَّ المجعول في باب الأمارات هو المنجزية والمعذرية - فلا يلزم من تنزيلها منزلة القطع الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي بل لزم لحاظ واحد استقلالي؛ إذ لا يكون هناك تنزيل المؤدى منزلة الواقع فلا يكون إلّا تنزيل واحد وهو تنزيل الأمارة منزلة القطع، غاية الأمر أنّ التنزيل إنّما هو اعتبار خصوص الأثر العقلي للقطع من التنجيز والتعذير، أو باعتبار خصوص الحكم الشرعي المأخوذ في موضوعه القطع، وباعتبار مطلق الأثر. وإطلاق أدلة التنزيل يمثّل كلا الحكمين العقلي والشرعي. وكذا الحال على القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والكاشفية بإلغاء احتمال الخلاف، وإنْ شئت فعبر عنه بتتميم الكشف، باعتبار أنَّ الأمارات كانت كاشفة ناقصة فاعتبرها الشارع كاشفة تامة بإلغاء احتمال الخلاف، فيجري الكلام المذكور هنا أيضاً ويقال: إنّ اطلاق دليل التنزيل شامل للأثر العقلي والأثر الشرعي المترتب على القطع)(1).
فإذاً الشيخ الآخوند يقول إنَّ الاستدلال على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي بنحو الطريقية من خلال إطلاق دليل اعتبار الأمارة الذي ينزّل الأمارة منزلة العلم، غير صحيح، حيث يستلزم من تكفّل دليل واحد لكلا التنزيلين اجتماع لحاظين آلي واستقلالي في شيء واحد، وهو محال، فلا بُدّ من حمل الدليل على تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي فقط؛ لأنّه هو ظاهر دليل الاعتبار، والتنزيل بلحاظ المنجزية والمعذرية -
ص: 229
أي اللحاظ آلي - هو الأمر المتيقن من دليل حجية الأمارة. وأمّا المحقّق النائيني فقال: إنَّ إشكال صاحب الكفاية يأتي بناءً على جعل المؤدّى في باب الأمارة، والصحيح أنَّ المجعول هو المحرزية للواقع والكاشفية التامة عن الواقع والواسطة في الإثبات(1).
وبناءً على هذا المسلك لا يلزم المحذور؛ لأنّ الشارع إذا أوجد فرداً من الطريقية والعلمية تعبداً فالأمارات بمقتضى دليل اعتبارها تقوم مقام القطع الطريقي المحض في التنجيز والتعذير، وفي نفس الوقت تقوم مقام القطع الموضوعي المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية بالحكومة؛ لأنّ دليل اعتبارها يوسّع الدائرة فما يترتّب على الطريقية الحقيقية من الأثر الشرعي يترتب أيضاً على الطريقية التعبدية.
اعترض على الاستدلال بمفهوم الشرط في آية النبأ بعدّة اعتراضات وأهمّها - والذي قد قيل إنّه لا يمكن دفعه -: أنّ في الآية قرينة تدلّ على أنّه لا مفهوم للقضية الشرطية، وهي عموم التعليل في قوله تعالى: [أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ](2)، وهذا التعليل يجري في سائر موارد عدم العلم - أي يأتي حتى في خبر العادل -، فعموم التعليل إمّا يمنع انعقاد المفهوم، أو لو انعقد المفهوم فهو معارِض له، وعلى كل حال لا يصحّ
ص: 230
التمسك بالمفهوم على حجية قول العادل الذي لا يفيد العلم؛ لأنّ التعليل يدلّ على عدم اعتبار القول الذي لا يفيد العلم؛ لأنّه من إصابة القوم بجهالة.
قال الشيخ الأنصاري (رحمة الله) إنّ هذا الإيراد لا يمكن دفعه، وأفاد في بيان ذلك: (وكيف كان: فقد أورد على الآية إيرادات كثيرة ربما تبلغ إلى نيف وعشرين، إلّا أنَّ كثيراً منها قابلة للدفع فلنذكر أولاً ما لا يمكن الذبّ عنه ثم نتبعه بذكر بعض ما أورد من الإيرادات القابلة للدفع. أمّا ما لا يمكن الذبّ عنه فإيرادان:
أحدهما: إنّ الاستدلال إنْ كان راجعاً إلى اعتبار مفهوم الوصف - أعني الفسق - ففيه: أنَّ المحقق في محله عدم اعتبار المفهوم في الوصف خصوصاً في الوصف الغير معتمد على موصوف محقق كما فيما نحن فيه، فإنَّه أشبه بمفهوم اللقب... وإن كان باعتبار مفهوم الشرط... فالجملة الشرطية هنا مسوقة لبيان تحقق الموضوع كما في قول القائل: (إن رزقت ولداً فاختنه)...
الثاني: ما أورده في محكي العدة و... من أنّا لو سلّمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل الغير المفيد العلم، لكن نقول: إنّ مقتضى عموم التعليل وجوب التبيّن في كل خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وإن كان المخبر عادلاً فيعارض المفهوم، والترجيح مع ظهور التعليل)(1).
وقد أجيب عن هذا الإيراد بعدّة أجوبة..
منها: ما عن المحقّق النائيني (رحمة الله) من خلال تطبيق فكرة الحكومة تفريعاً على مسلكه من أنّ المفهوم حاكم على عموم التعليل، حيث إنّ المفهوم يدلّ على حجية خبر
ص: 231
العادل، والحجية تعني جعل العلمية، وبعد اعتبار خبر العادل علماً تعبداً يخرج عن موضوع التعليل الذي هو الجهل وعدم العلم، وهذا الخروج التعبدي يصطلح عليه بالحكومة.
قال (رحمة الله): (ولكن الإنصاف: أنّه لا وقع لأصل الإشكال لما فيه:
أوّلاً: أنّه مبني على أنْ يكون معنى الجهالة عدم العلم ليشترك خبر العادل مع الفاسق في ذلك، وليس الأمر كذلك، بل الجهالة بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه...
وثانياً: أنَّه على فرض أن يكون معنى الجهالة عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع لا يعارض عموم التعليل للمفهوم، بل المفهوم يكون حاكماً على العموم؛ لأنّه يقتضي إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع وجعله محرزاً وكاشفاً عنه فلا يشمله عموم التعليل، لا لأجل تخصيص بالمفهوم كي يقال: إنّه يأبى عن التخصيص، بل لحكومة المفهوم عليه؛ فليس خبر العدل من أفراد العموم، لأنّ أقصى ما يقتضيه العموم هو عدم جواز العمل بما وراء العلم، والمفهوم يقتضي أنْ يكون خبر العدل علماً في عالم التشريع فلا يعقل التعارض بين المفهوم وعموم التعليل؛ لأنّ المحكوم لا يعارض الحاكم ولو كان ظهور المحكوم أقوى من ظهور الحاكم أو كانت النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه. والسر في ذلك: هو أنَّ الحاكم إمّا يتعرض لعقد وضع المحكوم إمّا بتوسعة الموضوع بإدخال ما ليس داخلاً فيه، وإمّا بتضييقه بإخراج ما ليس خارجاً منه...)(1).
ص: 232
المعروف بين علمائنا حجية الأمارة في لوازمها ومثبتاتها غير الشرعية(1)بخلاف الأصل، مثلاً لو قال الأب: (لله علي إنْ نبتت لحية ولدي الغائب تصدقت) فإذا أخبر الثقة بحياة الولد وبلوغه فلازمه نبات اللحية، وبالتالي وجوب التصدّق بخلاف ما لو ثبتت حياة الولد بالاستصحاب(2).
والسؤال هو لماذا الأمارة حجّة في لوازمها ومثبتاتها غير الشرعية دون الأصل؟
وفي مقام الجواب ذكرت عدّة وجوه، (أحدها) ما أفاده المحقّق النائيني (رحمة الله) بناءً على مسلكه من جعل العلمية والمحرزية في الأمارة، وبالتالي فإنّ العلم بالشيء - كالحياة - يستلزم العلم بلوازمه مطلقاً ولو كانت عقلية أو عادية ولا بُدَّ من ترتب الأثر الشرعي المترتب على هذه اللوازم، فالشارع جعل الأمارة حجّة وعلماً بلحاظ مؤدّاها فيلزم أنّها كذلك بلحاظ اللوازم، وهذا بخلاف الأصل فإنّ المجعول فيه الجري العملي دون صفة
المحرزية والكاشفية.
ص: 233
قال (رحمة الله): (إنّ المجعول في باب الأمارات معنى يقتضي اعتبار مثبتاتها ولو بألف واسطة عقلية أو عادية، بخلاف المجعول في باب الأصول العملية، فإنّه لا يقتضي أزيد من اعتبار نفس مؤدى الأصل، أو ما يترتب عليه من الأحكام الشرعية بلا واسطة عقلية وعادية... الوجه فيه: هو أنّ الأمارة إنّما تكون محرزة للمؤدّى وكاشفة عنه كشفاً ناقصاً، والشارع بأدلة اعتبارها قد أكمل جهة نقصها، فصارت الأمارة ببركة اعتبارها كاشفة ومحرزة كالعلم، وبعد انكشاف المؤدّى يترتب عليه جميع ما للمؤدى من الخواص والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات واللوازم والملزومات ولا يحتاج في إثبات اللوازم إلى كون الأمارة حاكية عنها، بل إثباتها إنّما يكون من جهة إحراز الملزوم، كما لو أحرز الملزوم بالعلم الوجداني... نعم، بين الأمارة والعلم فرق، وهو أنّ العلم لما كان لا تناله يد التعبد الشرعي، فلا يتوقف إثباته للوازم والملزومات على أن يكون في سلسلتها أثر شرعي، بخلاف الأمارة، فإنّه لا بُدَّ فيها من أن ينتهي الأمر - ولو بألف واسطة - إلى أثر شرعي، حتى لا يلزم لغوية التعبد بها)(1).
وقال (رحمة الله): (حيث إنّ المجعول في باب الأمارات نفس صفة المحرزية والوسطية في الإثبات فعند قيامها على شيء يكون الوجود الواقعي لذلك الشيء محرزاً بالتعبد؛ إذ المفروض أنّها فرد من العلم الطريقي بجعل الشارع وحيث إنّ العلم بالشيء وإحرازه وجداناً يستتبع العلم بلوازمه وملزوماته مع الالتفات إليها، فكذلك يكون العلم التشريعي؛ إذ المفروض عدم الفرق بينهما إلّا بالوجدانية والتعبدية... وهذا بخلاف الأصول فإنّ المجعول فيها من جهة كونه الجري العملي لا يكون ناظراً إلى الواقع، بل
ص: 234
الثابت إنَّما هو الجري بالمقدار الثابت من التعبد فإذا فرضنا تعلق اليقين والشك بحياة زيد دون اللوازم وملزوماتها فلا بُدَّ من الجري العملي بهذا المقدار وترتيب الآثار الشرعية المترتبة على نفس المتيقن، وأمّا آثار لوازمه الغير المتيقنة سابقاً فهي خارجة عن مورد التعبد؛ إذ المفروض عدم تعلق اليقين والشك المأخوذين موضوعين للجري العملي لا بأنفسها ولا بموضوعاتها)(1).
إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين علماً إجمالياً فإنْ وقف العلم على الجامع ولم يسرِ إلى الفرد فهو منجّز، وإنْ سرى إلى فرد - بأنْ علمنا أنّ النجاسة وقعت فيه - انقلب إلى علم تفصيلي بنجاسة ذلك الفرد وشكّ بدويّ في نجاسة الإناء الثاني، فتجري البراءة عنه فلا يجب تركه والاجتناب عنه، واصطلح على حالة السراية هذه بانحلال العلم الإجمالي بالعلم بالفرد.
والعلم بالفرد له عدة أنحاء، (أحدها) ما لو شهد الثقة بنجاسة الإناء الأول - مثلاً - وفي مثل هذه الحالة لا إشكال في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية ولا يجب ترك الإناء الثاني.
ولكن ما هو التخريج الفنيّ لزوال المنجزية؟الجواب: أنّه بناءً على مسلك جعل العلمية يقال: إنّ ذلك للانحلال التعبدي ببيان:
أنَّ دليل حجية خبر الثقة يجعل خبر الثقة علماً فيترتّب عليه آثار العلم ومنها الانحلال، فالمراد من الانحلال التعبدي هو زوال العلم الإجمالي بواسطة الأمارة التي هي علم
ص: 235
تعبداً، فالتعبد بعلميتها يقتضي انحلال العلم الإجمالي فيها تعبداً، كما أنَّ العلم الوجداني يقتضي انحلال العلم الإجمالي حقيقة.
فإذاً بناءً على مسلك تتميم الكشف وجعل العلمية في باب الأمارات يتمّ الانحلال التعبّدي والتعبّد بالانحلال للملازمة بينهما، فإذا قامت الأمارة على أنّ النجس هو الإناء الأول فقد صار المكلّف عالماً بنجاسته كالعالم تكويناً وحقيقة ووجداناً، ولازم ذلك الانحلال التعبدي التعبد بالانحلال.
وبالجملة: العلم الإجمالي ينحل بالأمارة حكماً وتعبداً؛ لأنّ دليل اعتبارها علماً يقتضي أن يترتب عليها جميع آثاره ومنها الانحلال.
قال المحقّق النائيني (رحمة الله): (وأمّا الترخيص الظاهري فينحصر موجبه بما إذا كان في بعض الأطراف أصل نافٍ للتكليف غير معارض بمثله؛ وذلك إنّما يكون بقيام ما يوجب ثبوت التكليف في بعض الأطراف المعين: من علم أو أمارة أو أصل شرعي أو عقلي، لكن يبقى الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر بلا معارض، من غير فرق بين أنْ يكون الموجب لثبوت التكليف في البعض حاصلاً قبل العلم الإجمالي أو بعده، غايته أنّه في الأول يوجب عدم تأثير العلم الإجمالي، وفي الثاني يوجب انحلاله)(1).
وقال (رحمة الله): (ومن هنا يتّضح أنّه لو كان في بعض أطراف العلم الإجمالي أصل أو أمارة بلا معارض لأوجب انحلال العلم أو عدم تأثيره من أول الأمر، فإنّ تنجيز العلم الإجمالي يتوقف على تحقق العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير وعدم انحلاله، فإذا لم يكن هناك علم بالتكليف كذلك - كما إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء - أو كان، ولكن كان في بعض الأطراف منجّز للتكليف بخصوصه - كما إذا قامت الأمارة
ص: 236
على نجاسة بعض الأطراف بخصوصه، أو كان مستصحب النجاسة، أو كان من أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة قبل هذا العلم - فلا مانع من الرجوع إلى الأصل النافي في الطرف الآخر. ومن هنا يعلم الملازمة العقلية بين سقوط الأصول في أطراف العلم الإجمالي وعدم انحلاله؛ إذ متى كان الأصل جارياً في بعض الأطراف فلا محالة ينحل العلم به ويرجع معه إلى الأصل في الطرف الآخر)(1).
لا إشكال في أنّ مؤدّى الأمارة لو شكّ في بقائه يستصحب، فالثقة لو شهد صباحاً بنجاسة الماء - مثلاً - يحكم بالنجاسة، ولو شككنا مساءً في بقاء تلك النجاسة يجري استصحابها اتفاقاً.
ولكن يوجد إشكال فنيّ حاصله: أنَّ شهادة الثقة صباحاً تفيد الظن ولا تفيد اليقين، ومع عدم حصول اليقين بحدوث النجاسة فكيف تستصحب إلى المساء؟ حيث لايقين بالحدوث.
واختلفت الأجوبة عنه، فأجاب المحقّق النائيني مستفيداً من مسلكه بأنّ الأمارة تفيد العلم، فمعنى اعتبار الأمارة وجعلها حجّة هو جعلها علماً غايته تعبداً، وما دام يحصل العلم فيمكن جريان الاستصحاب، فالتوسعة التعبدية لآثار العلم من خلال دليل الأمارة الحاكم يجعل الأمارة فرداً من أفراد العلم تعبداً.
قال (رحمة الله): (لا فرق في جريان الاستصحاب بين أنْ يكون الحكم الثابت قبل الشك ثابتاً بالعلم الوجداني، أو بالأمارة المعتبرة والطرق الغير العلمية؛ وذلك لما ذكرناه في محلّه من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات ليس إلّا صفة المحرزية والوسطية في
ص: 237
الإثبات، فكما يكون العلم الوجداني محرزاً للواقع وجداناً فكذلك يكون الطرق والأمارات أيضاً بالحكم الشرعي... وحيث إنّ اليقين في أخبار الاستصحاب أُخذ موضوعاً لحرمة النقض بما أنّه طريق إلى الواقع ومقتضٍ للجري العملي لا محالة يقوم مقامه الطرق والأمارات في ذلك)(1).
وبنى على جريان هذا الاستصحاب أيضاً السيد الخوئي (قدس سره) وأفاد في بيانه: (إنّ معنى جعل حجية الأمارات هو جعل الأمارات من أفراد العلم في عالم الاعتبار، فيكون لليقين حينئذ فردان: اليقين الوجداني، واليقين الجعلي الاعتباري، فكما أنّ لليقين الوجداني أثرين: الأوّل: الآثار الواقعية للمتيقن. والثاني: آثار نفس اليقين إذا كان له أثر، كما إذا كان موضوعاً لحكم من الأحكام، فكذا اليقين الجعلي يكون له هذان الأثران، فكما لو علمنا بحكم من الأحكام ثمّ شككنا في بقائه نرجع إلى الاستصحاب، كذلك إذا قامت الأمارة على حكم ثمّ شككنا في بقائه لا مانع من جريان الاستصحاب. واليقين المذكور في أدلة الاستصحاب وإن كان موضوعاً للاستصحاب، إلّا أنّه مأخوذ في الموضوع بما هو كاشف)(2).
لا إشكال بين الأصوليين في أنَّ الأمارة تقدّم في موردها على الاستصحاب - وهكذا على بقية الأصول - ولكن وقع الكلام في الوجه الفني لذلك التقديم والاستدلال عليه، فالواقع بين العلماء هو كلام علمي في النكتة الفنية في التقديم.
فقد اختار المحقّق النائيني والسيد الخوئي (قدس سرهما) أنَّ التقديم هو للحكومة، وهذا
ص: 238
الوجه مبنيٌ على أنّ المجعول في باب الأمارات هو العلمية فيرتفع الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب - مثلاً -، فدليل حجية الأمارة إذا جعلها علماً فسوف يكون المكلف عالماً بالحكم الذي دلت عليه، وهذا يعني رفع الشكّ الذي هو موضوع الأصل، ودليل الأمارة عندما يريد جعل المكلّف عالماً فمعنى ذلك أنّه ناظر لموضوع الأصل - وهو الشكّ - ويريد رفعه.
قال المحقّق النائيني (رحمة الله): (وأمّا القسم الثاني منها فهو إنّما يكون فيما بين الأدلة المتكفّلة لبيان الأحكام الظاهرية، والحكومة فيها إنّما تكون ظاهرية، وذلك كحكومة الأمارات مطلقاً على الأصول الشرعية، وكحكومة الأصول التنزيلية على غيرها، وكحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي، فإنّ الحكومة في جميع ذلك إنّما تكون بإعدام دليل الحاكم في عالم الاعتبار والتشريع ما أخذ موضوعاً في دليل المحكوم. وذلك لأنّ المجعول في الأمارات إنّما هو الوسطية في الإثبات والإحراز - على ما أوضحناه في محله - ولم يؤخذ الشك موضوعاً في باب الأمارات، بل الجهل بالواقع يكون مورداً للتعبد بها، فتكون الأمارة رافعة للشك الذي أخذ موضوعاً في الأصول... وبالجملة: حكومة الأدلة المتكفلة للأحكام الظاهرية بعضها على بعض إنّما تكون باعتبار رفع دليل الحاكم موضوع دليل المحكوم في عالم التشريع مع بقائه في عالم التكوين، فإنّ قيام الأمارة على خلاف مؤدّى الأصل لا يوجب رفع الشك خارجاً؛ لاحتمال مخالفة الأمارة للواقع، فموضوع الأصل محفوظ تكويناً، ولكن لما كان المجعول في باب الأمارات هو الإحراز وإلغاء احتمال الخلاف كانت الأمارة رافعة للشك في عالم التشريع؛ لأنّ المكلف يكون محرزاً للواقع بحكم التعبد بالأمارة، فلا
ص: 239
يبقى موضوع الأصل. وكذا الكلام في حكومة الأصول بعضها على بعض)(1).
وأفاد السيد الخوئي (قدس سره) في بيان تقدّم الأمارة على الأصل: (وأمّا الحكومة فهي عبارة عن انتفاء الموضوع لثبوت المتعبد به بالتعبد الشرعي... وكذا سائر الأُصول الشرعية فإنّه بعد كون الأمارة علماً تعبدياً... لا يبقى موضوع لأصل من الأُصول الشرعية تعبداً. فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ تقديم الأمارات على الاستصحاب ليس من باب الورود... بل تقديمها عليه إنّما هو من باب الحكومة التي مفادها عدم المنافاة حقيقةً بين الدليل الحاكم والمحكوم عليه)(2).
ولا يخفى أنَّ كلا العلمين يقولان بأنّ المجعول في باب الاستصحاب هو العلمية، ولكن الفارق بينهما أنَّ الشيخ النائيني يقول إنَّ المجعول هو من جهة الجري العملي فقط - فلذلك يبقى أصلاً وسمّاه أصلاً محرزاً - لا من جهة الكاشفية، خلافاً للسيد الخوئي إذ المجعول عنده هو العلمية من حيث الكاشفية أيضاً مضافاً إلى الجري العملي، وبما أنَّ المجعول هو الكاشفية فيصير الاستصحاب أمارة.
فإنْ قيل: إذا كان الاستصحاب عند السيد الخوئي (رحمة الله) أمارة فكيف تُقدّم أمارة على أمارة أخرى؟
الجواب: إنَّ روايات الاستصحاب قد أُخذ في موضوعها الشكّ بالبقاء، فمع عدم الشك لا جعل للعلمية، وبالتالي لا يجري الاستصحاب، بينما الأمارات - كخبر الثقة - لم يؤخذ في موضوعها الشكّ، فإذن الأمارة متى ما وجدت سترفع الشكّ الذي هو موضوع
ص: 240
الاستصحاب(1).
ثمّ لا يخفى أنّ المشهور بين العلماء أنَّ المورد الواحد متى ما اجتمعت فيه أمارة واستصحاب قدّمت الأمارة سواء كانت مخالفة للاستصحاب أم كانت موافقة له بحسب النتيجة(2)، ولكن كما تقدّم اختلف في وجه التقديم.
إنَّ الاستصحاب قد يتعارض مع استصحاب آخر - وهذا سيأتي في الثمرة العاشرة - كما أنّه قد يتعارض مع أصول أخرى كأصل البراءة، وفي هذه الصورة إذا كانت الأصول عقلية - أي الاحتياط والتخيير والبراءة العقلية على المشهور - فالاستصحاب يقدم عليها بنكتة الورود كما هو واضح، فمع وجود الاستصحاب والتعبّد ببقاء اليقين السابق يرتفع حقيقة موضوع هذه الأصول ويكون حجّة مؤمنة رافعة لاحتمال العقاب الذي هو موضوع الاشتغال، ولتساوي الطرفين وعدم وجود المرجّح الذي هو موضوع التخيير، ولعدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية، ومعلوم أنَّ حكم العقل تعليقي.
وأمّا إذا كانت الأصول شرعية - أي الاحتياط والتخيير والبراءة وأصالة الطهارة - فالاستصحاب أيضاً مقدّم بلا إشكال، ولكن اختلف في التخريج الفني لذلك.
فعلى مسلك المحقّق النائيني (رحمة الله) - من كون المجعول في الاستصحاب الطريقية
ص: 241
والعلمية فيكون الاستصحاب أصلاً محرزاً تعبّداً - يكون حال الاستصحاب معها حال الأمارات مع الاستصحاب في أنَّ تقدّمه من باب الحكومة، فبعد جريان الاستصحاب يصير المكلف عالماً - غايته عند المحقّق النائيني من حيث الجري العملي وفق العلم، أمّا السيد الخوئي فالعلمية من حيث الجري العملي والكاشفية، فهو عنده (رحمة الله) أمارة كخبر الثقة - تعبداً فلا يعود مجال لهذه الأصول الشرعية.
قال (رحمة الله): (وأمّا نسبة الاستصحاب مع سائر الأصول العملية - من البراءة والتخيير والاحتياط وقاعدة الحل والطهارة - فقد تقدم أنّ الاستصحاب يكون وارداً على الأصول العقلية وحاكماً على الأصول الشرعية؛ لأنّه من الأصول المحرزة المتكفلة للتنزيل، ولذلك يقوم مقام القطع الطريقي، فيكون الاستصحاب رافعاً لموضوع الأصول العقلية حقيقة بالورود، ولموضوع الأصول الشرعية بالحكومة)(1).
عندما يتعارض الاستصحاب مع استصحاب آخر مثله فإن كان تعارضهما من باب العلم الإجمالي من دون أن يكون أحدهما سبباً والآخر مسبباً فالمشهور عدم جريانه في كليهما إذا كانا معذّرين ومرخّصين، وجريانه إذا كانا منجّزين(2).
وإنْ كان تعارضهما بأن كان أحدهما سبباً والآخر مسبباً - أي يكون عندنا أصلان
ص: 242
متعارضان والشكّ في أحدهما مسبب عن الشكّ في الآخر(1) - فالمشهور تقدّم الأصل السببي بلا فرق بين أنْ يكون السببي أصلاً محرزاً أو لا، ومن دون فرق أيضاً بين أنْ يكون الاستصحابان متوافقين في النتيجة أو مختلفين، ويشترط لتقدّم السببي أمران:
1- كون الترتب والملازمة والسببية شرعية.
2- كون الأصل السببي رافعاً لما يقتضيه الأصل المسببي.
وعليه فالأصل السببي - الذي يكون فيه المستصحب هو الموضوع للحكم الشرعي - مقدّم على المسبّبي لكونه ناظراً إلى إثبات الموضوع الذي هو بمثابة السبب الشرعي للحكم، أمّا الأصل المسبّبي فهو ناظرٌ إلى الحكم الذي هو بمثابة المسبّب شرعاً للموضوع.
واختُلف في الوجه الفنيّ لتقدّم الأصل السببي على المسببي، فقيل: إنّه الإجماع. وقيل: روايات الخفقة والخفقتين. وقيل: غير ذلك. واختار المحقّق النائيني (رحمة الله) التقدّم بالحكومة بناءً على مسلكه من أنّ المجعول في الاستصحاب هو العلمية في مقام العمل.
ص: 243
قال (رحمة الله): (فإذا كان الأصل السببي واجداً لهذين الشرطين فلا ينبغي التأمّل في حكومته على الأصل المسبّبي؛ لأنّه رافع لموضوعه، فلا يمكن أنْ يعارضه الأصل المسبّبي؛ لأنّ كل حكم مشروط بوجود موضوعه، فلا بُدَّ من فرض وجود الموضوع في ترتب الحكم عليه، ولا يعقل أنْ يكون الحكم متكفلاً لوجود موضوعه. فالأصل المسببي إنّما يجري إذا بقي الشك الذي أخذ موضوعاً فيه، والأصل السببي رافع ومعدم له في عالم التشريع؛ لأنّ التعبد بمؤدّى الأصل السببي بمدلوله المطابقي يقتضي إلغاء الشك المسببي، ولا عكس، وبداهة أنّ التعبد بطهارة الماء المغسول به الثوب النجس بنفسه يقتضي التعبد بطهارة الثوب؛ إذ لا معنى لطهارة الماء إلّا كونه مزيلاً للحدث والخبث، سواء كانت طهارة الماء مؤدّى الاستصحاب أو مؤدّى قاعدة الطهارة، فيرتفع الشكّ في بقاء نجاسة الثوب. وأمّا التعبد بنجاسة الثوب فهو بنفسه لا يقتضي التعبد بنجاسة الماء المغسول به. نعم، لازم بقاء النجاسة في الثوب هو نجاسة الماء فإنّه لو كان الماء طاهراً لم تبقَ النجاسة في الثوب، فاستصحاب بقاء نجاسة الثوب بمدلوله المطابقي لا يقتضي نجاسة الماء وغير مزيل للشك فيها.
فإثبات نجاسة الماء المغسول به الثوب باستصحاب بقاء نجاسة الثوب يتوقّف على مقدمتين، الأولى: بقاء الشك في نجاسة الثوب بعد غسله بالماء المشكوك الطهارة. الثانية: حجّية الأصل المثبت. والأصل الذي يكون مؤدّاه طهارة الماء يرفع الشكّ في بقاء نجاسة الثوب، لما عرفت من أنّه لا معنى لطهارة الماء إلّا كونه مزيلاً للحدث والخبث، فلم يبقَ موضوع لاستصحاب بقاء نجاسة الثوب)(1).
ص: 244
لا إشكال في أنَّ مقتضى الأصل عند الشك في الحجّية عدم ثبوتها، وإنَّما حصل الكلام في التخريج الصناعي لذلك(1) على وجوه، منها: التمسّك بعمومات الأدلّة المانعة عن العمل بغير العلم لإثبات حرمة العمل بمشكوك الحجية.
وأورد عليه المحقّق النائيني بأنّ أدلّة حجية الأمارة حاكمة على الأدلة المانعة، فمثلاً السيرة العقلائية جارية على العمل بظواهر الألفاظ.
ولكن اعتُرض بوجود رادعين عن السيرة:
الأول: الآيات الناهية عن العمل بالظن، وكذا الروايات وإنْ لم تكن دلالتها حجّة، لكن مع ذلك يبقى احتمال مطابقتها للواقع موجوداً فلا يحصل إحراز إمضاء السيرة على العمل بالظهور، والشكّ في الحجّية مساوق للقطع بعدمها.
الثاني: أدلّة الأصول العملية؛ فالشكّ المأخوذ في لسان أدلتها يراد به المعنى العرفي واللغوي؛ أي بمعنى عدم العلم الشامل للظنّ أيضاً.
ص: 245
وأجاب المحقّق النائيني (رحمة الله) بناءً على مسلكه: بأنّ أدلّة حجّية الأمارات مقدمة على الأدلة المانعة عن العمل بغير العلم من باب الحكومة، فبعد كون معنى حجّية الأمارة هو اعتبارها علماً تعبداً في عالم التشريع تخرج ظواهر الألفاظ عن الأدلة المانعة عن العمل بغير العلم موضوعاً، فإنّ مفاد دليل حجية الأمارة كون الأمارة علماً بالتعبد هو نفي للحكم بلسان نفي الموضوع وتخصيص بلسان الحكومة، فعند الشكّ في حجية شيء لا يصحّ التمسك بالعمومات والإطلاقات الدالّة على النهي عن اتباع الظن وغير العلم لكون الشبهة مصداقية؛ إذ الحجية المشكوكة على فرض ثبوتها تكون بلسان جعل الطريقية والعلمية فتكون رافعة لموضوع عدم العلم.
فإذاً موضوع الآيات والروايات الناهية هو الظن - وكذلك موضوع الأصول العملية - والمفروض أنَّ حجية ظواهر الألفاظ - بعد إمضاء السيرة العقلائية - تتصف بالحجية، فتكون علماً تعبدياً، وإذا كانت علماً تكون حاكمة ورافعة تعبداً لموضوع الآيات والروايات.
قال (رحمة الله): (ليس معنى الحجية إلّا الوسطية في الإثبات أو ما في حكمها. ومن المعلوم أنّ فعلية هذا المعنى وترتب الأثر عليه لا يكون إلّا في ظرف الإحراز ومقام الإثبات، وإلّا فصرف إنشاء الحجية لشيء مع عدم وصوله إلى العبد لا يوجب وقوعه وسطاً في الإثبات...
أمّا الأدلة العامة ففي جواز التمسك بها لإثبات عدم حجية أي أمارة غير علمية شك في حجيتها إشكال، ووجه الإشكال: أنّ موضوع تلك الأدلّة إنَّما هو الظنون التي لم يعتبر الشارع لها صفة الحجية والوسطية في الإثبات، وأمّا هي فخارجة عن موضوعها على نحو الحكومة - على ما سيجيء بيانه في محلّه إنْ شاء الله تعالى -، فإذا شكّ في اعتبار
ص: 246
الحجّية لأمارة خاصّة كان التمسك بها لإثبات عدم حجّيتها تمسكاً بالعموم في الشبهة المصداقية وهو غير جائز على ما أوضحناه سابقاً، وأمّا التمسك بالاستصحاب فإنْ بنينا على عدم جريانه في الأحكام الكلية المشكوك حدوثها في الشريعة فلا ريب في عدم جريانه في المقام، وأمّا إذا بنينا على جريانه فيها فلا يمكن التمسك به لإثبات عدم الحجّية في مورد الشك أيضاً، لا لأنّ العقل يحكم بعدم الحجية في ظرف الشكّ فلا يكون فائدة في إجراء الاستصحاب - كما ربّما ينسب ذلك إلى شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) - إذ حكم العقل بذلك إنَّما هو في مرتبة متأخرة عن الحكم الشرعي، وحكم الشرع بعدم الحجية يكون رافعاً لموضوع حكم العقل، فكيف يمكن أنْ يكون الحكم العقلي مانعاً عن الحكم الشرعي؟ بل لأنّ الحجية وإنْ كانت من الأحكام الشرعية إلّا أنّ مفاد الاستصحاب لكونه جرياً عملياً على طبق اليقين السابق يحتاج إلى أثر عملي في مورده حتى يمكن الجري على طبقه)(1).
تُعتبر حجّية خبر الواحد من أهم المسائل الأصولية؛ لأنّ غالب الأحكام الشرعية الفقهية أحكام نظرية تحتاج إلى استنباط، والاستنباط في جميع أبواب الفقه منوط بهذه المسألة، وعملية الاستنباط والاجتهاد في المسائل الفقهية من أخبار الآحاد تتوقف على حجية الأخبار سنداً ودلالة وجهة، والأمران الأخيران ثابتان. أمّا الثاني فباعتبار حجّية الظواهر كقاعدة عامة. وأمّا الثالث فباعتبار نكتة عامة وهي أنَّ كل كلام صادر عن متكلم مختار ظاهر في أنّه لبيان مراده الواقعي عن جدٍّ، وحمله على أنّه صدر عنه تقية بحاجة إلى قرينة. وأمّا الأمر الأوَّل فالمعروف تماميته، وحجية خبر الواحد أيضاً لأدلة
ص: 247
مذكورة في محلّها.
ولكن ممّا استدل به على عدم الحجية هو الآيات الناهية عن العمل بالظنّ وما وراء العلم كقولة تعالى: [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا](1) و[وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] (2)وحيث إنّ خبر الثقة لا يفيد إلّا الظن يكون العمل به مردوعاً عنه بمقتضى هذه النصوص.
وممّا أجاب به المحقّق النائيني (رحمة الله) بناءً على مسلكه: أنَّ جريان السيرة العقلائية(3) - مثلاً- على الأخذ بخبر الثقة ليس من باب كونه ظنّاً؛ لعدم الالتفات إلى مخالفته للواقع، فيكون خارجاً تخصّصاً عن موضوع الآيات، ولا أقلّ من كونها حاكمة عليها ؛ إذ بعد جريانها على التمسك بالخبر يكون حجّة، ومعنى الحجية هو العلمية، وبجعله علماً يخرج عن موضوع الآيات الناهية عن اتباع الظن، وبما أنَّ خروج الخبر عن موضوع الآيات تعبدي لا حقيقي فتكون حاكمةً عليها؛ فإنّ الدليل الذي يوسّع أو يضيق تعبداً موضوع دليل آخر يكون حاكماً.
قال (رحمة الله): (أمّا الآيات فلأنّ مساقها حرمة العمل بالظن في باب العقائد وأصول الدين، وعلى فرض تسليم عمومها لمطلق الأحكام الشرعية فغايته أنْ تكون دلالتها على المنع عن الظن الحاصل من الخبر الواحد بالعموم، فلا بُدّ من تخصيصه بما سيأتي من
ص: 248
الأدلة الدالة على جواز العمل بخبر الواحد، بل نسبة تلك الأدلّة إلى الآيات ليست نسبة التخصيص بل نسبة الحكومة، فإنّ تلك الأدلة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزاً للواقع، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع، فلا يمكن أنْ تعمّه الأدلّة الناهية عن العمل بالظن لنحتاج إلى التخصيص، لكي يقال: إنّ مفاد الآيات الناهية آبية عن التخصيص، هذا في غير السيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الموثوق به. وأمّا السيرة العقلائية فيمكن بوجه أنْ تكون نسبتها إلى الآيات الناهية نسبة الورود بل التخصص، لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن، لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع، فالعمل بخبر الثقة خارج بالتخصيص عن العمل بالظن، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به لأنْ تكون رادعة عن السيرة العقلائية القائمة على العمل بخبر الثقة - إلى أن قال - وإن منعت عن ذلك كله، فلا أقلّ من أن يكون حال السيرة حال سائر الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد من كونها حاكمة على الآيات الناهية، والمحكوم لا يصلح لأن يكون رادعا عن الحاكم، كما لا يخفى)(1).
وأجاب السيد الخوئي (قدس سره) عن إشكال العمل بخبر الواحد؛ لأنّه داخل تحت عموم الآيات الناهية عن العمل بالظنّ ما لفظه: (وفيه أوّلاً: أنّ مفاد الآيات الشريفة إرشاد إلى حكم العقل بوجوب تحصيل العلم بالمؤمّن من العقاب وعدم جواز الاكتفاء بالظن به، بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل إنْ كان أُخروياً، فلا دلالة لها على عدم حجّية الخبر أصلاً. وثانياً: أنّه على تقدير تسليم أنّ مفادها الحكم المولوي، وهو حرمة العمل بالظن، كانت أدلة حجّية الخبر حاكمة على تلك الآيات، فإنّ مفادها جعل الخبر طريقاً بتتميم الكشف، فيكون خبر الثقة علماً بالتعبد الشرعي، ويكون خارجاً عن الآيات
ص: 249
الناهية عن العمل بغير العلم موضوعاً.
هذا بناءً على أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هي الطريقية كما هو الصحيح، وقد تقدّم الكلام فيه في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري. وأمّا بناءً على أنّ المجعول هو الحكم الظاهري مطابقاً لمؤدى الأمارة، وأنّ الشارع لم يعتبر الأمارة علماً، فتكون أدلة حجّية خبر الثقة مخصصة للآيات الناهية عن العمل بغير العلم، فإنّ النسبة بينها وبين الآيات هي العموم المطلق؛ إذ مفاد الآيات عدم حجّية غير العلم من خبر الثقة وغيره في أُصول الدين وفروعه، فتكون أدلة حجّية خبر الثقة أخص منها، وبالجملة أدلة حجّية خبر الثقة متقدمة على الآيات الشريفة إمّا بالحكومة أو بالتخصيص)(1).
المراد من الخبر مع الواسطة هو الخبر الواصل الينا بواسطتين أو ثلاث أو أكثر. ولا إشكال في أنَّ أدلة حجية أخبار الآحاد تدلّ على حجية الخبر بلا واسطة - أي الواصل إلينا بواسطة واحدة عن الإمام (علیه السلام) - كما لو كنّا معاصرين لزرارة وأخبرنا عن الإمام (علیه السلام) بوجوب قراءة السورة بعد الحمد في الصلاة الواجبة، فهو خبر ثقة ثابت بالوجدان وإخباره عن حس والمخبر به له أثر شرعي(2).
ص: 250
وأمّا الخبر مع الواسطة فقد ذُكر إشكالان على ثبوت الحجية له تعرض إليهما الأصوليون، وهما يعمّان جميع أدلّة حجية الخبر ولا يختصّان بآية النبأ - مثلاً.
والإشكال الأول هو اتّحاد الحكم مع الموضوع، وحاصله: أنّه قد ثبت بالأدلة أنّ خبر الثقة حجّة بمعنى الحكم بوجوب تصديقه، وهذا الحكم يوجب التصديق، وموضوعه هو: وجود خبر مع وجود أثر شرعي لذلك الخبر، كما لو أخبر الشيخ عن المُفيد `، وحينئذٍ نسأل ما هو الأثر الشرعي لخبر المفيد؟ أنّه لا أثر شرعي له سوى وجوب تصديقه, فإنّ خبر الشيخ وإنْ كان ثابتاً لنا بالوجدان ولكن لا أثر شرعي له سوى أنّ المفيد أخبرني، وخبر المفيد ليس له أثر شرعي إلّا الحجية لأنّه عادل، فإذاً خبر الشيخ فاقد لشرطية الأثر الشرعي، فيلزم اتّحاد الحكم مع موضوعه حيث إنّ الحكم هو وجوب التصديق، والموضوع - أي الأثر - أيضاً وجوب التصديق(1).
وهذا الإشكال لا يختصّ بخبر الشيخ بل يجري في جميع سلسلة الرواة ابتداءً من الشيخ عدا الأخير الذي ينقل عن الإمام (علیه السلام) ؛ لأنّ مضمون خبره قول الإمام (علیه السلام) الذي يكون حكماً شرعياً كوجوب السورة فلا اتّحاد، حيث إنّ الحكم هو وجوب التصديق بينما الأثر الشرعي هو وجوب السورة وهو شيء آخر. ثمّ إنّه لا يقال: إنّه
ص: 251
يوجد أثر شرعي لخبر الشيخ، وهذا الأثر الشرعي هو الحجية التي تثبت لخبر المفيد بواسطة ثبوتها لخبر الشيخ، فخبر الشيخ إذاً ذو أثر شرعي.
فإنّه يقال: المفروض أنَّ اشتمال الخبر على الأثر الشرعي شرط في ثبوت الحجية له، أي لا بدّ أولاً ومسبقاً أنْ يكون الخبر واجداً للأثر الشرعي قبل ثبوت الحجية له، وأمّا إذا كانت الحجية هي نفسها الأثر الشرعي المصحح لثبوت الحجية للخبر لزم محذور الاتّحاد، فإذاً الأثر الشرعي يجب أنْ لا يكون هو الحجية وإلّا كان خبر الشيخ فاقداً لشرط الحجية.
وأجاب المحقّق النائيني (رحمة الله) بأنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي، فالشارع جعل خبر الثقة علماً، فإذا أخبر الشيخ عن المفيد فمعنى حجية خبر الشيخ أنّه علم بخبر المفيد، فشمول دليل الحجية لخبر الشيخ لا يتوقف على أنْ يكون خبر المفيد حكماً شرعياً في نفسه أو موضوعاً لحكم شرعي، بل يكفي أنْ يكون خبر الشيخ علماً، وإذا كان علماً فهو يفيد العلم بخبر المفيد، وهذا المقدار يكفي في شمول دليل الحجية فينطبق دليل الحجية على تمام السلسلة.
والحاصل: أنّه بناءً على أنَّ المجعول في الأمارات تتميم الكشف، فهذا الإشكال لا أساس له؛ لأنّ أدلّة الحجية للخبر هي تتميم ما نقص من كاشفية الأمارة، ولا نظر لها إلى مضمون الأمارة وأنّ لها أثراً شرعياً أو لا، وبالتالي لا معنى لاشتراط ثبوت الحجية للخبر باشتماله على أثر شرعي.
قال (رحمة الله): (إنّه يلزم أنْ يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادل نفس تصديقه، من دون أنْ يكون في البين أثر آخر كان وجوب التصديق بلحاظه. وتوضيح ذلك... ولا يخفى: أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجه بناءً على أنْ يكون المجعول في باب
ص: 252
الأمارات منشأ انتزاع الحجية. أمّا بناءً على ما هو المختار: من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات فلا إشكال حتى نحتاج إلى التفصي عنه، فإنّه لا يلزم شيء ممّا ذكر؛ لأنّ المجعول في جميع السلسلة هو الطريقية إلى ما تؤدّي إليه، أي شيء كان المؤدّى، فقول (الشيخ) طريق إلى قول (المفيد) وقول (المفيد) طريق إلى قول (الصدوق) وهكذا إلى أنْ ينتهي إلى قول (زرارة) الحاكي لقول الإمام (علیه السلام) ولا يحتاج في جعل الطريقية إلى أنْ يكون في نفس مؤدّى الطريق أثر شرعي، بل يكفي الانتهاء إلى الأثر ولو بألف واسطة - كما في المقام - فإنّ جعل الطريقية لأقوال السلسلة لمكان أنّها تنتهي إلى قول الإمام (علیه السلام) فتكون جميع الأقوال واقعة في طريق إثبات الحكم الشرعي)(1).
وأجاب السيد الخوئي (رحمة الله) عن إشكال حجية الخبر مع الواسطة بما لفظه: (وهذا الإشكال ساقط من أساسه على المختار من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الكاشفية والطريقية بتتميم الكشف... نعم، لو قلنا بأنّ المجعول في باب الطرق هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، يتوجّه الإشكال بأنّ التنزيل المذكور متوقف على أن يكون المؤدّى حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي، وإلاّ فلا معنى لتنزيله منزلة الواقع.... وأمّا على المسلك المعروف من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فيمكن الجواب عن الإشكال المذكور بوجوه)(2).
ص: 253
هذا، ونكتفي بهذا القدر من الثمرات التي فرّعها المحقّق (قدس سره) على مسلكه.
والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبيّنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
نتائج الدراسة:
1. إنّ في مُفاد أدلّة اعتبار الأمارات رأيين، المشهور: أنّها تتكفّل بوجود جعل في مفادها. وفي مقابله أنّها لا تتكفّل بوجود أيّ جعل.
2. بناءً على المشهور ففي حقيقة المجعول فيها مسالك، أهمّها:
أ. جعل الحكم المماثل، وهو ظاهر كلمات الشيخ الأعظم (قدس سره).
ب. جعل المنجّزية والمعذّرية, ونُسب إلى المحقّق صاحب الكفاية (قدس سره).
ت. جعل الكاشفية والطريقية, وهو مختار المحقّق النائيني (قدس سره).
3. رتّب المحقّق النائيني (قدس سره) على مسلكه جملة من الثمرات، اقتصرت على ذكر أهمّها, وهي:
أ. الجواب عن شبهة ابن قبة.
ب. التخلّص من محذور تخصيص القاعدة العقلية.
ت. قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي.
ث. الجواب عن إشكال التعارض بين مفهوم آية النبأ والتعليل.
ج. حجّيّة الأمارة في لوازمها ومثبتاتها.
ص: 254
ح. الانحلال التعبدي.
خ. الاستصحاب في مؤدّيات الأمارات.
د. تقدّم الأمارة على الاصول.
ذ. تقدّم الاستصحاب على الأصول الشرعية.
ر. تقدّم استصحاب على آخر.
ز. وقوع التعبّد بالأمارات غير العلمية.
س. حجّيّة خبر الواحد.
ش. حجّيّة الخبر مع الواسطة.
* * *
ص: 255
القرآن الكريم.
1. أجود التقريرات: تقرير بحث المحقق النائيني (قدس سره) (ت 1355ﻫ )، تأليف: السيّد أبو القاسم الخوئي (قدس سره) (ت 1413ﻫ )، اعتُمدت طبعتان:
الأولى: تحقيق ونشر: مؤسسة صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ط: الأولى، الطبعة: ستاره - قم، سنة الطبع: ربيع الأول 1419ﻫ.
الثانية: طبع في مطبعة العرفان - صيدا - لبنان 1933م.
2. أنوار الهداية: السيد الخميني (قدس سره) (ت1410ﻫ )، تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)، الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)، ط: الأولى، المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي، سنة الطبع: ذي القعدة 1413ﻫ.
3. بحوث في علم الأصول: تقرير أبحاث السيد محمّد باقر الصدر (قدس سره) (ت1400ﻫ )، تأليف: السيد محمود الهاشمي، الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، ط:الثالثة، المطبعة: محمّد، سنة الطبع: 1426ﻫ.
4. بداية الوصول في شرح كفاية الأصول: الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي (قدس سره) (ت1400ﻫ )، تحقيق: أشرف على طبعه وتصحيحه: محمّد عبد الحكيم الموسوي البكاء، الناشر: أسرة آل الشيخ راضي، ط: الأولى، سنة الطبع: 1425ﻫ - 2004م.
5. الصّحاح: إسماعيل بن حماد الجوهري (ت393ﻫ )، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر: دار العلم للملايين - بيروت - لبنان، ط:الرابعة، سنة الطبع:
ص: 256
1407ﻫ - 1987 م.
6. فرائد الأصول: الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (قدس سره) (ت 1281ﻫ )، تحقيق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم (قدس سره)، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي، ط: الأولى، المطبعة: باقري - قم، سنة الطبع: شعبان المعظم 1419ﻫ.
7. فوائد الأصول: الشيخ محمّد حسين الغروي النائيني (قدس سره) (ت 1355ﻫ )، تأليف: الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (قدس سره) (ت 1365ﻫ )، تحقيق: الشيخ آغا ضياء الدين العراقي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، سنة الطبع: ذي الحجة 1404ﻫ.
8. كفاية الأصول: الشيخ محمّد كاظم الخراساني الآخوند (قدس سره) (ت1329ﻫ )، تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم المشرفة، ط:الأولى، المطبعة: مهر - قم، سنة الطبع: ربيع الأول 1409ﻫ.
9. لمحات الأصول: إفادات السيد البروجردي (قدس سره) (ت1383ﻫ )، تأليف: السيد الخميني (قدس سره) (ت1410ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) - قم، ط:الأولى، المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج، سنة الطبع: 1421ﻫ.
10. المباحث الأصولية: الشيخ محمّد إسحاق الفياض (دام ظله)، الناشر: مكتب آية الله العظمى الشيخ محمّد إسحاق الفياض (دام ظله)، ط:الأولى.
11. محاضرات في أصول الفقه: تقرير أبحاث السيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره) (ت 1413ﻫ )، تأليف: الشيخ محمّد إسحاق الفياض (دام ظله)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط: الأولى، سنة الطبع: 1419ﻫ.
ص: 257
12. مصباح الأصول: تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره) (ت1413ﻫ )، تأليف: السيد محمّد الواعظ الحسيني، الناشر: مكتبة الداوري - قم، ط:الخامسة، المطبعة: العلمية - قم، سنة الطبع: 1417ﻫ.
13. وسائل الشيعة: الشيخ محمّد بن الحسن الحر العاملي (قدس سره) (ت 1104ﻫ )، تحقيق: الشيخ محمّد الرازي، تعليق: الشيخ أبي الحسن الشعراني، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.
ص: 258
جابر بن يزيد الجعفي شخصية أخذت حيّزاً واسعاً في كلمات علماء الفريقين وقد تضاربت الآراء حوله - بين موثِّق ومضعِّف - منذ بروزه كمحدِّث تتلمذ عند علماء العامّة في الكوفة وغيرها حتّى انقطاعه إلى الإمامين الهمامين الباقر والصّادق (علیهما السلام) وصولاً إلى طبقة تلامذته ومن بعدهم إلى هذه الأعصار.
وسوف يتناول البحث في هذه الحلقة كلمات علماء الفريقين لنرى ما إذا كان الجرح يصمد أمام البحث العلمي أم لا؟
ص: 259
ص: 260
بسم الله الرحمن الرحیم
هذه هي الحلقة الرابعة من بحث تحقيق حال التابعي المشهور جابر بن يزيد الجعفي، وقد تناول البحث في الحلقتين الأوليين جهات تتعلق بشخصية هذا الرّجل من مختلف نواحي حياته، وتناولت الحلقة الثّالثة علوم جابر وكتبه، ووصل البحث إلى..
وفي مقام تفصيل الكلام في ما قيل في وثاقة جابر الجعفي سوف نتعرض لحال الرّجل عندنا، ثُمّ نتعرض لحاله عند الجمهور.
ولتوثيق جابر بن يزيد الجعفي عندنا طرق أربعة:
الطّريق الأوَّل: ما ورد في حقّه من المدح عن طريق أئمة أهل البيت (علیهم السلام).
الطّريق الثّاني: ملاحظة كلمات الرّجاليين.
الطّريق الثّالث: سبر روايات الرّجل.
الطّريق الرّابع: توثيق العامة له، فإنّ هذا التوثيق يمكن أن يكون دليلاً لدى الخاصة على وثاقة الرّجل إذا كان شيعياً إمامياً. وسوف نذكر ذلك عند التطرق لحال الرّجل عند العامة.
فالكلام هنا يقع في الطّرق الثّلاثة الأولى:
الطّريق الأوَّل: الأخبار الواردة حول الرجل الدالة على وثاقته وجلالته، وهي على
ص: 261
طائفتين:
الأخبار التي تدل على عناية الإمام الباقر (علیه السلام) بالرجل، وقد فصّلناها في الحلقة الثّانية في الجهة الثّامنة عشرة والتي تمثّلت بعدة مظاهر، من مخاطبته باسمه، وشكاية الإمام الباقر (علیه السلام) أحياناً له، وتعليمه أموراً خاصة، والعناية بالتحفظ على حياته من السلطة الحاكمة، ودعائه (علیه السلام) له، بالإضافة إلى أمور أخرى.
فهذا كله يكشف جليل منزلة جابر عند الإمام (علیه السلام) وأنَّه كان من خواصه وموضع ثقته وعنايته.
الأخبار الموثقة والمادحة للرجل؛ فإنّ بعضها معتبر الأسناد. وهي ترجع إلى روايات ثلاث:
1. معتبرة زياد بن أبي الحلال، وقد رويت بعدة طرق فيها أكثر من طريق معتبر..
أ. روى محمَّد بن الحسن الصفار (ت 290ﻫ ) بطريق معتبر في بصائره ما نصّه: حدَّثنا أحمد بن محمَّد(1)، عن علي بن الحكم قال: حدّثني زياد بن أبي الحلال، قال: اختلف النّاس في جابر بن يزيد وأحاديثه وأعاجيبه، قال: فدخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) وأنا أريد أن أسأله عنه، فابتدأني من غير أن أسأله: (رحم الله جابر بن يزيد الجعفي كان يصدق علينا، ولعن الله المغيرة بن سعيد(2) كان يكذب علينا)(3).
ص: 262
ورواها مرة أخرى ولكن بطريق آخر - ضعيف بابن سنان - ولكن بتفصيل أكثر، قال: (حدّثنا أحمد بن محمَّد، عن الحسين بن سعيد، عن محمَّد بن سنان، عن زياد بن أبي الحلال قال: كنت سمعت من جابر أحاديث فاضطرب فيها فؤادي وضقت فيها ضيقاً شديداً، فقلت: والله إنَّ المستراح لقريب وإنَّي عليه لقوي فابتعت بعيراً وخرجت عليه إلى المدينة وطلبت الإذن على أبي عبد الله (علیه السلام) فأذن لي، فلما نظر إلي قال: (رحم الله جابراً كان يصدق علينا، ولعن الله المغيرة فإنَّه كان يكذب علينا). قال: ثُمّ قال: (فينا روح رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم))(1).
ب. روى الكشي بطريق معتبر أيضاً ما لفظه: (حدّثني حمدويه وإبراهيم [ابنا نصير]، قالا: حدّثنا محمَّد بن عيسى [ابن عبيد]، عن علي بن الحكم، عن زياد بن أبي الحلال قال: اختلف أصحابنا في أحاديث جابر الجعفي، فقلت لهم: أسأل أبا عبد الله (علیه السلام) ، فلما دخلت ابتدأني فقال: رحم الله جابر الجعفي...)(2).
ج. وروى محمَّد بن جرير بن رستم الطبري (عاش في القرن الرابع) في دلائل الإمامة الروايتين المتقدمتين في البصائر عن أحمد بن محمَّد أيضاً مع اختلاف يسير باللفظ قد يكون ناشئاً عن اختلاف النسخ أو إبهام الكتابة، ففيه: (عن جابر، قال: سمعته يقول... وسمعت منه أحاديث اضطربت منها وضعفت نفسي ضعفاً شديداً، فقلت: والله، إنّ السراج لقريب، وإنّي عليه لقادر، فابتعت قلوصاً(3) وخرجت عليه إلى أبي عبد الله (علیه السلام) ،
ص: 263
فلما وصلت طلبت الإذن...)(1).
والحديث مرسل؛ لأنّ ابن جرير هذا من كبار الطبقة الثانية عشرة - طبقة الشيخ الطوسي والنجاشي - بقرينة روايته عن مثل أبي المفضّل الشيباني الذي سمع منه النجاشي كثيراً، ولكنّه لم يروِ عنه لتضعيف جلّ الأصحاب له(2)، وأبي محمَّد هارون بن موسى التلعكبري وكانت وفاة هارون بن موسى (385ﻫ )، ومن ثَمَّ لا يستطيع أن يروي عن (أحمد بن محمَّد) مباشرة الذي هو من الطبقة السابعة.
د. ما في كتاب الاختصاص المنسوب إلى الشيخ المفيد (ت 413ﻫ ) عن (جعفر بن الحسين(3)، عن محمَّد بن الحسن [ابن الوليد]، عن محمَّد بن الحسن الصفّار، عن محمَّد ابن إسماعيل [ابن بزيع]، عن علي بن الحكم، عن زياد بن أبي الحلال...)(4).
لكن على تقدير كون الكتاب للمفيد فإنّ في روايته عن جعفر بن الحسين شائبة
ص: 264
إرسال(1).
والحاصل: أنّه قد ظهرت تمامية بعض أسانيد الرواية من خلال أحد طريقي الصفّار وطريق الكشي.
وأمّا دلالة الرواية فإنّها من وجهين:
الأوَّل: من جهة قوله (علیه السلام) : (كان يصدق علينا)، فإنّه يدل على وثاقة الرجل، وقد جاء السؤال والجواب بمناسبة اختلاف أصحابنا في شأن الوثوق برواياته وتردد السّائل في ذلك.
الثّاني: من جهة ما تضمّنه ترحم الإمام (علیه السلام) عليه، فإنَّ هذا الدعاء لا يدعو به المعصوم (علیه السلام) إلّا لشخص جليل، أو لا أقلّ ممدوح، كما تدل عليه متابعة استعمال هذه الجملة في النصوص..
منها: ما ورد في المعتبر عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن القنوت فقال: (فيما يجهر فيه بالقراءة)، قال: فقلت له: إنَّي سألت أباك عن ذلك فقال: (في الخمس كلها؟) فقال: (رحم الله أبي إنَّ أصحاب أبي أتوه فسألوه فأخبرهم بالحق، ثُمّ أتوني شكّاكاً فأفتيتهم بالتقية)(2).
ص: 265
ص: 266
ومنها: ما رواه الصدوق في أماليه بإسناده عن ثابت بن أبي صفية(1) عن علي بن الحسين (علیه السلام) في حديث: (رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله عزّ وجلّ بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإنَّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة)(2).
وقد يستشهد على أنَّ ترحم الإمام (علیه السلام) لا يكون إلَّا لشخص جليل ما رواه القطب الراوندي (ت 573ﻫ ) بقوله: (ومنها: ما روي عن أحمد بن محمَّد بن مطهر، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمَّد (علیه السلام) [أي الإمام العسكري] - من أهل الجبل - يسأله عمّن وقف على أبي الحسن موسى (علیه السلام) ، أتولاهم أم أتبرأ منهم؟ فكتب إليه: لا تترحم على عمّك، لا رحم الله عمّك، وتبرأ منه، أنا إلى الله منهم بريء فلا تتولاهم..)(3).
فنرى في هذه الرواية شدة الإمام العسكري (علیه السلام) مع الواقفة، وأمره بأن لا يترحم على عمّه، ولو كان الترحم يصح لمن معه خلّة وصداقة أو كان له عليه حقّ - كما ذكر المحقّق التستري (قدس سره) (4) - لما أمر (علیه السلام) السائل بعدم الترحم عليه، بل أضاف الإمام (علیه السلام) :
ص: 267
(لا رحم الله عمّك).
لكن قد يجاب عن ذلك: بأنّ هناك خصوصية في الواقفة؛ لأنّها ضلالة في المذهب، فليست بمثابة عدم كون الرجل صادقاً في رواياته.
فإنْ قيل: إنَّ الترحم لا يفيد المدح؛ لإطلاقه في حقّ مَنْ لم يكن من الصالحين(1).
فإنَّه يقال: إنَّ الترحم ظاهر في مدح المترحم عليه، وليس نصّاً صريحاً. وعليه فلا مانع من وروده أحياناً على مَن ليس ممدوحاً لغاية أخرى: إمّا بقرينة متصلة تمنع من هذا الظهور، أو بقرينة منفصلة توجب رفع اليد عن الحجّيّة.
ومن أمثلة القرينة المتصلة ما ذكره المحقّق التستري نقلاً عن النجاشي في شأن أحمد ابن محمَّد الجوهري حيث قال: (رأيت هذا الشيخ، وكان صديقاً لي ولوالدي، وسمعت منه شيئاً كثيراً، ورأيت شيوخنا يضعفونه، فلم أروِ عنه شيئاً وتجنبته، وكان من أهل العلم والأدب القوي وطيب الشعر وحسن الخط، رحمه الله وسامحه)(2).
ص: 268
ووجه القرينة: أنّه إنّما ترحم عليه بعد ذكر ضعفه. على أنّه قرن الترحم بالدعاء له بالمسامحة.
ومن أمثلة القرينة المنفصلة ما رواه الكليني بإسناده المعتبر عن الوليد بن صبيح عن أبي عبد الله (علیه السلام) : (..رحم الله المعلى بن خنيس، فظننت أنَّه شبّه قيامي بن يديه بقيام المعلى بين يديه، ثم قال: أفٍّ للدنيا، أفٍّ للدنيا، إنَّما الدنيا دار بلاء يسلّط الله فيها عدوه على وليه وإنَّ بعدها داراً ليست هكذا. فقلت: جعلت فداك وأين تلك الدار؟ فقال: هاهنا وأشار بيده إلى الأرض)(1).
ووجه القرينة المنفصلة: ما ادعي من قيام الحجّة على ضعفه من جهة بعض الروايات الذامّة.
والمتحصّل: ممّا ذكرنا نهوض معتبرة زياد بن أبي الحلال على وثاقة جابر.
2. معتبرة ذريح المحاربي، وقد رواها الكشي قائلاً: (حدّثني جبريل بن أحمد، حدّثني محمَّد بن عيسى، عن عبد الله بن جبلة الكناني، عن ذريح المحاربي، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن جابر الجعفي وما روى؟ فلم يجبني، وأظنه قال: سألته بجمعٍ فلم يجبني فسألته الثالثة؟ فقال لي: (يا ذريح دع ذكر جابر فإنَّ السَّفِلَة(2) إذا سمعوا بأحاديثه
ص: 269
شنّعوا، أو قال: أذاعوا)(1).
وهذا الحديث أيضاً ورد في السؤال عن وثاقة جابر واعتبار أحاديثه.
والملحوظ أنَّ الإمام (علیه السلام) لم يقدح فيه بل خشي من التشنيع والإذاعة من قبل السَّفِلَة، وفي ذلك إقرار ضمني بصحة أحاديثه، بل نحو مدح له بتحمّله من الأحاديث ما لا يتحمّله كثير من الناس.
وأرسل الكشي هذه الرواية في موضع آخر عن محمَّد بن سنان مع تفصيل وزيادة قائلاً: (روي عن محمَّد بن سنان، عن عبد الله بن جبلة الكناني، عن ذريح المحاربي قال، قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) بالمدينة: ما تقول في أحاديث جابر؟ قال: (تلقاني بمكة). قال: فلقيته بمكة، فقال: (تلقاني بمنى)، قال: فلقيته بمنى فقال لي: (ما تصنع بأحاديث جابر! إِله عن أحاديث جابر فإنَّها إذا وقعت إلى السَّفِلَة أذاعوها). قال عبد الله بن جبلة: فاحتسبت ذريحاً سَفِلَة)(2).
وقد يستشكل في اعتبار هذه الرواية - بالرغم من صحة إسنادها - بوهنها مضموناً؛ لأنّ فيها تلويحاً بكون ذريح من السفلة، كما فهمه عبد الله بن جبلة في النقل الثاني، وهذا بعيد؛ وذلك..
(أوَّلاً): لوجود رواية صحيحة تدل على جلالة ذريح وهي ما رواه الصدوق (رضوان الله تعالی علیه)
ص: 270
بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: أتيت أبا عبد الله (علیه السلام) فقلت له: جعلني الله فداك ما معنى قول الله عزّ وجلّ: [ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ](1) ؟ قال: (أخذ الشارب وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك). قال: قلت: جعلت فداك فإنَّ ذريحاً المحاربي حدَّثني عنك أنَّك قلت: [لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ] لقاء الإمام. [وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ] (2) تلك المناسك. قال: (صدق ذريح وصدقت، إنَّ للقرآن ظاهراً وباطناً. ومن يحتمل ما يحتمل ذريح)(3).
(وثانياً): عمل ابن أبي عمير برواية رواها له ذريح المحاربي، كما رواه الصدوق قائلاً: (حدّثنا محمَّد بن الحسن (رحمة الله) قال: حدّثنا علي بن إبراهيم عن أبيه قال: كان ابن أبي عمير رجلاً بزازاً، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم فذهب ماله وافتقر، فجاء الرجل فباع داراً له بعشرة آلاف درهم وحملها إليه فدق عليه الباب فخرج إليه محمَّد بن أبي عمير (رحمة الله) فقال له الرجل: هذا مالك الذي لك عليَّ فخذه. فقال ابن أبي عمير: فمن أين لك هذا المال، ورثته؟ قال: لا، قال: وهب لك؟ قال: لا، ولكنّي بعت داري الفلاني لأقضي ديني، فقال ابن أبي عمير (رحمة الله): حدّثني ذريح المحاربي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: (لا يُخْرَج الرجل من مسقط رأسه بالدين). ارفعها فلا حاجة لي فيها، والله إنَّي محتاج في وقتي هذا إلى درهم وما يدخل ملكي منها درهم)(4).
ص: 271
(وثالثاً): توثيق الشيخ الطوسي له صريحاً قائلاً: (ذريح المحاربي، ثقة)(1)، كما روى عنه ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى(2)، وهما ممّن لا يروي إلّا عن ثقة، كما ذكر الشيخ (قدس سره).
وأيضاً يمكن دفع هذا الإشكال عن النقل الأوَّل - المعتبر - للرواية من جهة أنّه لا دلالة له على أنّ الحذر إنَّما كان من ذريح نفسه، بل كان في مقام النّصح له بترك التحدّث بأحاديث لجابر؛ لمحاذير في الحديث بها.
وأمّا النّقل الثّاني فهو وإن تضمن فَهْمَ الراوي أنّ ذريحاً من السفلة، ولكنّه ليس بحجّة في نفسه، وذلك..
أوَّلاً: إنّه ضعيف بالإرسال فيما بين الكشي ومحمَّد بن سنان، بل وبمحمَّد بن سنان نفسه.
وثانياً: إنّه لا حجّة في فَهْم عبد الله بن جبلة لكلام الإمام (علیه السلام) بعدما عرفت من عدم دلالة كلامه على ذلك.
3. رواية المفضّل وهي ضعيفة به، بناءً على تضعيفه - كما هو الراجح -، كما أنَّ الطرق إليه ضعيفة جميعاً، ولكنّها تصلح لتأييد الرواية السابقة لقربها منها، وطرقها كما يلي:
أ. روى الكشي عن (آدم بن محمَّد البلخي، قال: حدّثنا علي بن الحسن بن هارون الدقّاق قال: حدّثنا علي بن أحمد، قال: حدّثني علي بن سليمان، قال: حدّثني الحسن بن علي بن فضّال، عن علي بن حسان[الواسطي، ثقة](3)، عن المفضّل بن عمر الجعفي،
ص: 272
قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن تفسير جابر؟ فقال: (لا تحدّث به السَّفِلَة فيذيعوه، أما تقرأ في كتاب الله عزّ وجلّ [فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ] (1) إنَّ منّا إماماً مستتراً فإذا أراد الله إظهار أمره نكت في قلبه، فظهر فقام بأمر الله)(2).
وهذا الطريق ضعيف بمعظم رجاله وهم مَن عدا ابن فضال وشيخه.
ب. علي ابن بابويه حيث أورد هذه الرواية أيضاً بطريق صحيح إلى موسى بن سعدان الحنّاط الكوفي(3) في كتاب الإمامة والتبصرة المنسوب إليه عن (عبد الله بن جعفر الحميري قال: حدّثنا محمَّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم [الحضرمي](4)، عن المفضّل بن عمر، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن تفسير جابر...)(5).
ج. الصدوق أورد هذه الرواية كذلك في كمال الدين وتمام النعمة بطريق صحيح إلى موسى بن سعدان، قائلاً: (حدّثنا أبي ومحمَّد بن الحسن (رضی الله عنهما) قالا: حدّثنا عبد الله بن جعفر الحميري قال: حدثنا محمَّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم [الحضرمي]، عن المفضّل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن تفسير جابر...)(6).
ص: 273
د. الشيخ الطوسي أورد هذه الرواية - أيضاً بطريق ضعيف - في كتاب الغيبة بقوله: (أخبرني جماعة، عن أبي المفضّل(1)، عن محمَّد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن محمَّد بن الحسين بن أبي الخطاب(2)، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم [الحضرمي]، عن المفضّل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن تفسير جابر...)(3).
ﻫ. الشيخ الكليني (رضوان الله تعالی علیه) في الكافي أورد هذه الرواية - بطريق ضعيف كذلك - من دون صدره الذي هو محل الشاهد في المقام، وكأنَّه لعدم الشاهد فيه، قائلاً: (أبو علي الأشعري [أحمد بن إدريس]، عن محمَّد بن حسان [الرازي]، عن محمَّد بن علي(4)، عن عبد الله بن القاسم [الحضرمي]، عن المفضّل بن عمر، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله
ص: 274
عزّ وجلّ: [فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ](1) قال: (إنَّ منّا إماماً مظفراً مستتراً، فإذا أراد الله عزّ ذكره إظهار أمره، نكت في قلبه نكتة فظهر فقام بأمر الله تبارك وتعالى)(2).
ونقلها الشيخ النّعماني في غيبته(3) عن الكليني من دون الصدر كذلك.
وهذه الرواية فيها ضعف من جهات..
الأولى: ب-( محمَّد بن حسان الرّازي)(4).
الثانية: ب-(محمَّد بن علي أبي سمينة).
الثالثة: بالإرسال؛ لسقوط الواسطة بين أبي سمينة وعبد الله بن القاسم الحضرمي، كما نبّه عليه في هامش الطبعة المحقّقة من الكافي(5).
الرابعة: ب-(عبد الله بن القاسم الحضرمي).
ص: 275
الخامسة: ب-(المفضّل بن عمر الجعفي).
وهذه الرواية تنتهي إلى المفضّل بن عمر الجعفي في كل مصادرها كما تبيّن من العرض السابق، ورواها عنه شخصان: عبد الله بن القاسم الحضرمي، وعلي بن حسان الواسطي.
فالحاصل من هذا الطريق: أنَّ جابر بن يزيد الجعفي ثقة جليل.
ص: 276
قد ذُكر (جابر الجعفي) في كتب الرجال والطبقات والفهارس، فلم يتعرض جماعة لحاله لعدم اهتمامهم - بطبيعة موضوع كتابهم - بأحوال الرجال عموماً، فقد ذكره..
1. البرقي في رجاله في أصحاب أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق (علیهما السلام) (1).
2. الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قائلاً: (جابر بن يزيد بن الحارث بن عبد يغوث الجعفي، توفي سنة ثمان وعشرين ومائة، على ما ذكر ابن حنبل، وقال يحيي بن معين: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقال القتيبي: هو من الأزد).
وذكره في أصحاب أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قائلاً: (جابر بن يزيد، أبو عبد الله الجعفي، تابعي، أسند عنه، روى عنهما (علیهما السلام))(2).
3. وأيضاً الشيخ في الفهرست بقوله: (جابر بن يزيد الجعفي. له أصل... وله كتاب التفسير)(3).
ووثقّه بعض آخر، وهم..
1. ابن الغضائري في ترجمته، حيث أفاد: (جابر بن يزيد الجعفي الكوفي. ثقّة في نفسه. ولكن جُلّ من يروي عنه ضعيف، فممّن أكثر عنه من الضعفاء: عمرو بن شمر الجعفي، ومفضّل بن صالح، والسكوني، ومنخّل بن جميل الأسدي)(4).
2. المفيد (رضوان الله تعالی علیه) في جوابات أهل الموصل في عدد أيام شهر رمضان حيث أفاد: (وأمَّا
ص: 277
رواة الحديث بأنَّ شهر رمضان شهر من شهور السنة، يكون تسعة وعشرين يوماً، ويكون ثلاثين يوماً، فهم فقهاء أصحاب أبي جعفر محمَّد بن علي، وأبي عبد الله جعفر ابن محمَّد... (علیهم السلام)، والأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن [مطعن] عليهم، ولا طريق إلى ذم واحد منهم... وروى عمرو بن شمر، عن جابر عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: (ما أدري ما صمت ثلاثين يوماً..)(1).
وضعّفه بعض ثالث، وهم..
1. المفيد كما حكاه النجاشي.
2. النّجاشي حيث قال عنه: (وكان في نفسه مختلطاً، وكان شيخنا أبو عبد الله محمَّد ابن محمَّد بن النعمان (رحمة الله) ينشدنا أشعاراً كثيرة في معناه تدل على الاختلاط، ليس هذا موضعاً لذكرها)(2).
وعليه قد يقال: إنّ مقتضى القواعد في الموضوع عدم الحكم بوثاقة الرجل من جهة تساقط التوثيق والتضعيف.
ولكن الصحيح ترجيح توثيق الرجل وفاقاً لما يتراءى من جمهور المتأخرين، فقد اتفقت كلمة أرباب الفتاوى من أصحابنا (قدس سرهم) الذين يتعرضون لتضعيف الرجال في كتبهم - على اختلاف مدارسهم ومبانيهم في توثيق وتضعيف الرجال - على عدم الطعن بجابر، وإنَّما بمن روى عنه، ومن أمثلة ذلك ما ذكره المحقّق في المختصر والشرائع(3)
ص: 278
والمعتبر(1)، والفاضل الآبي(2)، والعلّامة(3)، والشّهيد الأوَّل(4)، والشّهيد الثّاني(5)، والمحقّق الأردبيلي(6)، والسّيّد صاحب الرياض(7)، وصاحب الجواهر(8)، والسّيّد صاحب العروة(9).
بل صحّح جماعة الروايات التي هو فيها، وقالوا إنّها حسنة إذا كان فيها ممدوح مثل (إبراهيم بن هاشم) كالسيّد صاحب المدارك(10)، والشيخ البهائي(11)، والمحقّق السبزواري(12)، والمحقّق القمي(13)، والمحقّق الآخوند الخراساني(14).
ص: 279
بل صرّح جماعة بالصحيحة كالمحقّق النراقي(1)، والمحقّق الهمداني(2)، والمحقّق الشيخ محمَّد تقي الآملي(3)، والمحقّق السيّد الخوانساري(4).
وأمّا تضعيف النجاشي فيجاب عنه بوجهين:
(الأوَّل): إجمالي وهو ترجيح توثيق ابن الغضائري على تضعيف المفيد والنجاشي من جهة تشدّده في شأن الرجال، فيقدم توثيقه على أي طعن يقع في مقابله. مضافاً إلى معارضة تضعيف المفيد بتوثيقه فيتساقطان.
ولكن قد يشكل كلا الأمرين..
أمّا الأمر الأوَّل فلأنّ ما اشتهر من تشدّد ابن الغضائري في شأن الرجال ليس صحيحاً على إطلاقه، بل كان جرحه لهم مبنياً على كونه نقّاداً للأخبار، فقد وثّق جماعة - غير جابر - ضعّفهم آخرون..
وهم: أحمد بن الحسين بن سعيد الذي قال القميون بحقّه أنّه كان غالياً، لكن ابن الغضائري قال: (وحديثه فيما رأيته سالم)، والحسين بن شاذويه، قال بحقّه: (زعم القميون أنّه كان غالياً. ورأيت له كتاباً في الصلاة سديداًً)، وزيد النرسي وزيد الزرّاد، قال بحقّهما: (وغلط أبُو جَعْفَر في هذا القول - وهو أنّ كتبهما موضوعة، وضعها مُحَمَّدُ ابنُ مُوْسى السَمّانُ -، فإِنّي رَأَيْتُ كُتُبَهُما مَسْمُوعةٌ عن مُحَمَّد بن أبي عُمَيْر)، ومحمد بن أورمة، قال بحقّه: (اتهمه القميون بالغلو، وحديثه نقي لا فساد فيه)، الحسين بن القاسم ابن
ص: 280
شمون، قال بحقّه: (ضعّفوه. وهو عندي ثقة)، هشام بن إبراهيم العباسي، قال بحقّه: (طُعِنَ عليهِ، والطَعْنُ - عندي - في مذهبِهِ، لا في نَفْسِهِ)، الحُسَيْنُ بنُ أَحْمَد بن المُغَيْرة، قال بحقّه: (مُضْطَرِبُ المَذْهَبِ. ثِقةٌ في رِوايَتِهِ)(1).
وأمّا الأمر الآخر - وهو معارضة تضعيف المفيد بتوثيقه - فلإمكان أن يقال: إنَّ تناقض قولي شخص لا يمنع من صيرورة ما ينافيهما أو أحدهما طرفاً للمعارضة.
أو يقال: إنَّ شهادات المفيد في الرسالة العددية لا تخلو عن مسامحة لما ذكر في محلّه(2).
(الوجه الآخر) - تفصيلي -: وهو عدم صحة اتهامه بالتخليط..
فنقول: التخليط لغة: هو خلط الشيء بغيره، واختلط فلان، أي فسد عقله. والتخليط في الأمر: الإفساد فيه(3).
وأمَّا في الاصطلاح فذكر الشيخ محمَّد بن إسماعيل المازندراني (ت 1216ﻫ ): (وأمَّا قولهم: مختلط، ومخلّط... الظاهر أنّ المراد بأمثال هذين اللفظين مَن لا يبالي عمّن يروي وممّن يأخذ، يجمع بين الغثّ والسمين، والعاطل والثمين)(4).
ص: 281
ويمكن القول إنّ الاختلاط على أنواع ثلاثة(1):
1. الاختلاط بالعقيدة؛ بالغلو أو غيره من وجوه الضلالة.
2. الاختلاط في الروايات.
3. الاختلاط في الأسانيد.
والظاهر أنّ نظر المفيد والنجاشي إلى الاختلاط في العقيدة وما بمثابته من البناء على أمور منكرة وغريبة لا حجة عليها، كما ينبّه عليه استناد المفيد إلى أشعار لجابر تدل على الاختلاط.
وأيّاً كان: فشيء من هذه المعاني لا يرد في شأن جابر بن يزيد الجعفي..
أمّا فساد العقيدة - والمراد به الغلو - فقد مرّ تحقيقه في الجهة الحادية والعشرين من المقام الأوَّل بعنوان (جابر والغلاة)، وقد بيّنا أنَّ هذا المعنى غير ثابت في شأن جابر وإن أضاف إليه الغلاة آثاراً تتضمن الغلو.
يضاف إلى ذلك أنّه لو كان جابر رأساً في الغلو لورد عن الأئمة (علیهم السلام) التبرؤ منه كما ورد في رؤوس الغلاة - كالمغيرة بن شعبة(2)، وأبي الخطاب(3)، وابن أبي العزاقر(4)
ص: 282
وأحمد بن هلال الكرخي(1)، والشريعي(2) - حتى يبتعد عنهم الشيعة ويأمنوا من بدعهم.
بل عرفت أنّ الإمام (علیه السلام) قد صرّح بصدقه في شأن ما روي عنه من الغرائب والتي هي مظنة توهم الغلو فيها.
وأمّا الأشعار التي أشار إليها الشيخ المفيد (قدس سره) فلم نقف عليها - بمقدار ما تيسّر من المراجعة إلى كتب الأخبار والتراجم والتاريخ والأدب وغيرها -.
وأمّا المعنى الثاني - من خلط المطالب المنكرة بغيرها - فأيضاً لا يأتي في جابر؛ لعدم ثبوت وقوع مثل هذا الخلط في رواياته.
نعم، هناك بعض المضامين الغريبة التي وردت في رواياته، لكن لا نحرز أنّها منه، بل من المحتمل أن تكون ممّن روى عنه كعمرو بن شمر والمفضل بن صالح - كما صرّح بذلك ابن الغضائري في كلامه عنه -.
على أنّ بعضها لم تتفرد به الروايات المنقولة عن جابر، بل يوجد ما يماثلها من طرق أخرى، وبعضها يوجد ما يماثلها في بعض طرق العامّة، كما سيتضح لاحقاً.
وأمّا المعنى الثّالث - من خلط بعض أسانيد الأخبار ببعض آخر - فلم نجد ما يكون شاهداً عليه.
إن قيل: إنَّ كثرة رواية الضعفاء عن رجل تعدّ طعناً فيه، وقد أكثر الضعفاء والغلاة من الرواية عن جابر، ومن ثَمَّ ذكر النّجاشي في شأنه: (روى عنه جماعة غمز فيهم وضعّفوا، منهم: عمرو بن شمر، ومفضّل بن صالح، ومنخّل بن جميل، ويوسف بن يعقوب)(3). وممّن لم يذكرهم من الضعفاء عمرو بن أبي المقدام.
ص: 283
ويدعم ما ذكره (قدس سره) أنّ الأسانيد المذكورة في الفهارس إلى جابر هي - عموماً - من طريق عمرو بن شمر، والمفضّل بن صالح، ومنخّل بن جميل، وعمرو بن أبي المقدام، وهم جميعاً ضعفاء.
كان الجواب عن ذلك: أنَّ هذا الأمر لا يعدّ ضعفاً في الرجل؛ وذلك..
(أوَّلاً): إنَّ رواية الضعفاء عن الرجل لا تقتضي ضعفاً فيه؛ لأنّ طريقة التلقي عن الشيخ ليست هي بانتقاء الشيخ لتلاميذه، وإنَّما كان المحدِّث يجلس في المسجد ويعقد حلقة يحدِّث بها ويسمع منه طلاب الحديث، وقد أخذ عن جابر السُّنّة والشّيعة في الكوفة؛ إذ كان مجتمع الكوفة آنذاك خليطاً.
ومن الجائز أن يكون السبب في إضافة الضعفاء الروايات التي يضيفونها إلى جابر - كما تقدّم بيانه في الحلقة السابقة - هو تحمّله لعلوم خاصّة عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) وبرواياته في العقائد والفضائل، وأكثر وضع الرواة إنَّما هو من المعنيين منهم بهذه المواضيع دون أهل الفقه، كما أنَّ هذه المواضيع أكثر مجالات الوضع دون الفروع الفقهية، فأضافوا ما وضعوه في هذه المواضيع إليه.
كما يحتمل - والله أعلم - أنَّ السبب في ذلك أنَّ جابراً لم يكن يحدِّث في الجو العامّ، بل يحدِّث في خفاء فكان المبرّزون من تلامذته من قبيلته وهي قبيلة جعفي - كعمرو بن شمر، والمفضّل، ومنخّل -، وكانت كل قبيلة تسكن سابقاً في مكان واحد فيقال: (حي جعفي) و(حي كندة) وما إلى ذلك، ومن ثَمَّ كان بالإمكان أن يحدِّث قبيلته ومَن جاورها ممّن أكثر عنه دون الخروج إلى الجو العامّ، وأمّا سائر الرواة فرووا عنه روايات معدودة، فتأمل.
وثانياً: إنَّ الرواية عن جابر لا تقتصر على الضعفاء، بل فيهم جماعة من ثقات
ص: 284
الفريقين..
فمن الخاصّة: أبو حمزة الثمالي، إبراهيم بن نعيم العبدي أبو الصباح الكناني، زياد بن أبي الحلال، ميسّر بياع الزطي، الحسن بن السري الكاتب الكرخي، أبو مريم الأنصاري، عبد الله بن غالب الأسدي، نجية بن الحارث العطار، عنبسة بن بجاد العابد وغيرهم.
وقد وردت رواية رجال عنه وثّقهم النجاشي وضعّفهم ابن الغضائري، ك-(إبراهيم ابن عمر اليماني الصنعاني، صباح بن يحيى المزني، يعقوب السرّاج).
ولعلّ هذا من أسباب تضعيف النجاشي له دون ابن الغضائري، بمعنى أنّ النجاشي اعتقد وثاقة هؤلاء الرواة عن جابر فاتّهم جابراً فيما رووه عنه من المضامين الغريبة، ولكن ابن الغضائري رأى أنّ الأقرب اتهام هؤلاء الرواة، فتأمل.
وأمّا من العامّة فقد روى عنه جماعة من أئمة الحديث عندهم ومشاهيرهم مثل: أبي حنيفة، سليمان بن مهران الأعمش، سفيان الثّوري، سلام بن أبي مطيع، سفيان بن عيينة، شعبة بن الحجّاج وغيرهم.
وثالثاً: إنَّ رواية الضعفاء عن الرجل إنَّما تدل على ضعفه إذا كان الضعيف ضعيفاً حين التحمّل عنه حتى يقال إنَّ هذا يؤشر على ضعفه؛ لأنَّ شبيه الشيء منجذب إليه، ومن الجائز أن يكون طرو الضعف على هؤلاء الرواة حصل لاحقاً حيث إنَّهم بقوا بعد جابر مدة طويلة قد تصل في بعضهم إلى نصف قرن وذلك حسب اختلاف وفياتهم.
والمتحصَّل من هذا الطريق: أنَّ الرجل ثقة، على الصحيح.
ص: 285
لا شكّ في أنَّ روايات الرجل مرآة لوثاقته، فإذا كانت الروايات حسنة وقوية وموافقة مع الروايات المتواترة ورواية الثقات كان ذلك أمارة على حسن حاله ووثاقته، وإذا كانت رواياته غريبة ومنكرة كان موجباً للريبة في أمره أو علامة على ضعفه، ولكن شريطة إحراز كونه منبع الرواية ومصدرها دون من بعده أو قبله.
وبتتبع روايات جابر وجدنا أنَّ جلّها لا شائبة فيها سواء أكانت في العقائد أم الفقه أم التفسير أم الأخلاق أم الفضائل أم التاريخ كما مرّ تفصيل ذلك في الحلقة السّابقة في المقام الثّاني.
ولكن احتوت بعض الروايات التي ينتهي إسنادها إلى جابر على غرائب ومناكير قد يجعل منها علامة على ضعف الرجل أو الريبة فيه، إلّا أنَّ الذي نجده بتتبعها أنَّ في كل منها ضعيفاً أو أكثر في السلسلة قبل انتهاء الرواية إلى جابر فلا يحرز أنَّ منشأ الرواية هو جابر.
وهذا الطريق - في نفسه - دليل في طول الطريقين السابقين..
ولنذكر نماذج من هذه الروايات المريبة..
1. خبر الخيط، وقد تقدّم تحقيقه في الحلقة الأولى وأنَّه من وضع الغلاة.
2. ما رواه البرقي عن أبيه، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى الكندي(1)، عن أبيه (وكان صاحب مطهرة علي)، عن علي (علیه السلام) قال:
ص: 286
(قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): يا علي إنَّ جبرئيل أتاني البارحة، فسلّم علي من الباب، فقلت: أدخل، فقال: إنّا لا ندخل بيتاً فيه ما في هذا البيت، فصدّقته وما علمت في البيت شيئاً، فضربت بيدي، فإذا جرو كلب كان للحسين بن علي يلعب به الأمس، فلما كان الليل دخل تحت السرير، فنبذته من البيت ودخل، فقلت: يا جبرئيل أو ما تدخلون بيتاً فيه كلب؟ قال: لا، ولا جنب ولا تمثال لا يوطأ)(1).
ص: 287
وهذا الحديث غريب من وجهين؛ إذ يمتاز بزيادتين عن أخبار الباب:
الأوَّل: ما ورد فيه من إضافة عدم دخول الملائكة في بيت فيه جنب، وهو ما خلا عنه سائر أخبار الباب(1).
والوجه الآخر: ما ورد فيه من أنّه (كان للحسين بن علي جرو كلب يلعب به). وهذا أيضاً لم يرد في أخبار الباب. وقد روى الكليني هذا المضمون من عدّة طرق أخرى غير طريق جابر لم يرد فيها ذلك(2).
ص: 288
وفي هذا الباب أحاديث أخرى كثيرة تبلغ في المحاسن ثلاثين حديثاً(1).
وممّا يؤيد غرابة الزيادتين: أنّ هذه الرواية يبدو من إسنادها أنّها عاميّة - وكأنّ جابراً رواها عن طريق مشايخه من العامة - وقد ورد عند العامّة مثل هذا المضمون خالياً عن الزيادتين، فقد ورد في صحيح البخاري أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة تماثيل، وأنَّ النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلّم) وعد جبريل فقال: إنّا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب).
وأورد مسلم هذه الحادثة بتفصيل أكثر فقال: (عن عائشة أنَّها قالت واعد رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلّم) جبريل (علیه السلام) في ساعة يأتيه فيها فجاءت تلك الساعة ولم يأتِه وفي يده عصا فألقاها من يده، وقال: ما يخلف الله وعده ولا رسله، ثم التفت
ص: 289
فإذا جرو كلب تحت سريره، فقال: يا عائشة متى دخل هذا الكلب هاهنا؟ فقالت: والله ما دريت فأمر به فأخرج فجاء جبريل فقال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلّم): واعدتني فجلست لك فلم تأتِ، فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك، إنّا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة)(1).
فالملاحظ أنّ هذه الرواية الواردة في الصحيحين ليس فيها أنَّ جرو الكلب كان للحسين بن علي (علیهما السلام).
أقول: يمكن أن يجاب عن هذه الرواية بجوابين:
الجواب الأوَّل: روى الكليني هذا الحديث بعين إسناد البرقي من طريق أحمد بن النضر وهو خال عن الزيادة.. قال: أبو علي الأشعري، عن محمَّد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى الكندي(2)، عن أبيه وكان صاحب مطهرة أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): قال جبرئيل (علیه السلام) : إنّا لا ندخل بيتاً فيه تمثال لا يوطأ). الحديث مختصر(3).
فالملاحظ أنّ هذا عين حديث البرقي في المحاسن إسناداً ومضموناً، ولكن عبّر عنه الكليني بأنَّه حديث مختصر.
ولعلّ الاختصار فيه أنَّه لم يذكر الكلب ولا الإناء الذي يبال فيه.
وعليه فيقال: إنَّه لم يثبت وجود (جرو كلب كان للحسين بن علي (علیهما السلام)) في متن الحديث حتى في ما رواه الكليني بطريقه عن جابر الجعفي، وليس فيه أيضاً (فقال: إنّا لا
ص: 290
ندخل بيتاً فيه ما في هذا البيت، فصدّقته وما علمت في البيت شيئاً، فضربت بيدي... ولا جنب).
ولكن قد يتأمل في هذا الجواب؛ بالنظر إلى أنّه لا يبعد حذف الكليني للزيادة كما حذف ذكر الكلب والإناء الذي يبال فيه، ولعلّه من جملة ما أشار إلى حذفه بقوله: (الحديث مختصر).
الجواب الآخر: هذه الرواية ضعيفة بعمرو بن شمر.
ولا يخفى أنّ أصل الحديث عامي رواه غير واحد عن عبد الله بن نجي عن أبيه عن علي (علیه السلام) ففي مسند أحمد أنّ أبا زرعة بن عمرو بن جرير يحدِّث عن عبد الله بن نجي عن أبيه عن علي (علیه السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة)(1).
ووردت الرواية المبحوث عنها بإسناد عامي من طريق شعبة عن جابر، قال: سمعت عبد الله بن نجي يحدِّث عن علي (علیه السلام) ... وفيه: (فنظرت فإذا جرو للحسن بن علي تحت السرير فأخرجته)(2).
وروى الترمذي بإسناده عن مجاهد عن أبي هريرة وفيه: (وكان ذلك الكلب جرواً للحسين أو للحسن تحت نضد له، فأمر به فأُخرج)(3).
وروى البيهقي أيضاً من طريق أبي هريرة: (...فإذا كلب أو جرو للحسن والحسين رضي الله عنهما فأمر به رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فأُخرج)(4).
ص: 291
وفي مسند أبي يعلى من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن عبد الله بن نجي، وفيه: (فنظرت فإذا جرو للحسين بن علي مربوطاً بقائم السرير في بيت أم سلمة...) وفيه ذكر الجنب(1).
فيظهر أنّ الحديث مروي من طريق جابر وغيره في طرق العامة، ويحتمل أن يكون الغرض بالزيادة الحط من مكانة الحسنين (علیهما السلام).
3. ما ورد في أصل جعفر بن محمَّد بن شريح الحضرمي، عن حميد بن شعيب السّبيعي عن جابر، قال جابر: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) وهو يقول: (إنَّ لله ديكاً في الأرض ورأسه تحت العرش جناح له في المشرق، وجناح له في المغرب فيقول سبحان الملك القدوس. فإذا قال ذلك صاحت الديوك وإجابته فإذا سَمِعتَ صوت الديك فليقل أحدكم: سبحان ربي الملك القدوس)(2).
قلت: هذا حديث منكر حتى لو وجّه بأنّ المراد بالديك مَلَك من الملائكة لمكان جعل صياح الديوك في الأرض استجابة منها لتسبيح ذاك الديك السماوي.
يضاف إلى ذلك: أنّ الرواية ضعيفة من حيث عدم اعتبار مصدرها للخدشة في ثبوت أصل جعفر المذكور عنه، ومن حيث ضعف إسنادها بجعفر المذكور وحميد بن شعيب، فإنَّ الرجلين وإن ذُكرا في كتب الفهارس والرجال لكنَّهما لم يوثقا أو يمدحا، فالرجلان مجهولان(3).
ص: 292
وقد رويت هذه الرواية من طرق أخرى كلّها ضعيفة.
نعم، ورد هذا المضمون في ضمن رواية في التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم حيث رواه بإسناد معتبر عن أبيه عن محمَّد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (علیه السلام) (1).
ولكن لم يثبت التفسير عنه، مع خلو سائر الروايات المعتبرة في المعراج عن مثل هذه الزيادة، فهي زيادة شذت بها هذه الرواية.
ورواه مرسلاً في الفقيه عن أبي جعفر (علیه السلام) (2).
4. ما رواه الصدوق في العلل عن أبيه (رحمة الله) قال سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم، عن عبد الله بن حمّاد، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لا تسبوا قريشاً، ولا تبغضوا العرب، ولا تذلوا الموالي، ولا تساكنوا الخوز ولا تزوجوا إليهم، فإنَّ لهم عرقاً يدعوهم إلى غير الوفاء)(3).
ومحل الشاهد فيه ذيل الحديث من النهي عن (مساكنة الخوز...) فإنَّه منكر.
ولكن هذا الحديث لا يثبت عن جابر من جهة ضعفه بعبد الله بن حمّاد، فإنَّ الرجل لم يوثق صريحاً في كتب الرجال، بل قال عنه ابن الغضائري: إنَّ حديثه يعرف تارة وينكر أخرى، ويخرّج شاهداً(4).
نعم، ذكر عنه النجاشي أنّه من شيوخ أصحابنا، واستفاد منه الوحيد (قدس سره) الجلالة
ص: 293
والوثاقة، وهو غير ظاهر(1).
مضافاً إلى عدم ثبوت وثاقة شريك بن عبد الله القاضي(2)، وهو عامي ظاهراً وقد
ص: 294
قدح فيه العامة(1).
والظاهر أنّ أصل الرواية عاميّ وقد رواها العامة - في مصادر التاريخ - من طريق شريك نفسه عن يحيى بن معدان، عن حفص بن عمر، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).
وأيضاً ورد هذا المضمون - في نفس المصدر - عن الرجلين الأولين بواسطتين عن الأعمش عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) (2).
وكأنّ هذه الرواية قد تسربت إلى روايات الإمامية بتوسط بعض الضعفاء منهم أخذاً من روايات العامة.
5. فضل التهليل..
روى الصدوق عن أبيه، قال: حدّثنا علي بن الحسين الكوفي، عن أبيه، عن الحسين ابن سيف، عن أخيه علي، عن أبيه سيف بن عميرة، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن علي (علیه السلام) قال: (ما من عبد مسلم يقول: لا إله إلّا الله إلّا صعدت تخرق كل سقف لا تمر بشيء من سيئاته إلّا طلستها(3) حتى تنتهي إلى مثلها من الحسنات فتقف)(4).
ص: 295
ورواه في ثواب الأعمال عن أبيه، (قال حدّثني سعد بن عبد الله، قال: حدّثنا أحمد ابن محمَّد بن عيسى وإبراهيم بن هاشم والحسن بن علي الكوفي، عن الحسين بن سيف، عن عمرو بن شمر إلى آخر الإسناد(1).
والظاهر سقوط سيف بن عميرة في هذا الإسناد بقرينة إسناد التوحيد.
وعليه فمعنى الحديث أنَّ قول (لا إله إلّا الله) تمحو الذنوب.
وهذا الحديث منكر في مضمونه، لا لاستكثار الثواب على التهليل بشرطه وشروطه، ولا لما فيه من صعود الثواب وقد قال سبحانه وتعالى: [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ](2) بل من جهة قوله: إنّها (تخرق...)؛ فإنّه غريب وغير معهود.
بل قد يقال: إنّ مقتضى الرواية أنّ هذا الأثر للتهليل الواحد، ومثل هذا لم يثبت في الآثار الصحيحة في الباب.
ولكن الرواية لم تثبت عن جابر من جهة ضعف الراوي عنه وهو عمرو بن شمر.
6. فضيلة سورة يس وبعض السّور الأخرى..
روى الصدوق ثواب قراءة سورة يس عن محمَّد بن الحسن [ابن الوليد] قال: حدّثني محمَّد بن الحسن الصفار، عن محمَّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن علي بن أسباط، عن يعقوب بن سالم، عن أبي الحسن العبدي، عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (من قرأ يس في عمره مرة واحدة كتب الله له بكل خلق في الدنيا وبكل خلق في الآخرة وفي السّماء وبكل واحد ألفي ألف حسنة، ومحا عنه مثل ذلك، ولم يصبه فقر،
ص: 296
ولا غرم، ولا هدم، ولا نصب، ولا جنون، ولا جذام، ولا وسواس، ولا داء يضره، وخفّف الله عنه سكرات الموت وأهواله ووَلِيَ قبض روحه، وكان ممّن يضمن الله له السّعة في معيشته والفرج عند لقائه والرضا بالثواب في آخرته، وقال الله تعالى لملائكته أجمعين من في السّماوات ومن في الأرض: قد رضيت عن فلان فاستغفروا له)(1).
وإسناد هذه الرواية مخدوش من جهة أبي الحسن العبدي، والظاهر أنَّ الرجل من العامة، فقد وقع في مناقب ابن مردويه (ت 410ﻫ ) بعنوان (عليّ بن الحسن أبو الحسن العبدي)(2)، وأيضاً ذكره ابن حجر في الإصابة(3).
وورد (أبو الحسن العبدي) في أسناد معظم كتب الصدوق بعضها عاميّة وآخر ينتهي برجال من العامّة، وفي أكثرها يروي عن سليمان بن مهران الأعمش: فقد ورد في الأمالي ثماني مرات، والتوحيد مرتين، والخصال مرة واحدة، وثواب الأعمال مرتين، وعلل الشرائع ست مرات، وكذلك معاني الأخبار، والفقيه مرة واحدة.
وقد وردت رواية (علي بن الحسين العبدي، عن سعد الإسكاف، عن الأصبغ بن نباتة) في الكافي(4)، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) في التهذيب(5)، وعن سليمان الأعمش في تفسير القمي(6)، وعن أبي هارون العبدي أيضاً في تفسير القمي(7)، ووردت رواية (علي
ص: 297
ابن الحسين أبي الحسن العبدي) عن (أبي هارون العبدي (ت 134ﻫ ) في شواهد التنزيل للحسكاني(1).
وقد ذكر الشيخ في رجاله(2) علي بن الحسن العبدي الكوفي، وكان السيّد الخوئي (قدس سره) يبني على وثاقته لوقوعه في تفسير القمي(3).
وعلى أي حال فلم نعثر - بحسب التتبع - في مصادر الفريقين على توثيق أو مدح للرجل؛ وعليه فلا يمكن إثبات انتسابها إلى جابر بن يزيد الجعفي.
وقد وردت مضامين أقوى في فضل سورة يس وغيرها وإن كان في الكلّ إعضال سندي.
ومع الغضّ عن المناقشة السّندية في هذه الروايات فإنَّ هذه المضامين يصعب قبولها إذا جمدنا على ظاهرها، من أنَّه يترتب بمجرد قراءة القرآن هكذا آثار.
هذا، وهذه المضامين اُبتليت بها المدرستان، وهي تنتمي إلى ظاهرة الوضع، قال عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري: (النوع الحادي والعشرون: معرفة الموضوع، وهو المختلق المصنوع... والواضعون للحديث أصناف وأعظمهم ضرراً قوم من المنسوبين إلى الزهد وضعوا الحديث احتساباً فيما زعموا فتقبل النّاس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركوناً إليهم... مثال: روينا عن أبي عصمة - وهو نوح بن أبي مريم - أنَّه قيل له من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: إنَّي رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمَّد بن إسحاق فوضعت هذه الأحاديث حسبة. وهكذا حال الحديث الطويل الذي يروى عن أُبي بن كعب عن
ص: 298
النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلّم) في فضل القرآن سورة فسورة، بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنَّه وجماعة وضعوه وإنَّ أثر الوضع لبيِّن عليه ولقد أخطأ الواحدي المفسِّر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم)(1).
قال النووي: (المسألة الرابعة: في بيان أصناف الكاذبين في الحديث وحكمهم، وقد نقّحها القاضي عياض... وهم أنواع منهم من يضع عليه ما لم يقله أصلاً: إمَّا ترافعاً واستخفافاً كالزنادقة وأشباههم ممّن لم يرجِ للدين وقاراً. وإمَّا حسبة بزعمهم وتديناً كجهلة المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب)(2).
ولقد كُذِبَ على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في حياته كما نقل لنا ذلك أمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله: (ولقد كُذِبَ على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على عهده حتى قام خطيباً فقال: "من كَذَب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار")(3). وفي الكافي زيادة: (ثم كذب عليه من بعده)(4).
وقد تواتر عند العامّة هذا الخبر بهذا اللفظ(5) أو بلفظ: (من قال عليّ ما لم أقل)(6)، أو بلفظ: (لا تكذبوا عليَّ، فإنَّه من يكذب عليَّ يلج النار)(7).
ص: 299
ومن الواضح أنَّ كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) يوثق أنَّ ظاهرة الوضع حدثت في عصر الرسالة، ولكن قطعاً لم يكونوا من الشّيعة؛ لأنَّ شيعة علي (علیه السلام) في ذلك العصر كانوا معروفين بالتقوى والدين والورع وصدق اللهجة والإخبات إلى الله تعالى.
وعليه فظاهرة الوضع عند العامّة أسبق منها عند الخاصّة، بل لا يبعد تأثّر ضعفاء الخاصّة في ما بعد بما عند العامّة من الموضوعات، وذلك لأنَّهم يرون أنَّ كل ما يرويه العامّة عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يجب أن يكون مثله أو زيادة مروياً أيضاً عن أئمة الهدى (علیهم السلام) على أساس أنَّ كل ما عند الناس عندهم لا يشذّ عنهم شيء وما إلى ذلك، فيتبرعون بجعل أحاديث على لسان أئمتنا (علیهم السلام) ويضعونها في كتب أصحابنا.
ويشهد على تأثّر الوضّاعين عند الخاصّة بما عند العامّة ما تقدّم آنفاً في ذكر فضائل بعض سور القرآن الكريم، فقد سبقنا العامّة في ذلك كما في أبي عصمة نوح بن أبي مريم(1) - حيث مرّ ذكره في ما نقلناه من كتاب مقدمة ابن الصلاح - الذي وضع على لسان عكرمة عن ابن عباس فضائل القرآن سورة سورة.
ص: 300
ومن أمثلة ما عند العامّة ما رواه أحمد في مسنده بإسناده عن عمر، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم: من قال في سوق لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، كتب الله له بها ألف ألف حسنة ومحا عنه بها ألف ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة)(1).
وروى نفس هذا الحديث الترمذي - مع بعض التقديم والتأخير - بنفس الإسناد، ولكن في آخره بدل (بنى له بيتاً في الجنة): (ورفع له ألف ألف درجة).
وعقّبه بقوله: (هذا حديث غريب)(2).
وروى الترمذي أيضاً بإسناده عن تميم الداري عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم أنَّه قال: (من قال أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولم يكن له كفواً أحد. عشر مرات كتب الله له أربعين ألف ألف حسنة).
وأيضاً عقّبه بقوله: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من هذا الوجه. والخليل بن مرة ليس بالقوي عند أصحاب الحديث. قال محمَّد بن إسماعيل [وهو البخاري]: هو
منكر الحديث)(3).
ص: 301
روى الطبراني بإسناده عن ميمونة (أنَّ رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم قام بين صف الرجال والنساء فقال: يا معشر النساء إذا سمعتن أذان هذا الحبشي وإقامته فقلن كما يقول؛ فإنَّ لَكُنّ بكل حرف ألف ألف درجة. قال عمر: هذا للنساء فماذا للرجال؟ قال: ضعفان يا عمر)(1).
وأيضاً روى الطبراني بإسناده عن عمر بن الخطاب قال: (قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم: القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف فمن قرأه صابراً محتسباً كان له بكل حرف زوجة من الحور العين).
قال الطبراني: (لا يُروى هذا الحديث عن عمر رضي الله عنه إلّا بهذا الإسناد. تفرّد به حفص بن ميسرة)(2).
وغير ذلك كثير، ومن ثَمَّ نرى أنَّ البخاري ومسلم لم يرويا أمثال هذه الروايات في صحيحيهما.
وتحقيق هذه الظاهرة وأسبابها ونتائجها موكول إلى محل آخر لا يسع المقام الخوض فيه.
7. ما رواه العياشي في تفسيره عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (إنَّ قابيل بن آدم معلّق بقرونه في عين الشمس، تدور به حيث دارت في زمهريرها وحميمها إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة صيّره الله إلى النّار)(3).
وهذا الحديث غريب ومنكر ومخالف مع الواقع الخارجي ببداهة أيضاً، إذ إنَّ الشمس لا زمهرير فيها وإنَّما هي كتلة من النّار، تبلغ درجة حرارة مركزها حوالي ستة
ص: 302
عشر مليون درجة مئوية، ودرجة حرارة السطح خمسة آلاف وخمسمائة درجة مئوية، ودرجة حرارة هالتها مليوني درجة مئوية.
ولا يثبت الحديث عن جابر من جهة الإرسال، ولا يظن إسناده إلّا ضعيفاً.
8. ما رواه النعماني في غيبته بقوله: حدّثنا أبو سليمان أحمد بن هوذة، قال: حدّثنا إبراهيم بن إسحاق النهاوندي، عن عبد الله بن حمّاد الأنصاري(1)، عن عمرو بن شمر، عن جابر، قال: (قال أبو جعفر (علیه السلام) : كيف تقرأون هذه السورة؟ قلتُ: وأية سورة؟ قال: سورة [سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ](2). فقال: ليس هو سأل سائل بعذاب واقع، إنَّما هو سال سيل وهي نار تقع في الثوية، ثُمَّ تمضي إلى كناسة بني أسد، ثُمَّ تمضي إلى ثقيف فلا تدع وتراً لآل محمَّد إلّا أحرقته)(3).
وهذه الرواية باطلة؛ لما فيها من وقوع التحريف في القرآن الكريم، مع أنّ اللفظ المذكور لا يشبه النسق القرآني، كما أنّ الإشارة بالآية إلى حدث يقع في الثوية بظهر الكوفة، بعيدٌ.
يضاف إلى ذلك أنّها ضعيفة..
ص: 303
أوَّلاً: بالإرسال بأكثر من واسطة - بحسب سند هذه الرواية وكتب الفهارس(1) - بين عبد الله بن حمّاد الأنصاري وعمرو بن شمر.
وثانياً: إنّ كلَّ رجال السّند - غير النعماني وجابر - غير موثقين، بل صرّح بضعف بعضهم واتهامه في دينه(2).
وفي رواية أخرى(3) أنّ هذا تأويل للآية. وهو أيضاً غريب.
هذا، وما ورد من كيفية قراءة هذه الآية بالرواية موجود في بعض كتب العامة..
ص: 304
قال ابن زمنين (ت 399ﻫ ) في تفسيره: (وكان بعضهم يقرؤها: "سال سيل" بغير همزٍ من باب السَّيْل، وقال: هو وادٍ من نارٍ يسيل)(1).
وصرّح بهذا البعض الزمخشري في كشافه بقوله: (وقرئ "سال سائل" وهو على وجهين: إمَّا أن يكون من السؤال وهي لغة قريش، يقولون: سلت تسأل، وهما يتسايلان، وأن يكون من السيلان، ويؤيده قراءة ابن عباس "سال سيل" والسيل مصدر في معنى السائل كالغور بمعنى الغائر، والمعنى: اندفع عليهم وادي عذاب فذهب بهم وأهلكهم)(2).
وكأنّ بعض الضعفاء أخذ هذه القراءة فجعل منها رواية تتعلق بعصر ما قبل الظهور.
9. ما رواه الطبري في دلائل الإمامة، قال أبو جعفر(3): (وحدّثنا أحمد بن منصور الرمادي(4) [ل. الرماني(5)]، قال: حدّثنا شاذان بن عمر(6) [ل. عمرو]، قال: حدّثنا مُرة
ص: 305
ابن قبيصة بن عبد الحميد(1)، قال: قال لي جابر بن يزيد الجعفي: رأيت مولاي الباقر (علیه السلام) وقد صنع فيلاً من طين فركبه وطار في الهواء حتى ذهب إلى مكة عليه ورجع، فلم أصدق ذلك منه حتى رأيت الباقر (علیه السلام) ، فقلت له: أخبرني جابر عنك بكذا وكذا، فصنع مثله وركب وحملني معه إلى مكة وردّني)(2).
والإعضال المتني في هذه الرواية هو أنّ علاءم الوضع واضحة عليها لا يمكن التصديق بصدورها من المعصوم (علیه السلام) .
وهذه الرواية أيضاً لا تثبت عن جابر..
أوَّلاً: من جهة الإرسال بين المؤلف والراوي الأوَّل (أحمد بن منصور الرمادي)، مع أنَّه عبّر ب-(حدّثنا)!!
وثانياً: برجال باقي السّند؛ إذ إنَّهم كلهم مهملين لا ذكر لهم في كتب الفهارس والرجال عند العامّة فضلاً عن الخاصّة.
وثالثاً: إنَّه بحسب ظاهر السّند لا يمكن أن يكون (مرة بن قبيصة) من الطبقة الرابعة التي أدركت الإمام الباقر (علیه السلام) وروت عنه. علماً أنّ الرجل (مرة) لم يقع إلّا في هذا الحديث.
10. ما رواه الكليني عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله عن بعض أصحابنا بلغ به جابر الجعفي، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (من لبس نعلاً صفراء لم يزل ينظر في سرور ما دامت عليه؛ لأنَّ الله عزّ وجلّ يقول: [صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ
ص: 306
وفي هذه الرواية غرابة وليس في الآية دلالة على المدعى.
هذا، وقد عقد الكليني (رضوان الله تعالی علیه) باباً بعنوان ألوان النّعال(3) أورد فيه سبعة أحاديث في هذا الموضوع، والأحاديث السّبعة كلّها معضلة سنداً: تارة من حيث الإرسال. وأخرى: من حيث اشتمالها على الضعفاء. وثالثة: من الجهتين معاً، وكانت حصة النّعال الأصفر منها أربعة أحاديث هي: الثّاني والخامس والسّادس والسّابع، والأخير منها موقوف على عبد الملك بن بحر صاحب اللؤلؤ.
ولا يبعد أنَّ هذا المضمون اقتبسه ضعفاء أصحابنا من ضعفاء العامّة الذين رووه موضوعاً عن علي (علیه السلام) وابن عباس ودسوه في كتبنا، ومن ثَمَّ لاحظنا أنَّ أسناد هذه الروايات مظلم..
1. روى الطبراني بإسناده عن ابن عباس قال: (من لبس نعلاً صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها)(4).
2. وأرسل الزيلعي: (عن علي ± من لبس نعلاً صفراء قلَّ همّه)(5).
قال الزيلعي: (قلت: غريب عن علي، ولم أجده إلّا عن ابن عباس رواه الطبراني في معجمه).
ص: 307
والحاصل من كلّ ما تقدم: أنَّه ليس هناك مضمون غريب تفرّد به جابر بن يزيد الجعفي بطريق صحيح إليه يمكن أن يكون قادحاً به، أو يمكن أن يقال: إنَّه مخلّط - كما قال النّجاشي (قدس سره) -، بل كما قال ابن الغضائري: إنَّ الآفة ليست في جابر الجعفي وإنَّما في من روى عنه.
ونضيف: أنَّ الآفة لا تنحصر بالذين رووا عن جابر مباشرة، بل تشمل الضعفاء في بعض الطبقات من بعدهم ممّن أرسلوا عنه، أو وضعوا أسانيد وهمية وأوصلوها إليه لتكون هذه الروايات مسندة عن المعصومين (علیهم السلام).
ويبدو أنّ سرّ نسبة ما وضعه الوضّاعون إلى طريق جابر أمور..
الأمر الأوَّل: إنّ جابراً عرف بأنّه صاحب سرّ الأئمة (علیهم السلام)، ولعلّ الرواية من طريقه تشير إلى أنّه من قبيل الأسرار الموجب لجاذبية الحديث من جهة. ودفع تهمة الوضع من جهةِ عدم كون الحديث معهوداً وغريباً لدى سائر الأصحاب من جهةٍ أخرى، فيدعى أنّ غرابته لكونه من الأسرار.
الأمر الثاني: إنّ جابراً عرف بأنّه روى أحاديث كثيرة لم ينشرها، ومن ثَمَّ يجد في نسبة الحديث إليه مجالاً أكثر للتصديق وادعاء كونه من الأسرار أيضاً.
الأمر الثالث: إنّ جملة من الأحاديث الموضوعة هي من قبيل الملاحم ونحوها، وهذا يناسب شخصية جابر.
الأمر الرابع: إنّ جابراً كان شخصية مشهورة جليلة ومعروفة بالقبول، وقد ذكر الإمام (علیه السلام) أنّه كان يصدق علينا، فيمكن تحميله ما لا يحتمله غيره.
الأمر الخامس: إنّ جابراً كان قد روى عن رجال العامة، فإذا قصد الواضع أن ينسب حديثاً من طريق العامة لغرض من الأغراض لتأكيد مضمونه، أو لكونه أخذ
ص: 308
الحديث من كتبهم رواه من طريق جابر.
الأمر السادس: إنّ جابراً عرف بالأعاجيب والغرائب ودفع عنه الأئمة (علیهم السلام) شبهة الكذب كما تقدّم في الأخبار المروية حوله.
والحاصل: أنَّ جابراً بن يزيد الجعفي ثقة، بل جليل بتعاضد الطرق الثّلاثة للتوثيق والتضعيف من الروايات المادحة له، وشهادات علماء الرجال، وسلامة ما ثبت عنه من الأخبار.
حال الرّجل عند العامّة:
لا يخفى أنَّ البحث عن موقف الجمهور..
تارة: لغرض تنقيح أنَّه هل يتحصّل منه ما ينفع في البحث الداخلي الرجالي لدى الإمامية؛ إذ قد يجعل توثيقهم لرجل خاصّة من الإمامية دليلاً على وثاقته، وطعنهم في أحد خاصّة إذا كان منهم دليلاً على ضعفه، والأوَّل يجري في المقام لتوثيق جماعة منهم لجابر. وأمَّا الثّاني فلا يجري لما يظهر من أنَّ الطعن عليه كان لعقيدته أو نحو ذلك لا لعدم استقامة أحاديثه، كما يشهد عليه قول أحد أركان مذهبهم ألا وهو أحمد ابن حنبل حيث قال: (لم يتكلم في جابر في حديثه إنّما تكلم فيه لرأيه)(1).
وأخرى: لغرض تنقيح البحث الداخلي لدى العامّة الذي ينفع في البحث المقارن المبني على مراعاة أصولهم، والأقرب وثاقة الرجل وفق هذا المنظور أيضاً.
هذا، وقد اختلف علماء العامّة ورجاليوها حول جابر بين موثق ومادح وبين مضعّف، ويظهر بملاحظة كلماتهم أنّ موجة التضعيف قويت تدريجاً حتى أصبح هو الموقف السّائد، ويمكن أن يكون الوجه في ذلك غلبة الجرح على التعديل بحسب رأي
ص: 309
جمهور الرجاليين، مضافاً إلى زيادة الحساسيات المذهبية، لاسيّما مع انعزال الفرق في بيئاتها العلمية الخاصّة بها.
ولما ذكرنا نذكر كلمات الفريقين بحسب طبقاتهم..
1. شعبة بن الحجّاج(1) (ت 160ﻫ ).
أ. ذكر ابن حنبل أنّ شعبة قال: (أمّا جابر الجعفي ومحمَّد بن إسحاق(2) فصدوقان في الحديث)(3).
ب. ذكر ابن أبي حاتم الرازي عن شعبة أنّه قال: (لا تنظروا إلى هؤلاء المجانين الذين يقعون في جابر [يعني: الجعفي] هل جاءكم عن أحد بشيء لم يلقه، [خ. ل: شيء لم يبلغه])(4).
ج. ذكر عبد الله بن عدي عن شعبة أنّه قال: (رأيت زكريا بن أبي زائدة يزاحمنا عند جابر، فقال لي الثّوري: نحن شباب هذا الشيخ ما يزاحمنا هاهنا!).
د. وذكر أيضاً عنه: (أنَّ جابراً لم يكن يكذب).
ﻫ. وذكر ابن عدي أيضاً بإسناده عن شعبة عن جابر، سمعت مجاهد يقول: (إنَّ
ص: 310
الله عزّ وجلّ لا يحب الفرحين الأشرين البطرين المرحين. فقال له رجل: يا أبا بسطام، جابر؟ فقال جابر: كان جابر إذا قال: حدّثنا وسمعت فهو من أوثق الناس)(1).
أ. قال عبد الرحمن بن مهدي: (سمعت سفيان الثّوري يقول: ما رأيت أورع من جابر الجعفي في الحديث).
ب. قال وكيع: (قال سفيان: ما رأيت رجلاً أورع [خ. ل في الحديث] من جابر الجعفي ولا منصور(2))(3).
ج. وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان: (كان جابر الجعفي ورعاً في الحديث، ما رأيت أورع منه في الحديث)(4).
د. قال سفيان الثّوري لشعبة: (لئن تكلمت في جابر الجعفي لأتكلمن فيك)(5).
أ. عن يحيى بن أبي كثير قال: كنّا عند زهير [يعني: ابن معاوية] فذكروا جابراً الجعفي، فقال زهير: (كان جابر إذا قال سمعت، أو سألت فهو من أصدق الناس)(6).
ص: 311
ب. عن أبي نعيم(1) قال: قال زهير: (إذا قال جابر سألت وسمعت فلا عليك أن لا تسمع من غيره)(2).
ج. قال ابن عبد البر: (وكان وكيع وزهير بن معاوية يوثقانه ويثنيان عليه)(3).
1. وكيع(4) (ت 197ﻫ ).
أ. قال أبو عيسى [وهو الترمذي نفسه]: سمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يقول: (لولا جابر الجعفي لكان أهل الكوفة بغير حديث)(5).
ب. ذكر ابن أبي حاتم أنّ وكيعاً قال: (مهما شككتم في شيء فلا تشكوا أنَّ جابر بن يزيد أبا محمَّد الجعفي، ثقة)(6).
ج. ذكر ابن عدي عن محمَّد بن أيوب عن محمَّد بن إبراهيم أنّه سمع وكيعاً يقول: (مَنْ يقول في جابر الجعفي بعدما أخذ عنه سفيان وشعبة!)(7).
ص: 312
2. يزيد بن هارون(1) (ت 206ﻫ ).
أ. ذكر ابن أبي حاتم عن أبي سعيد يحيى بن سعيد القطان قال: (سمعت يزيد بن هارون [يقول وهو] يحدّثنا بحديث شريك عن جابر الجعفي فقال: يحيى بن سعيد(2) وعبد الرحمن بن مهدي(3) لِمَ اسقطا جابر [الجعفي]! أما يخافان أن يأخذهما في القيامة فيقول لهما لِمَ اسقطتما عدلي؟)(4).
ب. ذكر الدارقطني بإسناده عن أبي داود [صاحب السنن المعروف] أنّه سمع أحمد ابن حنبل يقول: (لم يتكلم في جابر في حديثه، إنَّما تكلم فيه لرأيه)(1).
ابن عدي(2) (ت 365ﻫ ).
قال ابن عدي: (ولجابر حديث صالح، وقد روى عنه الثّوري الكثير وشعبة أقل رواية عنه من الثّوري، وحدّث عنه زهير وشريك وسفيان والحسن بن صالح وابن عيينة وأهل الكوفة وغيرهم، وقد احتمله الناس ورووا عنه، وعامّة ما قذفوه أنَّه كان يؤمن بالرجعة. وقد حدّث عنه الثّوري مقدار خمسين حديثاً ولم يتخلّف أحد في الرواية عنه، ولم أرَ له أحاديث جاوزت المقدار في الإنكار).
وختم ترجمته قائلاً: (وهو مع هذا كلّه أقرب إلى الضعف منه إلى الصدق)(3)!
من احتج بروايات جابر وأخرجها..
1. النعمان بن ثابت أبو حنيفة (ت150ﻫ )، فقد ذكر أبو نعيم الأصبهاني (ت430ﻫ ) في مسنده أنَّه روى عن جابر الجعفي(4). وأيضاً ذكر ابن حبان في صحيحه وابن حجر في فتحه والعيني في عمدته وغيرهم أنَّه عمل بحديث جابر الجعفي(5).
ص: 314
مضافاً إلى ذلك فقد أخرج أصحاب الصحاح والمسانيد والسّنن روايات عن جابر واحتجّوا بها كما مرّ تفصيل ذلك في المقام الأوَّل.
والمحصَّل من أخبار هؤلاء: أنَّ الرجل صادق في حديثه وإن فرض الغمز في رأيه. لا يكذب. لم يروِ عن أحد لم يلقه. درجة صدق الرجل ووثاقته: صدوق. أوثق الناس. أورع الناس. أصدق الناس. مهما شكّ في شيء فلا يشكّ في وثاقته، على حدّ منصور. المتكلم المتحامل عليه من المجانين. تكلم فيه لرأيه لا في حديثه. من تكلم فيه استحق أن يتكلم عليه بمثله ولو كان مثل شعبة. لولاه لكان أهل الكوفة بغير حديث.
2. سعيد بن جبير(1) (ت 95ﻫ ) وهو في طبقة مشايخ جابر..
روى العقيلي(2) بإسناده عن أيوب السختياني(3) قوله: (قلت لسعيد بن جبير: إنَّ جابر بن يزيد يقول كذا وكذا. فقال: كذب جابر)(4).
(حدّثنا سفيان، قال: النّاس يحملون عن جابر قبل أن يظهر ما أظهر، فلما أظهر ما أظهر اتّهمه الناس في حديثه وتركه بعض النّاس. فقيل له: وما أظهر؟ قال: الإيمان بالرجعة)(5).
2. أبو حنيفة(6) (ت 150ﻫ ).
ذكر ابن حبان عن أحمد بن أبي الجواري عن أبي يحيى الجماني أنّه سمع أبا حنيفة
ص: 316
يقول: (ولا لقيت فيمن لقيت، أكذب من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء قط من رأيي إلّا جاءني فيه بحديث [بأثر]، وزعم أنَّ عنده كذا وكذا ألف حديث(1) عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم لم ينطق بها [يظهرها])(2).
3. سلام بن أبي مطيع(3) (ت 164ﻫ ).
أحمد ابن حنبل عن إبراهيم بن زياد سبلان، قال: أخبرنا ابن عليّة، قال: أخبرنا سلام بن أبي مطيع، قال: (سمعت جابراً الجعفي يقول: إنَّ عندي خمسين ألف حديث ما حدّثت بها أحداً. فلقيت أيوب فأخبرته، فقال: كذب جابر)(4).
4. زائدة(5) (ت 161ﻫ ).
أ. عن ابن أبي شيبة قال: (قيل لزائدة: ثلاثة لا تروي عنهم: لِمَ لا تروي عنهم، ابن أبي ليلى، وجابر الجعفي، والكلبي؟ قال... وأمَّا جابر الجعفي فكان والله كذّاباً يؤمن بالرجعة)(6).
ب. عن يحيى بن يعلى قال: (سمعت زائدة يقول: جابر الجعفي رافضي يشتم أصحاب النبي (علیه السلام) وأمرنا زائدة أن نترك حديثه)(7).
ص: 317
5. جرير بن عبد الحميد(1) (ت 188ﻫ ).
أ. قال ابن عدي: كتب إلي ابن أيوب ثنا أبو غسان قال: سمعت جريراً يقول: (لقيت جابر الجعفي فلم أكتب عنه، لأنَّه كان يؤمن بالرجعة)(2).
ب. الخطيب بإسناده عن أبي غسان محمَّد بن عمرو زنيج أنّه قال: سمعت جريراً يقول: (ورأيت جابراً الجعفي ولم أكتب عنه شيئاً... أمَّا جابر فإنَّه كان يؤمن بالرجعة)(3).
6. سفيان بن عيينة(4) (ت 198ﻫ ).
أ. مسلم بإسناده عن سفيان، قال: سمعت رجلاً سأل جابر عن قوله: [فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ](5) قال جابر: لم يأتِ تأويل هذه الآية بعدُ. قال سفيان: وكذب. قال الحميدي: فقلنا لسفيان: وما أراد بهذا؟ فقال: إنَّ الرافضة تقول: إنَّ علياً في السّحاب فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي منادٍ من السماء. يريد أنَّ علياً ينادي من السّحاب اخرجوا مع فلان. يقول فهذا تأويل هذه الآية. وكذب، هذه كانت في إخوة يوسف)(6).
ص: 318
ب. العقيلي بإسناده عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة قال: أتيت جابر الجعفي فسمعت منه ذاك الكلام. يعني الإيمان بالرجعة)(1).
ج. ابن عدي عن شهاب أنّه سمع ابن عيينة يقول: تركت جابر الجعفي وما سمعت منه، قال: دعا رسولُ الله (صلى الله عليه [وآله] وسلّم) علياً يعلّمه ما يعلمه، ثم دعا عليٌ الحسنَ فعلّمه ما يعلم، ثم دعا الحسنُ الحسينَ فعلّمه ما يعلم، حتى بلغ جعفر بن محمَّد قال فتركته لذلك ولم أسمع منه)(2).
د. قال الحميدي: (سمعت ابن أكثم الخراساني(3) قال لسفيان: أرأيتَ يا أبا محمَّد
الذين عابوا على جابر الجعفي قوله حدّثني وصي الأوصياء، فقال سفيان: هذا أهونه)(4).
أ. ابن أبي حاتم قال (حدّثنا عبد الرحمن قال: سمعت أبي يقول: جابر الجعفي يكتب حديثه على الاعتبار ولا يحتج به)(1).
ب. قال الترمذي: (سُمِعَ محمَّد بن بشار يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ألا تعجبون من سفيان بن عيينة؟ لقد تركت لجابر الجعفي لقوله؛ لما حكي عنه أكثر من ألف حديث، ثم هو يحدّث عنه)(2).
ج. وعن المزي: (قال عمرو بن علي: كان عبد الرحمن يحدّثنا عنه قبل ذلك، ثم تركه).
د. وعن المزي أيضاً: (وقال أبو حاتم الرازي، عن أحمد ابن حنبل: تركه يحيى وعبد الرحمن)(3).
زائدة وكان جابر كذاباً)(1).
ج. وعن ابن عدي عن محمَّد بن علي المروزي عن عثمان بن سعيد الدارمي: (قلت ليحيى بن معين: فجابر الجعفي لِمَ يضعّف؟ قال: يضعفونه)(2).
ب. وأيضاً ذكر ابن حبّان في ترجمة جابر أنّه (كان سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول، إنَّ علياً (علیه السلام) يرجع إلى الدنيا)(1).
6. ابن عدي(2) (ت 365ﻫ ).
أ. قال في الكامل: (ولم أرَ له أحاديث جاوزت المقدار في الإنكار، وهو مع هذا كله أقرب إلى الضعف منه إلى الصدق)(3).
تنقسم الطعون في جابر إلى قسمين:
1. الطعن في صدقه بتعابير مختلفة شدّة وضعفاً مثل: كذّاب، فيه لين، يأتي في ما
ليس فيه حديث بحديث.
2. الطعن في عقيدته: بكونه سبئياً، إيمانه بالرجعة، كونه رافضياً يشتم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وراثة العلم، إثباته الوصاية للإمام الباقر (صلوات الله عليه)، غلوه في التشيع.
وقد تقدّم الكلام في المهمّ من هذا القسم في المقام الأوَّل، حيث بيّنا أنَّه لم يثبت كون الرجل سبئياً ولا غالياً، بل الثابت خلاف ذلك.
على أنّ الحديث في هذا القسم لا يتعلق بمحلّ الكلام، لأنَّه ليس قدحاً في الراوي بما هو راوٍ.
ص: 322
نعم، قد يجعل بطلان عقيدة الرجل أمارة على عدم التزام الشخص بالشريعة ممّا يشكل معه الوثوق به.
ولكن يلاحظ على ذلك، أوَّلاً: بانتقاضه بعدد من الرواة؛ إذ ذكروا فيهم بعض هذه الصفات ولم يقدحوا في وثاقتهم.
وثانياً: بالحلّ؛ بأنَّ المبتدع إذا كان مستنداً إلى تأويل أو شبهة لا يقتضي ذلك استساغته للكذب.
وثالثاً: إنَّ هذا المعنى إنَّما يتم في شأن بعض العقائد المذكورة عند مَن يرى في هذه العقائد ابتداعاً وضلالاً، ولا ينهض عند مَن لا يرى ذلك كالإمامية.
هذا، وقد يتجنب بعض أهل الحديث أحاديث أهل البدع لا لمكان الشكّ في صدقهم، بل خشية أن يكون ذلك ترويجاً لهم ولبدعهم، وهذا إنَّما يجوز إذا استغنى بحديث غيرهم في موضوع حديثهم كي لا يفوت شيء من الدين.
فالمهم الحديث في القسم الأوَّل لننظر في المطاعن المذكورة..
وهذا المضمون قدحه به أبو حنيفة وأيوب - كما مرّ - حيث نقل عنه الأوَّل أنَّ عنده ثلاثين ألف حديث، وذكر الثّاني أنَّ العدد خمسون ألف حديث.
وقد يؤيد بورود هذا المضمون عنه في آثار الإمامية فقد روى الكشي بقوله: (جبريل بن أحمد، حدّثني محمَّد بن عيسى، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي جميلة المفضّل بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: حدّثني أبو جعفر (علیه السلام) بسبعين ألف حديث لم أحدّث بها أحداً قط، ولا أحدّث بها أحداً أبداً، قال جابر: فقلت لأبي جعفر (علیه السلام) :
ص: 323
جعلت فداك إنَّك قد حمّلتني وقراً عظيماً بما حدّثتني به من سركم الذي لا أحدّث به أحداً، فربّما جاش في صدري حتى يأخذني منه شبه الجنون، قال: (يا جابر فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبّان فاحفر حفيرة ودل رأسك فيها، ثم قل: حدّثني محمَّد بن علي بكذا وكذا)(1).
وأورد هذا الحديث في كتاب الاختصاص المنسوب إلى الشيخ المفيد عن أبي غالب الزراري، عن محمَّد بن الحسن ]ابن الوليد]، عن محمَّد بن الحسن الصفار، عن محمَّد بن عيسى، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي جميلة المفضّل بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي(2).
وقد يجاب عن هذا الطعن بجوابين:
الأوَّل: أن يقال بعدم حصول الوثوق بصدور هذا القول من جابر أصلاً، فربما كان في هذا العدد مبالغة وتهويلاً.
وأمّا الحديث المتقدّم من طرق الإمامية فيمكن الخدش فيه سنداً ومتناً..
أمّا سنداً فمن جهة المفضّل بن صالح.
وأمّا متناً فلأنَّ الكليني نقل الحديث وفيه: (سبعين) بدل سبعين ألف(3) وهو ما رواه عن العدة، عن صالح بن أبي حماد [أبو الخير الرازي، واسم أبي الخير زاذويه، مجهول](4)، عن إسماعيل بن مهران [ابن أبي نصر السكوني، ثقة]، عمّن حدّثه، عن جابر
ص: 324
ابن يزيد قال: حدّثني محمَّد بن علي (علیهما السلام) سبعين حديثاً لم أحدّث بها أحداً قط ولا أحدّث بها أحداً أبداً، فلما مضى محمَّد بن علي (علیهما السلام) ثقلت على عنقي وضاق بها صدري فأتيت أبا عبد الله (علیه السلام) فقلت: جعلت فداك إنَّ أباك حدّثني سبعين حديثاً لم يخرج مني شيء منها، ولا يخرج شيء منها إلى أحد وأمرني بسترها، وقد ثقلت على عنقي وضاق بها صدري فما تأمرني؟ فقال: (يا جابر إذا ضاق بك من ذلك شيء فاخرج إلى الجبّانة واحتفر حفيرة ثم دل رأسك فيها وقل: حدّثني محمَّد بن علي بكذا وكذا ثُمّ طمّه، فإنَّ الأرض تستر عليك). قال جابر: ففعلت ذلك فخفّ عني ما كنت أجده(1).
ثمّ قال الشيخ الكليني: (عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران مثله).
وهذا الخبر ضعيف ب-(صالح بن أبي حماد) والإرسال.
هذا، ولا يبعد أن يكون الذي أرسل عنه إسماعيل بن مهران في نقل الكليني هو (أبو جميلة المفضّل بن صالح)؛ لأنَّ الطرق الأربع إلى الرواية - وهي طريقا الكليني وطريق الكشي وطريق الاختصاص - كلّها تنتهي إلى إسماعيل بن مهران، وتفرّع الطرق كان في طبقة تلامذته.
ص: 325
وكيف كان: فالشاهد في هذا الحديث أنّه يتضمّن (سبعين) وليس (سبعين ألف)، وبذلك يزول الوثوق باشتمال الحديث السابق على كلمة (ألف)، لاسيّما أنّ من القريب أن تكون رواية واحدة بعد ترجيح وحدة إسنادها على ما سبق، بل قد يرجّح نقل الكليني الخالي عن كلمة (ألف) على نقل الكشي والاختصاص المشتمل على ذلك؛ لأنَّ في نسخة رجال الكشي أغلاطاً(1)، وكتاب الاختصاص ليس مصدراً معتبراً.
فإن قيل: إنَّ جابراً الجعفي اختص بالإمام الباقر (علیه السلام) مدّة طويلة، ومن المستبعد جداً أنَّ مَنْ يلازم الإمام هكذا مدّة مديدة أن يختص بسبعين حديثاً فقط من الإمام ويأمره بأن لا يحدّث بها أحداً، وعليه فالمفروض أنَّ هنا نقصاً وهو كلمة (ألف).
قيل: إنَّ ذلك يندفع بملاحظة ما بثّه جابر عن الإمام الباقر (علیه السلام) من أحاديث، وأمَّا تلك الأحاديث التي أُمِرَ جابر بعدم بثّها فلعلّها من أسرار آل محمَّد (صلی الله علیه و آله و سلم) والتي لا يستطيع تحمّلها إلّا خواص الخواص، ومن ثَمَّ أُمِرَ أن لا يحدّث بها.
هذا، ولكن الإنصاف أنّ الأقرب اشتمال الرواية على كلمة (ألف)؛ فإنّه ذكر أنّه قد حمّله (وقراً عظيماً)، وفي كلمة الوقر وتوصيفه بالعظمة ما يدل على كثرته(2)، فإنّ العلم إنَّما يضيق بحامله إذا كان كثيراً وتعذّر بثّه على صاحبه، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) - في
ص: 326
كلامه المعروف - لكميل بن زياد: (إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً - وأَشَارَ بِيَدِه إِلَى صَدْرِه - لَوْ أَصَبْتُ لَه حَمَلَةً)(1).
الجواب الآخر: أن يقال بأنَّ هذا الكلام من جابر ناظر إلى ما سمعه من الأحاديث من الإمام الباقر (علیه السلام) ، وهو أمر لم يكن موجوداً لدى العامّة، ولا كان من الممكن نقلها لهم لعدم إذعانهم بذلك. وقد حكي عن غير واحد من تلامذة أئمة أهل البيت (علیهم السلام) أنَّهم سمعوا منهم أعداداً كبيرة من الأحاديث فعلى سبيل المثال..
1. ورد في ترجمة أبان بن تغلب بن رباح في رجال النجاشي بطريق معتبر عن أبان ابن عثمان عن أبي عبد الله (علیه السلام) : (إنَّ أبان بن تغلب روى عني ثلاثين ألف حديث. فأروها عنه)(2).
2. روى الكشي بقوله: (حدّثني حمدويه بن نصير [ثقة]، قال: حدّثنا محمَّد بن عيسى [ابن عبيد، ثقة]، عن ياسين الضرير البصري [مهمل](3)، عن حريز، عن محمَّد ابن مسلم، قال: (ما شجر في رأيي شيء قط إلّا سألت عنه أبا جعفر (علیه السلام) حتى سألته عن
ص: 327
ثلاثين ألف حديث، وسألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن ستة عشر ألف حديث)(1).
3. وعن محمَّد بن مسلم أيضاً أنَّه قال: (سمعت من أبي جعفر (علیه السلام) ثلاثين ألف حديث، ثم لقيت جعفراً ابنه فسمعت منه أو قال: سألته عن ستة عشر ألف حديث أو قال: مسألة)(2).
هذا، وكثرة تحمّل الروايات متعارف عند العامّة كثيراً، فقد نقل عن الأعمش أنَّه روى اثني عشر ألف حديث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة(3)، وقال عبيد الله بن عبيد الرحمن (ويقال: ابن عبد الرحمن) الأشجعي، أبو عبد الرحمن الكوفي (ت 182ﻫ ): سمعت من سفيان الثوري ثلاثين ألف حديث(4). وعن أحمد بن يحيى(5) قال: سمعت من عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي، مولاهم، أبو سعيد البصري القواريري (ت 235ﻫ ) مائة ألف حديث(6).
ويلاحظ أنّ الاتّهام بالكذب ناظر إلى أحد أمور ثلاثة:
ص: 328
1. أن يكون ناظراً إلى آرائه ومعتقداته وليس في ما كان ينقله من الحديث. قال الدارقطني: حدَّثنا محمَّد بن يحيى بن مرداس، نا أبو داود [صاحب السنن]، سمعت أحمد ابن حنبل يقول: (لم يتكلم في جابر في حديثه إنَّما تكلم فيه لرأيه)(1).
وقد يناقش فيما ذكر: بأنّ فساد عقيدة الرجل لا توجب اتّهامه بالكذب، بل توجب الحكم عليه بأنّه ضال ومبتدع، وقد يؤدي إلى سلب الوثوق به، وأمّا الكذب فلا.
ولكن يمكن الجواب عن ذلك: بأنّ اتّهامه بالكذب من جهة دعوى كون العقائد التي يذكرها - مثل إثبات الرجعة، أو الوصاية لأهل البيت (علیهم السلام) - ملفّقة من قبله فيكون كاذباً في إثباتها، أو يكون من جهة أنّه يروي تلك العقائد عن أهل البيت (علیهم السلام) فيكذب في نسبتها إليهم.
وأيّاً كان: فإذا كان وجه اتّهامه بالكذب هو عقيدته الموافقة مع اعتقاد الإمامية فيكون الطعن مبنائياً غير متوجه عند الإمامية.
2. أن يكون تكذيبه ناظراً إلى ادّعائه كثرة الأحاديث التي رواها عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على ما سبق نقله في الطعن السابق.
وهذا الاتّهام أيضاً مندفع لأنّه إنَّما يروي تلك الروايات من طريق أهل البيت (علیهم السلام) فيرتفع الاتّهام عند الإمامية الذين يرون أنّ أهل البيت كانوا ورثة علم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).
3. أن يكون ناظراً إلى نقله لأحاديث لا سبيل إلى تصديقها، كما تقدّم عن أبي حنيفة في تكذيبه له عندما كان يأتيه بشيء من رأيه فيحدّثه جابر بحديث في ذلك.
ويلاحظ على هذا الأمر: أنّ وجه عدم السبيل إلى تصديقه أحد أمرين:
أ. أنْ يكون قد روى تلك الأحاديث من طريق الإمام الباقر (علیه السلام) فتكون ممّا لم يألفه
ص: 329
العامة. فاتهموه، ومثل هذه التّهمة لا تصح عند الإمامية الذين ألِفوا آثار الأئمة (علیهم السلام) وفقههم.
ب. أنْ يكون من جهة إنكار تلك الأحاديث وغرابتها..
وقد عدّوا من الأحاديث المنكرة له ما يلي:
1. قال مسلم: (حدّثني سلمة بن شبيب، حدّثنا الحميدي، حدّثنا سفيان [ابن عيينة] قال: سمعت رجلاً سأل جابراً عن قوله عزّ وجلّ: [فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ](1): فقال جابر لم يجئ تأويل هذه. قال سفيان: وكذب، فقلنا لسفيان: وما أراد بهذا؟ فقال: إنَّ الرافضة تقول إنَّ علياً في السّحاب فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي منادٍ من السّماء. يريد أنَّ علياً ينادي من السّحاب اخرجوا مع فلان. يقول فهذا تأويل هذه الآية. وكذب، هذه كانت في إخوة يوسف)(2).
ويلاحظ على ذلك..
أوَّلاً: إنّ من المحتمل أن يكون هذا التوجيه حدساً من سفيان، ولعلّ نظر جابر كان إلى تأويل آخر، فتأمل.
وثانياً: إنَّ من المحتمل أن يكون جابر قد ذكر ذلك كتأويل للآية لا كتفسير لها، ولا ينافي ذلك الحفاظ على ظاهر الآية وهو نظرها إلى إخوة يوسف.
وثالثاً: إنَّ جابراً لم يورد ذلك حديثاً مرفوعاً إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حتى يكذّب فيه، فإن لم يصح تأويله كان خطأً لا كذباً.
ص: 330
هذا، والوارد من طرقنا في هذا المضمون هو ما رواه الصفار عن محمَّد بن الحسين [ابن أبي الخطاب]، عن [محمَّد] ابن سنان [مضعّف]، عن عمّار بن مروان [ثقة]، عن المنخّل [مضعّف]، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قال: (يا جابر هل لك من حمار يسير بك من المطلع إلى المغرب في يوم واحد؟ قال: قلت: يا أبا جعفر جعلني الله فداك وأنّى لي هذا؟ قال: فقال أبو جعفر (علیه السلام) : وذلك كان أمير المؤمنين (علیه السلام) ثم قال: ألم تسمع قول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في علي بن أبي طالب (علیه السلام) لتبلغن الأسباب، والله لتركبن السّحاب)(1).
وأيضاً روى الصفار عن أحمد بن الحسين [ابن سعيد الملقب ب-(دندان)، رماه القميون بالغلو]، عن أحمد بن إبراهيم، وأحمد بن زكريا [مهمل]، عن محمَّد بن نعيم [مهمل]، عن يزدان بن إبراهيم [مهمل]، عمّن حدّثه من أصحابه عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: (قال أمير المؤمنين: والله لقد أعطاني الله تبارك وتعالى تسعة أشياء لم يعطها أحد قبلي خلا محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم) لقد فتحت لي السّبل، وعلمت الأنساب، وأُجري لي السّحاب...)(2).
وقد عقد الصفار باب 15 في البصائر بعنوان: (باب في ركوب أمير المؤمنين (علیه السلام) السّحاب وترقيه في الأسباب والأفلاك)(3).
وهذه الروايات كلّها ضعيفة الإسناد ضعفاً شديداً، على أنّه لم يرد في شيء منها
ص: 331
تفسير الآية الواردة في إخوة يوسف (علیه السلام) بذلك.
وقد ذكر أبو عمرو الكشي (قال يحيى بن عبد الحميد الحماني في كتابه - المؤلف في إثبات إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) - قلت لشريك: إنّ أقواماً يزعمون أنّ جعفر بن محمَّد ضعيف في الحديث! فقال: أخبرك القصة: كان جعفر بن محمَّد رجلاً صالحاً مسلماً ورعاً، فاكتنفه قوم جهال يدخلون عليه ويخرجون من عنده ويقولون حدّثنا جعفر بن محمَّد، ويحدّثون بأحاديث كلها منكرات كذب موضوعة على جعفر... ذكروا أنّ جعفراً حدّثهم... وأنّ علياً (علیه السلام) في السحاب يطير مع الريح...)(1).
2. قال ابن عيينة: (تركت جابر الجعفي وما سمعت منه، قال: دعا رسولُ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) علياً يعلّمه ما يعلمه، ثم دعا عليٌ الحسنَ فعلّمه ما يعلم، ثم دعا الحسنُ الحسينَ فعلّمه ما يعلم، حتى بلغ جعفر بن محمَّد قال فتركته لذلك ولم أسمع منه)(2).
وتكذيب جابر في ذلك يبتني على مبنى العامّة في عدم الإقرار بوراثة أهل البيت (علیهم السلام) عِلم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا يرد عند الإمامية الذين رووا ذلك، وقد روى العامة أيضاً أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) علّم أمير المؤمنين (علیه السلام) ألف باب من العلم كل باب يفتح ألف باب(3).
قال العجلي (ت 261 ﻫ ): (جابر بن يزيد الجعفي... وكان يدلّس)(4). ولم أجد
ص: 332
- فيما تتبعت - أحداً رمى جابراً بالتدليس غير العجلي.
قال الخليل (ت 175ﻫ ): (دلّس: ودلّس في البيع وفي كل شيء إذا لم يبيّن له عيبه)(1).
وقال ابن الأنباري (ت 328ﻫ ): (وقولهم قد دلَّس فلان على فلان، قال أبو بكر: معناه: قد زوى عنه العيب الذي في متاعه، وستره عليه، كأنَّه أعطاه في ظلمة. وهو مأخوذ من الدّلس، والدّلس عندهم: الظلمة، يقال: فلان لا يدالس ولا يوالس، فيدالس معناه: لا يورّي، ولا يستر العيب على صاحبه)(2).
وأمَّا في الاصطلاح فقد قال الحاكم النيسابوري (ت 405ﻫ ): (المدلّسين الذين لا يميز مَنْ كتب عنهم بين ما سمعوه وما لم يسمعوه)(3).
وقال ابن عبد البر (ت 463ﻫ ): (وأمَّا التدليس فهو أن يحدّث الرجل عن الرجل قد لقيه وأدرك زمانه وأخذ عنه وسمع منه وحدّث عنه بما لم يسمعه منه، وإنَّما سمعه من غيره عنه ممّن ترضى حاله أو لا ترضى)(4).
وقال أيضاً: (وأمَّا التدليس فمعناه عند جماعة أهل العلم بالحديث أن يكون الرجل قد لقي شيخاً من شيوخه فسمع منه أحاديث لم يسمع غيرها منه، ثُمَّ أخبره بعض أصحابه ممّن يثق به عن ذلك الشيخ بأحاديث غير تلك التي سمع منه فيحدّث بها عن
ص: 333
الشّيخ دون أن يذكر صاحبه الذي حدّثه بها فيقول فيه (و) عن فلان يعني ذلك الشّيخ)(1).
ويمكن أن يجاب عن هذا الطعن بعدّة أجوبة..
الجواب الأوَّل: النقض بأنّ كثيراً من العلماء الثقات وأئمة الحديث قد وصفوا بالتدليس من غير أن يؤدي ذلك إلى الطعن فيهم.
وقد ألّف ابن حجر كتاباً في طبقات المدلّسين، وذكر فيه كبار التابعين وعلماءهم ممّن أجمعوا على وثاقتهم، ومع ذلك وصموا بالتدليس، فمن التابعين عمرو بن دينار، وعبد الله بن زيد الجرمي، وعبد الله بن عطاء الطائفي، ومن تابعي التابعين: أيوب بن أبي تميمة السختياني - وهو الذي نقل تكذيب سعيد بن جبير لجابر - والحسين بن واقد المروزي، وحفص بن غياث، ومن علمائهم المشهورين: أبو نعيم الأصبهاني، وعلي بن عمر بن مهدي الدارقطني، والفضل بن دكين من كبار شيوخ البخاري، بل نفس البخاري ذكروه في المدلسين، وكذلك مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح(2).
وأيضاً ذكر بعض مشايخ جابر وتلامذته من المدلّسين.
فمن مشايخ جابر: طاووس بن كيسان اليماني التابعي المشهور، ذكره الكرابيسي في المدلسين وقال: (أخذ كثيراً من علم ابن عباس، ثم كان بعد ذلك يرسل عن ابن عباس). وروى عن عائشة، فقال ابن معين: (لا أراه سمع منها). وقال أبو داود: (لا أعلمه سمع منها)(3).
وأمّا المدلّسون من تلامذته فنذكر أشهرهم:
1. سفيان بن سعيد الثّوري، وصفه النسائي وغيره بالتدليس، وقال البخاري: (ما
ص: 334
أقلّ تدليسه)(1).
2. سفيان بن عيينة الهلالي الكوفي ثم المكي الإمام المشهور فقيه الحجاز في زمانه كان يدلّس، لكن لا يدلّس إلّا عن ثقة، وادعى ابن حبّان بأنَّ ذلك كان خاصّاَ، ووصفه النّسائي وغيره بالتدليس(2).
ص: 335
الجواب الثاني: إنّ التدليس ينقسم عند المحدّثين إلى جائز ومذموم، وعليه فلا يكفي في الطعن على الرجل أن يكون مدلّساً، بل لا بُدَّ أن يثبت كون تدليسه من القسم المذموم.
قال ابن عبد البر: (وجملة تلخيص القول في التدليس الذي أجازه مَنْ أجازه من العلماء بالحديث هو: أن يحدّث الرجل عن شيخ قد لقيه وسمع منه بما لم يسمع منه وسمعه من غيره عنه فيوهم أنَّه سمعه من شيخه ذلك، وإنَّما سمعه من غيره أو من بعض أصحابه عنه ولا يكون ذلك إلّا عن ثقة، فإن دلّس عن غير ثقة فهو تدليس مذموم عند جماعة أهل الحديث، وكذلك إن دلّس عمّن لم يسمع منه فقد جاوز حدّ التدليس الذي رخص فيه مَنْ رخص من العلماء إلى ما ينكرونه ويذمونه ولا يحمدونه)(1).
الجواب الثالث: إنّ التدليس لا يوجب سقوط الوثوق بالرجل وإسقاط أحاديثه مطلقاً، بل يوجب تنزيل مسانيده التي تحتمل التدليس منزلة المراسيل. نعم، إذا كان تدليسه بصيغة تقتضي السماع كان ذلك كذباً لا تدليساً، فيوجب زوال الثقة به.
قال تقي الدين ابن دقيق العيد (ت 702ﻫ ): (السّابع عشر: التدليس وهو أن يروي الراوي حديثاً عمّن لم يسمعه منه، فإن كانت صيغة روايته تقتضي سماعه منه نصّاً فهذا كذب لا يسمّى بالتدليس، وإن لم يقتضِ ذلك نصّاً كما كان المتقدمون يقولون فلان عن فلان، ولا يقولون أخبرنا ولا حدّثنا، وكذلك إذا قال: قال فلان، أو روى فلان، أو غيرهما من الألفاظ التي لا تصرح باللقاء، فهذا هو التدليس)(2).
ص: 336
الجواب الرابع: إنّه لم يثبت لدينا كون جابر الجعفي من المدلّسين.
بيان ذلك: أنّ روايات جابر على قسمين:
الأوَّل: ما رواه عن الإمامين الباقر والصادق (علیهما السلام) وهذه الروايات ظاهراً مسندة لتلمذته عليهما، وهي ليست مظنّة لتدليسه، فقد روى عن الإمام الباقر (علیه السلام) ما يزيد على أربعمائة وخمسين رواية، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) ما يزيد على ثمانين رواية، وهي جلّ روايات الرجل. على أنّ أغلبها بصيغة السؤال، وهو لا يحتمل التدليس.
الآخر: ما رواه عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) والحسن والحسين وزين العابدين (علیهم السلام)، أو عن الصحابة والتابعين، وهذا القسم هو مظنّة التدليس الذي اتهم به.
وغالب أسانيد هذا القسم - الذي هو مظنّة التدليس - عاميّة، قد روى جابر مرسلاً عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) روايتين، وواحدة عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، وروى روايتين عن الإمام علي بن الحسين (علیهما السلام)، وروى عن جابر بن عبد الله الأنصاري مباشرة اثنتي عشرة رواية، وروايتين بتوسط أبي الزبير المكي، ورواية واحدة بتوسط أبي نصرة [أبي حمزة]، ورجل، وروى أربع روايات عن عبد الله بن نجي الحضرمي [الكندي]، وروى ثلاث روايات عن الشّعبي، وسعيد بن المسيب، ورواية واحدة عن كل من: أبي حمزة الثمالي، وأبي الطفيل، وشرحبيل بن سعد الأنباري، ومسافر، وعبد الأعلى، ومحمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن سابط، وإبراهيم القرشي، وتميم بن جذيم، وعكرمة، وسويد بن غفلة، ومجاهد، والهيثم بن عبد العزيز، وأرسل عن المسيب بن نجية رواية واحدة، ورفع رواية عن أبي مريم.
وهذا القسم - وهو ما كان عدم إدراك جابر لمن روى عنه واضحاً - لا يصدق فيه التدليس كما في روايته عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين والحسنين (علیهم السلام)، وقد تعدّ روايته عن
ص: 337
الإمام زين العابدين (علیه السلام) كذلك، وقد مرّ الكلام فيه في الجهة الخامسة من المقام الأوَّل. وما يمكن أن يكون مظنّة التدليس هو الباقي.
الجواب الخامس: إنّ سقوط روايات الرجل من مرتبة الأسناد المتصل بالتدليس إنَّما يكون فيما إذا كان تدليسه كثيراً، وأمّا إذا كان تدليسه قليلاً فلا تسقط رواياته عند المحدثين، ولم يثبت بتتبع روايات جابر تدليساً كثيراً عنه، ولعلّه لذلك لم يَذْكُرْ التدليس - في جملة المطاعن عليه - إلّا العجلي.
قال ابن عبد البر: (قال يعقوب(1): وسألت علي ابن المديني(2) عن الرجل يدلّس أيكون حجّة فيما لم يقل حدّثنا؟ فقال: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا حتى يقول حدّثنا)(3). أي إذا لم يكن الغالب عليه التدليس فيكون قوله حجّة.
قال الجوهري: (اللين: ضد الخشونة... تقول: هو في ليان من العيش، أي في نعيم وخفض... وتلين: تملق)(4).
ص: 338
وأمَّا اصطلاحاً فنقل الخطيب البغدادي عن الدارقطني أنَّه سُئل: (إذا قلت فلان ليّن أيش تريد به؟ قال: لا يكون ساقطاً متروك الحديث، ولكن مجروحاً بشيء لا يسقط عن العدالة... [وعن] علي بن محمَّد بن عمر القصار أخبرهم عنه وجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتّى... وإذا أجابوا في الرجل بلين الحديث فهو ممّن يكتب حديثه وينظر فيه اعتباراً)(1).
ومن ذلك يظهر أنّ اللين لا ينفي كون الرجل صادقاً، وإنَّما يعني أنّ لديه أخطاءً واشتباهات غير عمدية، ومن ثَمَّ لا يخرج عن حدود العدالة ويوصف بالصدق، بل ربما وصفوه بالثقة أيضاً. والظاهر أنّهم يريدون بالثقة في مثل ذلك الصدق.
ومن موارد توصيفهم الرجل بالصدق والوثاقة مع إثبات لين فيه ما يلي:
1. (حدّثنا عبد الرحمن قال: سئل أبو زرعة عن الحكم بن الأعرج، فقال: بصري ثقة. وقال مرة أخرى: فيه لين)(2).
2. (سعيد بن المرزبان أبو سعد البقّال الأعور مولى حذيفة ابن اليمان العبسي... حدّثنا عبد الرحمن(3) قال: سئل أبو زرعة عن أبي سعد البقّال، فقال: ليّن الحديث، مدلّس، قلت هو صدوق؟ قال: نعم كان لا يكذب)(4).
3. (كثير بن زيد الأسلمي وثقه ابن حبان وابن معين في رواية. وقال أبو زرعة:
ص: 339
صدوق فيه لين) (1).
4. (هارون بن مسلم قال أبو حاتم: فيه لين، ووثّقه الحاكم وابن حبان)(2).
5. (محمَّد بن أبي السري، وثّقه ابن حبان وابن معين وغيره، وفيه لين)(3).
6. (نعيم بن حكيم وثّقه ابن حبان وغيره، وفيه لين)(4).
7. (محمَّد بن مروان وهو ثقة، وفيه لين)(5).
8. (كثير بن حبيب وثّقه ابن أبي حاتم، وفيه لين)(6).
9. (طاهر بن خالد بن نزار وهو ثقة، وفيه لين)(7).
10. (أبو بلج الفزاري وهو ثقة، وفيه لين)(8).
وبذلك يظهر أنّ التوصيف باللين لا ينفي كون الرجل صادقاً، بل يعني وقوعه في الخطأ والاشتباه.
ومع ذلك يلاحظ على هذا المستوى من التضعيف أنّه لا يبعد أن يكون هذا الاتهام أيضاً مبنياً على عدم سلامة رواياته من منظورهم - وفق مبانيهم في أمر الإمامة والمعارف
ص: 340
والأحكام - ؛ لإنكارهم ما ورد في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام).
وينبّه على ذلك تضعيفهم لغير واحد من رواة الإمامية الذين عرفوا لديهم بالثقة، كأبي حمزة الثمالي، ورشيد الهجري وحبّة العرني، وما ذلك إلّا لانقطاعهم إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، قال الرازي: (ثابت بن أبي صفية أبو حمزة الثمالي كوفي مولى المهلب واسم أبي صفية دينار... أبو حمزة الثمالي ضعيف الحديث ليس بشيء. حدّثنا عبد الرحمن قال: قرأ عليَ العباس بن محمَّد الدوري عن يحيى بن معين قال: أبو حمزة الثمالي ليس بشيء. سمعت أبي يقول: أبو حمزة الثمالي ليّن الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به. سئل أبو زرعة(1) عن أبي حمزة ثابت ابن أبي صفية الثمالي فقال: كوفي ليّن)(2).
وقال أيضاً في ترجمة والده دينار: (دينار أبو سعيد عقيصاً كوفي تيمي روى عن علي ±... حدّثنا عبد الرحمن قال: سألت أبي عنه فقال: هو ليّن، وهو أحبّ إلي من أصبغ بن نباتة. حدّثنا عبد الرحمن، قال: قرأ عليَ العباسُ بن محمَّد الدوري عن يحيى بن معين أنَّه قال: أبو سعيد عقيصاً ليس بشيء، شرّ من رشيد الهجري وحبّة العرني وأصبغ ابن نباتة)(3).
والحاصل من جميع ما تقدّم: أنَّ جابر بن يزيد الجعفي ثقة حتّى على مباني العامّة وما قدحوه به لا ينهض على ذلك، وإنَّما جاء القدح لرأيه لا لحديثه، كما صرّح به أحمد ابن حنبل على ما سبق نقله.
ص: 341
هذا تمام ما أردنا ذكره في هذه الحلقة، ويأتي في العدد القادم - إن شاء الله تعالى - الحديث في الخاتمة وهي الراوي والمروي عنه من الفريقين.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على خير خلقه محمَّد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
* * *
ص: 342
جواب مسألتين
للفقيه الكبير
الشيخ أحمد آل كاشف الغطاء (قدس سره)
(1)
شمول الوصاية بالولاية لمن يتجدّد من الأولاد
مع وجود قرينة على التعميم
تحقيق: السيد علي البعاج
(2)
تعريف (الشهيد) بين التعميم والتقييد
تحقيق: الشيخ سعد الفهداوي
ص: 343
ص: 344
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على خير خلقه محمَّد وآله الطَّيّبين الطَّاهرين.
وبعد، فإنَّ فخر الأمم يرتكز على دعامتين رئيستين: أصالتها، وهويتها الحضارية المتجلّية بما أبدعه يراع مفكريها، وهذا ما امتازت به مدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، فقد سطّر علماؤها - شكر الله سعيهم - في جميع مجالات المعرفة الإنسانيّة أُلوف المصنّفات، ولمّا كانت مجلّة (دراسات علميّة) معنيّة بإخراج نفائس التّراث - إلى جانب الأبحاث التّخصّصيّة - إلى أنظار المهتمّين وجعلها في متناول أيديهم، عكفت في هذا العدد على إخراج مخطوطتين للمرحوم آية الله الشّيخ أحمد آل كاشف الغطاء (رضوان الله تعالی علیه)، وهما سؤالان موجّهان من بعض أهل الفضل في البحرين إلى مرجع الطَّائفة في عصره السَّيّد محمَّد كاظم اليزديّ (رضوان الله تعالی علیه)، الأوَّل في الوصاية بالولاية، والآخر في الشَّهيد، وقد تصدّى الشَّيخ أحمد (قدس سره) للجواب عنهما.
وقد طلبت مجلّة (دراسات علميّة) تحقيق جواب الأوَّل من فضيلة السَّيّد علي البعاج (دام عزه)، وتحقيق جواب الآخر من فضيلة الشَّيخ سعد الفهداوي (دام عزه)، وكتابة ترجمة للمسؤول والسَّائل والمجيب من فضيلة الشَّيخ محمّد الجعفري (دام عزه).
سائلين المولى عزّ وجلّ التَّوفيق لإخراج المزيد من التّراث التَّليد إنّه ولي التَّوفيق.
ص: 345
ص: 346
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربِّ العالمين حمداً يوافق رضاه, وأفضل الصَّلاة وأتمّ التّسليم على خير من اجتباه محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين.
وبعد: فإنّ واحدةً من أهم سمات الأوساط العلميّة الحيّة هو الاجتهاد الّذي يُعدُّ بمنزلة الروح من الجسد, حيث إنّه يُثري الفكر بالآراء, ويزيدها وضوحاً بتنقيح موضوعاتها، وبيان حدودها، وتقويم أُسسها. فالفقيه لا يكون فقيهاً حتّى يكون متقناً لجملةٍ من العلوم , مُضطلِعاً بارتكازات التّشريع، مُلمّاً بالمرتكزات العقلائيّة وحدودها، فشِيدتْ حواضرٌ عُرفت بهذه السّمة.
ومن تلك الحواضر العلميّة - الّتي يشهد لها التأريخ - النَّجف الأشرف متمثّلة بحوزتها العلميَّة المباركة, حيث كانت ولا زالت وستبقى موئل المجتهدين والفطاحل الّذين أوصلوا علمي الفقه والأُصول إلى مستويات عالية. وها هي تُفصح لنا عن درّتين من لآلئ مكنونات بحرها الزاخر، وهما بحثان فقهيّان استدلاليّان للفقيه الكبير آية الله الشَّيخ أحمد آل كاشف الغطاء (قدس سره) يكشفان عن دقّة تحليلٍ، وتتبّعٍ لأقوال السَّلف من الفقهاء (رضوان الله تعالی علیهم)، ولُطف قريحةٍ, وقبل عرضهما نضع بين يدي القارئ الكريم في هذه المقدّمة مطالب عدّة ضمن أبواب ثلاثة:
ص: 347
الباب الأوَّل: ترجمة المسؤول والسّائل والمجيب، وهم:
1. السَّيّد محمَّد كاظم اليزدي (رضوان الله تعالی علیه).
2. الشَّيخ أحمد آل حرز (رحمة الله).
3. الشَّيخ أحمد آل كاشف الغطاء (قدس سره).
الباب الثَّاني: التّعريف بالمسألتين.
الباب الثَّالث: ما يتعلّق بالتّحقيق:
1. النّسخة المعتمدة في التّحقيق.
2. عملنا في التّحقيق.
ص: 348
هو أحد أساطين المذهب، غنيّ عن التعريف إلّا أنّنا نقتصر على ما لا بُدَّ من ذكره في أمثال المقام، فنقول:
هو السَّيّد محمَّد كاظم ابن السَّيّد عبد العظيم الطباطبائي الحسني، اليزدي، النّجفي. ولد في قرية (كسنويّة) من قرى يزد عام 1247ﻫ (1).
درس المقدّمات في يزد، ثُمَّ سافر إلى مشهد المقدّسة وواصل دراسته فيها، ثُمَّ هاجر إلى أصفهان وتتلمذ فيها على كلٍّ من:
1. الشّيخ محمَّد باقر ابن الشّيخ محمَّد تقي صاحب الحاشية على المعالم (ت 1301ﻫ ) وحصل على إجازة منه(2).
2. السَّيّد محمَّد باقر الموسوي الخوانساري (ت 1313ﻫ ) صاحب (روضات الجنّات).
3. الميرزا محمَّد هاشم چهارسوقي (ت 1318ﻫ ) صاحب (مباني الأصول).
4. الشّيخ محمَّد جعفر بن محمَّد صفي الأصفهاني الآباده ئي، الملقّب بالفارسي (ت1280ﻫ )(3).
ص: 349
ثُمَّ هاجر إلى النّجف الأشرف عام 1281ﻫ، ولم يدرك درس الشّيخ الأعظم (رضوان الله تعالی علیه) فحضر عند كلّ من:
1. السَّيّد المجدّد الشّيرازي (ت 1312ﻫ ) إلى أنْ هاجر إلى سامراء وبقي، المترجَم له في النّجف.
2. الشّيخ راضي بن محمَّد بن محسن بن خضر، الجناجي، النّجفي، سبط الشّيخ جعفر كاشف الغطاء، وجدّ العائلة المعروفة في النّجف بآل الشّيخ راضي (ت 1290ﻫ ).
3. الشّيخ مهدي ابن الشّيخ علي ابن الشّيخ جعفر كاشف الغطاء الملقب بالجعفريّ (ت 1289ﻫ ).
تخرّج من تحت منبره الشّريف من ملأ الخافقين، أبرزهم - مضافاً إلى الشّيخ أحمد آل كاشف الغطاء -:
1. السَّيّد أبو الحسن ابن السَّيّد محمد الموسوي الأصفهاني (1284 - 1365ﻫ ).
2. المحقّق أغا ضياء الدين (علي) ابن المولى محمد العراقي (1278 - 1361ﻫ ).
3. السَّيّد حسين بن علي الطباطبائي البروجردي (1292 - 1380ﻫ ).
4. السَّيّد أغا حسين بن محمود بن محمد الطّباطبائي القمّي الحائري (1282 - 1366ﻫ ).
كانت بداية مرجعيته (رضوان الله تعالی علیه) بعد وفاة أستاذه المجدّد الشّيرازيّ سنة 1312ﻫ، ثمّ توسّعت مرجعيته شيئاً فشيئاً إلى عام 1327ﻫ حيث شملت معظم البلاد الإسلاميّة، ثُمَّ بعد وفاة المحقّق الآخوند الخرساني (قدس سره) (صاحب الكفاية) أصبحت مرجعيته مطلقة شملت جميع البلاد الإسلاميّة إلى حين وفاته.
ص: 350
للمترجَم (رضوان الله تعالی علیه) مصنفات كثيرة، أبرزها:
1. حاشيته على مكاسب الشّيخ الأعظم (رضوان الله تعالی علیه).
2. حاشيته على فرائد الأصول.
3. رسالة في منجزات المريض.
4. رسالة في اجتماع الأمر والنهي.
5. التّعادل والتّرجيح.
6. تكملة العروة الوثقى.
وهو من أهم مؤلفاته (رضوان الله تعالی علیه) ومن مفاخر المتون الفقهيّة، بل هو الأوَّل بلا منازع في المائة سنة الأخيرة، فكان ولا زال محط أنظار واهتمام الأعاظم، وينبئك عن ذلك:
أوَّلاً: كونه مدار البحوث العالية منذ تأليفه(1) إلى يومنا هذا.
وثانياً: تصدّي الأعلام لشرحه حتّى بلغت شروحه العشرات، ولم نقف - بحسب ما نعلم - على متن فقهي شرح بهذا الكم في هذه الأواخر.
وثالثاً: كثرة التّعاليق عليه حتّى جمع بعضها - أخيراً - في خمسة عشر مجلداً ضمّت بين دفتيها تعاليق لواحد وأربعين عَلَماً.
ص: 351
1. فتنة المشروطة والمستبدة التي كانت بدايتها عام 1323ﻫ - 1905م. ولم يبدِ فيها الرأي بالموافقة أو العدم، وسيأتي تفصيل ذلك في ترجمة الشّيخ أحمد كاشف الغطاء (قدس سره).
2. فتواه بالدفاع عن بلاد المسلمين ضد إيطاليا عند احتلالها ليبيا، وضد روسيا وإنكلترا عند مهاجمتهما لشمال وجنوب إيران في ذي الحجّة 1329ﻫ - تشرين الثاني 1911م(1).
3. فتواه بوجوب النّفير العام على كلّ متمكّن من الدّفاع عن العراق ضد الاحتلال البريطاني في محرم الحرام 1333ﻫ - كانون أوَّل 1914م(2).
وفاته: اعتلّ (رضوان الله تعالی علیه) في منتصف رجب سنة 1337ﻫ، ثمّ ازدادت علّته إلى أن لبّى داعي ربّه طلوع الفجر من يوم الثّلاثاء الثّامن والعشرين من رجب 1337ﻫ.
ص: 352
2. الشّيخ أحمد آل حرز (رحمة الله)(1):
هو الشّيخ أحمد بن عبد الرّضا بن حسين بن محمَّد بن عبد الله آل حرز الجزيري الجد حفصي البحراني، ولد في جزيرة (أُكُل) المعروفة ب-( النّبيه صالح) في البحرين في حدود عام 1268 هجرية، وكان فاضلاً ورعاً تقيّاً صالحاً.
درس المقدّمات في (لنجا) وبعد عشر سنين هاجر إلى العراق لإكمال دراسته، حيث قضى فيه ثمانية عشر عاماً، أقام في كربلاء المقدّسة سنوات عدّة، ثمّ انتقل إلى النّجف الأشرف - في عهد السَّيّد اليزدي - يستقي من نميرها إلى أن عاد إلى البحرين سنة 1317ﻫ ولم تنقطع العلاقة بينه وبين السَّيّد اليزدي حيث كان يرسل إليه ما يصله من الحقوق الشّرعية، كما لم تنقطع بينهما المراسيل، والسّؤالان اللذان بين أيدينا من مصاديق ذلك.
وبعد أن عاد إلى البحرين استقر في (جد حفص) يرشد النّاس ويؤمّهم جمعة وجماعة، كما وتولّى القضاء هناك نحو عشرين سنة، فكان محمود السّيرة طيّب السّريرة.
ومن أبرز مؤلّفاته رسالة في تقليد الميّت موسومة ب-(حباء الأحبّاء في تسوية النّصوص بين تقليد الأموات والأحياء).
وقد لبّى نداء ربّه ليلة الاثنين في العشرة الأخيرة من شهر محرّم الحرام سنة 1337ﻫ، ودُفن - بحسب وصيّته - في مقبرة جد حفص المعروفة ب-(مقبرة الإمام) جنوبي
ص: 353
المسجد المعروف ب-(مسجد الإمام), وقد قيل إنّ المقبرة المذكورة سُمّيت بذلك لدفن الشّيخ فيها، وإنّ المسجد سُمّيَ بذلك على حذف المُضاف، والتقدير: مسجد مقبرة الإمام.
ص: 354
هو الشّيخ أحمد ابن الشّيخ علي ابن الشّيخ محمَّد رضا ابن الشّيخ موسى ابن الشّيخ جعفر الكبير صاحب كتاب كشف الغطاء ابن الشّيخ خضر بن يحيى الجناجي النّجفي المالكي(1).
ولد (قدس سره) عام 1292ﻫ الموافق 1875م في النّجف الأشرف، ونشأ في هذا البيت التليد ومنذ صباه أشرفت على تربيته السَّيّدة الجليلة والدته، يقول الشّيخ محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء (قدس سره): كانت حريصة على تربيتي وأخي الذي يكبرني بسنتين - وهو المترجَم له (قدس سره) - ولم يكن لها يومئذ سوانا، فكان أكبر همّها تعليمنا، فلم يبلغ أحدنا الخمس إلّا وكان عند معلمة القرآن على ما كان الجاري آنذاك(2).
لا تتوفّر عندنا إحصائية بأساتذته في مرحلتي المقدّمات والسّطوح، ولكن ذكر الشّيخ محمَّد حرز الدّين أنّه هاجر إلى سامراء وأقام فيها سنين ثم رجع إلى النّجف(3)،
ص: 355
ونحن نذكر بعضهم نقلاً عن معاصره وزميله السَّيّد محسن الأمين العاملي (قدس سره) (1)، فقد حضر في مرحلة السّطح عند:
1. السَّيّد علي ابن السَّيّد محمود الأمين الشّقراوي (1276 - 1328ﻫ ) ابن عم السَّيّد محسن الأمين(2).
2. الشّيخ محمَّد باقر النّجم آبادي (ت 1343ﻫ ).
وأمّا في مرحلة البحث الخارج فقد حضر عند كلٍّ من:
1. الشّيخ محمَّد طه نجف النّجفي (1241 - 1323ﻫ ).
2. الشّيخ آغا رضا الهمداني صاحب (مصباح الفقيه) المتوفى في سامراء صبيحة يوم الأحد 28 صفر سنة 1322ﻫ، والمدفون برواق العسكريين (علیهما السلام) من جانب الرِجل.
3. الشّيخ محمَّد كاظم الهروي الخراساني المعروف ب-(الآخوند) صاحب الكفاية (1255 - 1329ﻫ )(3).
4. السَّيّد محمَّد كاظم الطّباطبائي اليزدي صاحب العروة (1247 - 1337ﻫ ) وقد اختصّ المترجَم به حتّى صار أحد أوصيائه وخلفه في مقام المرجعية(4).
5. الميرزا فتح الله ابن الحاج ميرزا جواد النّمازي الشّيرازي، المعروف ب-(شيخ الشّريعة الأصفهاني) (1266 - 1339ﻫ )(5).
ص: 356
6. الشّيخ جواد بن علي بن قاسم بن محمَّد بن أحمد آل محيي الدّين الحارثي، الهمداني، العاملي، النّجفي (حدود 1240 - 1322ﻫ )(1).
لا خلاف في علوّ المقام العلمي للمترجَم له في الجو العامّ للحوزة العلميّة في النّجف الأشرف، وقد أشاد بعلميّته أستاذه الأعظم - المختص به - السَّيّد اليزدي (رضوان الله تعالی علیه)، وكان (قدس سره) يجيب عن الاستفتاءات التي ترد على السَّيّد، بل كان السَّيّد (رضوان الله تعالی علیه) يُرجِع جميع المرافعات إليه وإلى أخيه الشّيخ محمَّد الحسين، يقول الشّيخ محمَّد الحسين (قدس سره): (وكان السَّيّد الأستاذ قد انحصرت الزّعامة الرّوحانية والمرجعية العظمى في ذلك العصر بشخصه الكريم، وله الحكم النّافذ، يُرجِع لأخي المرحوم - أعلى الله مقامه - ولي جميع المرافعات ويمضي حكمنا)(2).
وذكر في موسوعة طبقات الفقهاء أنّ السَّيّد اليزدي (رضوان الله تعالی علیه) كان يشيد بالشّيخ أحمد ويرشد النّاس إليه في أخذ الفتاوى والأحكام الشّرعية منه(3).
ويحدِّثنا الشّيخ آغا بزرگ الطهراني عن حضور شيخنا المترجَم له على الشّيخ آغا رضا الهمداني (رضوان الله تعالی علیه) بقوله: (وكنت أحضر بحثه أيّام اشتغاله بأبواب الزكاة، وأن يكتب مقدار صفحة في كل ليلة ويمليها على تلامذته في مجلس البحث، وأكثرهم الفضلاء، مثل... والشّيخ أحمد كاشف الغطاء... فكانوا ينتقدونه إلى أن يجتمع رأيهم على شيء فكان يغيّره تارة ولا يغيّره أخرى، لتماميته بنظره الشّريف وعدم ورود اعتراضاتهم
ص: 357
عليه)(1).
فالشّيخ أحمد كاشف الغطاء كان عالماً يذعن باجتهاده فحول المجتهدين بشهادة الأعلام من معاصريه، كما سيأتي نقله عن العلّامة الطّهراني (رحمة الله).
تصدى المترجَم له للمرجعية بعد وفاة أستاذه السَّيّد اليزدي (رضوان الله تعالی علیه) سنة 1337ﻫ.
قال في الموسوعة: (استقل المترجَم بالبحث والتّدريس وعلا شأنه وتصدى للمرجعية بعد وفاة السَّيّد اليزدي (سنة 1337ﻫ ) ورجع إليه في التّقليد طائفة من العراقيين والإيرانيين والأفغان)(2).
نذكر لمحة بسيطة عن عصر المترجَم له السّياسي، والعلمي..
أمّا عصره السّياسي فقد عاصر المترجَم له (قدس سره) أحداثاً مفصليّة في التاريخ أوَّلها كان فتنة المشروطة والمستبدة في إيران(3)، ووصول جمعية الاتّحاد والتّرقي إلى الحكم في الدّولة العثمانية وإعلانهم للدستور الجديد(4)، ثُمَّ قيام الحرب العالمية الأولى واحتلال
ص: 358
العراق من قبل بريطانيا بعد مقاومة شديدة من عشائر الوسط والجنوب إثر فتوى السَّيّد اليزدي (رضوان الله تعالی علیه) بالجهاد حتى أنّ السَّيّد أرسل أولاده إلى البصرة للمشاركة في الجهاد، وبقي الشّيخ أحمد إلى جانب السَّيّد في النّجف ليساعده على إدارة الأمور، ثُمَّ بعد تخاذل الجيش العثماني واحتلال العراق آثر السَّيّد عدم التّدخل في الشّؤون السّياسية؛ لعدم ثقته بنتائجها، ثُمَّ في عام (1918م) قامت ثورة النّجف وقتل الحاكم البريطاني مارشال، ثُمَّ بعد وفاة السَّيّد اليزدي (في أواخر رجب سنة 1337ﻫ المصادف نيسان 1919م) قامت الثّورة العراقية الكبرى - ثورة العشرين 1338ﻫ - بفتوى الميرزا محمَّد تقي الشّيرازي، والظّاهر أنَّ الشّيخ أحمد (قدس سره) لم يتدخل في تلك الثورة.
وأمّا عصره العلمي فكانت حوزة النّجف الأشرف في عنفوان ازدهارها العلمي حيث كان علم الأصول في قمة تطوّره بعد القفزة الهائلة التي أحدثها الشّيخ الأنصاري (رضوان الله تعالی علیه) فيه ومن بعده تلامذته وتلامذتهم حيث كان هناك السَّيّد المجدّد الشّيرازي (ت 1312ﻫ )، والمحقّق الرّشتي (ت 1313ﻫ )، والسَّيّد الفشاركي (ت 1316ﻫ )، والشّيخ هادي الطّهراني (ت 1321ﻫ )، والمحقّق الآخوند الخراساني (ت 1329ﻫ ) وغيرهم، وفي الفقه كان السَّيّد اليزدي (ت 1337ﻫ )، والميرزا حسين الخليلي (ت 1326ﻫ )، وآقا رضا الهمداني (ت 1322ﻫ )، وشيخ الشّريعة (ت 1339ﻫ ) وغيرهم، وفي الحديث والرّجال كان الميرزا حسين النوري (ت 1320ﻫ )، وفي الأخلاق الملا حسين قلي الهمداني (1239 - 1311ﻫ ). هذا في طبقة أساتذته.
وفي طبقة زملائه كان المحقّقون: النّائيني (ت 1355ﻫ )، والأصفهاني (ت 1361ﻫ )، والعراقي (ت 1361ﻫ )، والسَّيّد أبو الحسن الأصفهاني (ت 1365ﻫ )، والسَّيّد الفيرزآبادي (ت 1345ﻫ )، وشيخ علي حفيد صاحب الجواهر (ت1340ﻫ ) (قدس سرهم).
ص: 359
قال معاصره العلّامة الطّهراني (رحمة الله): (كان مجتهداً مسلَّماً، صدّق اجتهاده جملة من فحول المجتهدين)(1).
وقال معاصره الآخر السَّيّد محسن الأمين (رحمة الله): (كان عالماً محقِّقاً مدققاً فقيهاً، وكان كثير الجد والاجتهاد في طلب العلم ولم يزل مثابراً على ذلك كلّ أيام حياته، وتلمّذ كثيراً على الفقيه السَّيّد كاظم اليزدي واختصّ به في آخر الأمر وجعله السَّيّد أحد أوصيائه وصارت له رياسة بعد أستاذه المذكور وقلّده جماعة)(2).
وقال السَّيّد محمَّد مهدي الموسوي الأصفهاني الكاظمي (1319 - 1391ﻫ ): (كان (رحمة الله) عالماً فاضلاً، وفقيهاً كاملاً، ومجتهداً عادلاً، فهو كعبة العلوم التي تُشدُّ إليها الرحال، وبيت شرف المنطوق والمفهوم الذي يطوف به الرجال.
كان عمدة اشتغاله على الفقيه المحقّق الآقا رضا الهمداني (قدس سره) ثُمَّ حضر على شيخنا المحقّق الخراساني (رضوان الله تعالی علیه) إلى أن ظهرت فتنة المشروطة فانقطع في الحضور، وتخلّص في ملازمة سيّدنا العلّامة الطباطبائي صاحب العروة (رضوان الله تعالی علیه) وعليه تخرّج، وكان أحد أوصيائه على ماله، وكان سيّدنا المشار إليه يأمر الناس بالرجوع إليه ويرشدهم في أخذ الفتاوى والأحكام عنه، وكان يمضي في حياته أحكامه.
له مؤلفات جليلة ومصنفات جميلة في الفقه والأصول تشهد بعلو مقامه ووفور فضله وعلمه)(3).
ص: 360
وقال في فهرس التّراث: (ممّا قال شيخنا العلّامة - أي العلّامة الطّهراني (قدس سره) -: عالم فقيه ومجتهد كبير...)(1).
يظهر عمق علاقة المترجَم له بأستاذه السَّيّد اليزدي والارتباط الوثيق بينهما في فتنة المشروطة والمستبدة حيث كان مناصره وعضده والممثّل الرسمي له مع السّلطات الحاكمة آنذاك.
وفي هذه الفتنة انقسم المجتمع العامّ والعلمي في العراق وإيران إلى قسمين كل قسم يناصر فكرةً: فالمحقّق صاحب الكفاية (قدس سره) ومن وافقه وقفوا في جانب المشروطة، بل كانوا منظّرين لها. وأمَّا السَّيّد فقد اتّهم بأنّه يدعم المستبدة، ولكن مناصروه وأتباعه يقولون إنّ موقفه كان حياديّاً ولكن الطّرف الآخر فسّره أنّه (قدس سره) مع المستبدة، قال الشّيخ محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء (قدس سره): (أمّا السَّيّد كاظم فكان حياديّاً، ولكنّهم أصرّوا على أن يوافق - أي على المشروطة -، وأصرّ على الامتناع؛ بدعوى أنّه أمر مجهول العاقبة، ولا يسوغ لي الموافقة على أمر مجهول بل ربَّما كان يبوح ويقول: إنّه أمر لا يترتب عليه الضّرر والفساد ولكنّي لا أمنع ولا أوافق)(2).
وعلى أثر هذا الموقف من السَّيّد (قدس سره) تعرّض للتهديد والسّبّ حتى شهر قائمقام النّجف آنذاك المسدّس في وجه السَّيّد(3)، ويذكر الشّيخ محمَّد الحسين أنّه في هذه المرحلة
ص: 361
لم يبقَ مع السَّيّد (قدس سره) ناصر إلّا هو وأخوه المترجَم له (قدس سرهما) - حتّى سافرا إلى بغداد والتقيا بواليها هناك وأقنعاه - بعد إظهاره للشدّة والتهديد معهما - أنّهم - أي السَّيّد والأخوين (قدس سرهم) - لا يخرجون عن أحكام الدولة وقوانينها، وليس لهم الضغط على حريتهم بأن يدخلوا فيما لا يعرفون عاقبته، فقنع الوالي بذلك(1).
لا شكّ ولا ريب أنَّ متن العروة الوثقى في العصر الأخير هو المتن الفقهي الأوَّل من غير منازع، وقد امتاز هذا السِفر الجليل بسبك العبارة وروعة البيان وسلاسة الألفاظ، وقد اعتنى فقهاء الطائفة منذ صدوره وإلى الآن به، ومن ثَمَّ لا نجد فقيهاً إلّا وعلّق عليه أو شرحه، وهو بحقٍّ - كما قال الشّيخ محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء - من مفاخر الفقه الجعفري وآياته الزّاهرة في العصور المتأخّرة.
وأمّا علاقة الشّيخ أحمد (قدس سره) بالعروة فهي قد بدأت من أوَّل سطر فيه، حيث كان يعرض السَّيّد اليزدي (رضوان الله تعالی علیه) عليه وعلى أخيه ما كان يكتبه ويطلب منهما إصلاح ما وقع فيه من خلل أدبي أو علمي.
يحدِّثنا الشّيخ محمَّد الحسين عن ذلك بقوله: (قد كان السَّيّد الأستاذ (رضوان الله تعالی علیه) شرع فيه في السّنة الثّانية والعشرين بعد الألف والثلاثمائة، وكان كل يومين أو ثلاثة ينتهز من وقته المستغرق بأشغال المرجعية العظمى فرصة يحرّر فيها من هذا الكتاب الورقتين والثّلاث بخطه الدّقيق يدفعها لي ولأخي آية الله الشّيخ أحمد (تغمده الله برضوانه) لأجل إصلاح عبارته من حيث العربية، ورفع الرّكاكة أو التّعقيد، والنّظر في أدلّة
ص: 362
الفروع ومطابقة الفتوى للدليل؛ حذراً من أنّ مشغوليته العظمى أدخلت سهواً عليه في ذلك أو غفلة، ولا يعتمد على غيرنا في هذا الشّأن - كسائر مهمّاته وشؤونه من إرجاع المرافعات إلينا -...وكنّا نستفرغ الوسع ونسهر الليالي في إصلاح العبارات وجعلها بغاية الوضوح والسّلامة بحيث يفهمها حتى العاميّ والأميّ، كما ننظر أيضاً في المدارك والأدلّة ونتذاكر في كلِّ فرعٍ فرع مع أفاضل ذلك العصر في دارنا الكبرى - التي كانت مجتمع الأعلام والأعاظم - يومي الخميس والجمعة ومنهم الآيتان الحجّتان المرحوم ميرزا محمَّد حسين النّائيني - قبل أن يصير من المراجع - والشّيخ المحقّق وحيد عصره الأستاذ الشّيخ حسن الكربلائي (رضوان الله تعالی علیهما) (1) وبعد استفراغ الوسع وسدّ الفراغ نعود إليه (رضوان الله تعالی علیه) بما أصلحنا ونتذاكر معه في مجلس خاصّ، فربّما رجع إلى رأينا في الفتوى وربّما أصرّ واستمر على رأيه)(2).
ونُقل أنّ السَّيّد اليزدي (رضوان الله تعالی علیه) كلّف المترجَم له مع الشّيخ الآغا الميرزا رضي بن محمَّد حسن بن عبد الكريم الزنوزي التبريزي (قدس سرهما) (1294 - 1374ﻫ ) بتجديد النّظر في العروة(3).
بعد استيلاء الوهابية على أرض الحرمين واحتلالهم المدينة المنورة - في 19 جمادى الأولى 1344ﻫ الموافق الخامس من كانون الأوَّل 1925م - ومكّة المكرمة - في غرّة
ص: 363
جمادى الآخرة 1344ﻫ الموافق 17 كانون أوَّل 1925م - قامت زمر الوهابية بهدم قبور أئمة البقيع (علیهم السلام) وبقية قبور الصّحابة وزوجات النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في الثّامن من شوال 1344ﻫ، وبوقوع هذه الفاجعة توالت البرقيات من شيعة أهل البيت (علیهم السلام) في المدينة المنورة إلى عاصمة التشيع - النّجف الأشرف - وغيرها من المدن - ككربلاء والكاظمية وبغداد والبصرة - طلباً للاستغاثة والعون والوقوف بوجه تمادي هذه الطغمة، وبدورهم قام مراجع وعلماء النّجف - وبقية المدن - باستنهاض المسلمين للوقوف بوجه هذه الزمر وتماديها في هتك مقدساتهم، ومن العلماء الذين تصدوا لذلك المترجَم له حيث بعث ببرقيات إلى مختلف الشّخصيات المؤثرة آنذاك من ملوك وعلماء وشخصيات إسلامية لاستنهاضهم للوقوف بوجه هذه الفئة والدّفاع عن المقدسات، وقد وجد المترجَم له تجاوباً معه في هذا المنحى - وقد قامت الحكومات آنذاك بالتّنديد بما تفعله زمرة الوهابية بمقدسات ومشاعر المسلمين - من ثَمَّ بعث رسائل أخرى يشكرهم على ما أبدوه من الوقوف ضد الهجمة الوهابية على الحرمين الشّريفين ومساندتهم له وأنّه ينتظر البشارة بقمع هذه الفئة الباغية.
ومن هذه الشّخصيات: ملك مصر، مفتي الديار المصرية، شيخ الجامع الأزهر وعلماؤه، ملك أفغانستان، ملك الحجاز، رئيس المجلس النيابي في بغداد، جمعية الخلافة الإسلامية العظمى في بومباي(1).
وهي ورقتان، كتب الأخرى بعد ثلاثة أيام من الأولى، واحتوت الأولى معاملات ثلاث: صلح ووقف ووصيّة، وكان من ضمن الوصيّة أن تطبع تكملة العروة الوثقى،
ص: 364
وجاء في وصيته (رضوان الله تعالی علیه): (وقد جعلت الأوصياء عني على تنفيذ تلك الأمور وعلى إبراء ذمّتي وقضاء ديوني وأداء الحقوق التي عليّ واستيفاء الديون التي لي على النّاس بموجب السّندات التي باسمي وغيرها عن الحقوق الشّرعية وغيرها: جناب الشّيخ أحمد آل كاشف الغطاء، وأخاه الشّيخ محمَّد حسين، والحاج ميرزا محمَّد أغا الهندي التبريزي، والشّيخ علي المازندراني - دام تأييدهم -، وجعلت لهؤلاء الأوصياء النّظارة على تلك الأوقاف جميعاً وعلى المتولي عليها - إلى أن قال - وعلى فرض حصول الاختلاف فالعمل على رأي الشّيخ أحمد وأخيه الشّيخ محمَّد حسين - أدام الله تأييدهما -).
ثم وقّع السَّيّد (رضوان الله تعالی علیه) بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم جميع ما في الورقة صحيح. الأحقر محمَّد كاظم الطباطبائي في 17 رجب سنة 1337). الختم الشّريف.
الشّهود: كليدار الرّوضة الحيدرية. السَّيّد هاشم السَّيّد محمَّد زيني. محمَّد رؤوف شلاش. الحاج حسين البهبهاني(1).
وقال في الأخرى: (وتصرفاتهم بعدي نافذة مقبولة في أموري على حسب ما ينظر في هذه الورقة وسابقتها... وقد وكلّت الأوصياء المزبورين وكالة مطلقة وفوّضتهم على جميع ما يعود لي ولورثتي وما بيدي ممّا يرجع إلى أمور المسلمين من الولاية على الأوقاف وعلى الصغار وغير ذلك ممّا يرجع إلى حكّام الشرع الحنيف).
ختم: محمَّد كاظم الطباطبائي. حرّرت في يوم 20 رجب 1337(2).
ص: 365
1. أحسن الحديث في الوصايا والمواريث. طبع في المطبعة العلوية بالنّجف الأشرف سنة 1341ﻫ.
2. قلائد الدّرر في مناسك من حج واعتمر. طبع سنة 1343ﻫ. وطبع بعد وفاته في المطبعة العلميّة بالنّجف الأشرف (1367ﻫ - 1948م).
3. سفينة النّجاة ومشكاة الهدى ومصباح السّعادات: رسالة عمليّة، في جزئين، الجزء الأوَّل في العبادات، والثّاني في العقود والإيقاعات، طبع الجزء الأوَّل في النّجف على الحروف في المطبعة الحيدرية سنة 1338ﻫ، وطبع الجزء الثّاني في المطبعة المسطورة في نفس السّنة، وقد ترجمها بعض طلاب مجلس درسه إلى الفارسية وسمّاها (عين الحياة في ترجمة سفينة النّجاة)، طبعت التّرجمة في بومباي على الحجر في جزأين سنة 1340ﻫ (1). وقد طبعت هذه الرّسالة مرة أخرى بعد وفاة المؤلف في سنة 1364ﻫ بحواشي أخيه الشّيخ محمَّد حسين آل كاشف الغطاء (ت 1374ﻫ )(2).
وقد قامت مكتبة الإمام الشّيخ محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء العامّة بإعادة نشره مرّة ثالثة بأربع مجلدات عام (1423 - 2002م).
وعند صدور هذه الرّسالة كتب الشّيخ مهدي الحجّار هذين البيتين:
يا أحمد الفضل الذي أخلصته *** ودّي ليسعدني على حاجاتي
أنا قد غرقت ببحر علمك والندى *** فابعث إليَّ سفينة لنجاتي
ص: 366
4. الحاشية على فرائد الأصول: رآها الشّيخ آغا بزرگ عند الشّيخ علي ابن الشّيخ محمَّد رضا ابن الشّيخ هادي آل كاشف الغطاء(1).
5. حاشية على العروة الوثقى، أدرج أوائلها أخوه الشّيخ محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء في حاشيته على العروة المطبوعة في النّجف الأشرف 1367ﻫ (2).
قال عنها في خاتمة تعليقته على العروة: (أمّا تعاليقنا هذه عليه فقد كان الأخ المرحوم (قدس سره) علّق بخطه على هامش نسخته حواشٍ كثيرة من أوَّل الكتاب إلى أوائل الزكاة، ويظهر أنّها كانت بصورة مستعجلة لم يعد النّظر فيها، مع عظيم ما فيها من التّحقيقات المبتكرة التي لم يسبقهُ إليها سابق، وقد أدرجنا في حواشينا هذه منها ما يوافق رأينا مع بعض الإيضاح والإصلاح)(3).
وقال أيضاً: من أراد أنْ يعرف فقاهة الشّيخ أحمد فلينظر إلى سفينة النّجاة وتعليقته على العروة الوثقى(4).
6. زاد المتّقين على ذخيرة الصّالحين، تعليقة على كتاب ذخيرة الصّالحين من فتاوى السَّيّد اليزدي (قدس سره) طبعت في دار السّلام في بغداد سنة 1337ﻫ.
7. نيل المطالب لتحصيل المكاسب، وهي تعليقة على مكاسب الشّيخ الأعظم (قدس سره) وقد سمّاها بهذا الاسم الشّيخ شمس الدّين بن نجم الدّين الزّنجاني(5)، طبع في طهران، مطبعة الحيدري.
ص: 367
1. الشّيخ إبراهيم ابن الشّيخ مهدي ابن الشّيخ محمَّد ابن الشّيخ حسين ابن الشّيخ محمَّد ابن الشّيخ أحمد أطيمش النجفي (1292 - 1360ﻫ )(1).
2. الشّيخ حبيب بن محمَّد بن حسن بن إبراهيم المهاجر العاملي (1304 - 1384ﻫ )(2).
3. السَّيّد حسن بن محمود بن علي بن محمَّد (الأمين) ابن موسى الحسيني، العاملي الشّقرائي (1299 - 1368ﻫ )(3).
4. السَّيّد شريف بن يوسف بن جواد بن إسماعيل بن محمَّد آل شرف الدّين الموسوي، العاملي الشّحوري (1298 - 1335ﻫ )(4)، أخو العلّامة السَّيّد عبد الحسين شرف الدّين صاحب المراجعات.
5. السَّيّد شهاب الدّين محمَّد حسين ابن السَّيّد محمود ابن شرف الدّين علي الحسيني المرعشي النّجفي (1318 - 1411ﻫ )(5).
6. السَّيّد صدر الدّين فضل الله ابن السَّيّد محمَّد أمين (1302 - 1360ﻫ )(6).
7. السَّيّد عيسى ابن السَّيّد حمد كمال الدين (1286 - 1372ﻫ )(7).
ص: 368
8. الشّيخ قاسم ابن الشّيخ حسن محيي الدين (1314 - 1376ﻫ )(1).
9. الشّيخ كاتب بن راضي بن علي بن الحسين الأسدي الطّريحي (1305 - 1388ﻫ )(2).
10. السَّيّد محمَّد جواد ابن السَّيّد محسن الغريفي الشّهير بالصّائغ (1308 - 1394ﻫ )(3).
11. الشّيخ محمَّد بن الحسين بن مهدي المهدوي السّعيدي اللاهيجي (1317 - 1403ﻫ )(4).
12. السَّيّد محمَّد علي ابن السَّيّد محسن بن محمَّد بن علي بن إسماعيل الموسوي الغريفي (1304 - 1368ﻫ )(5).
13. الشّيخ محمَّد علي نعمة بن يحيى بن عطوي بن يحيى بن حسين بن علي بن عبد الله بن علي بن نعمة المشطوب (1299 - 1381ﻫ )(6).
14. الشّيخ محمود بن محمَّد حسن الدوزدوزاني التبريزي (1312 - 1369ﻫ )(7).
15. السَّيّد محمود ابن السَّيد مهدي الطّباطبائي الحكيم (1298 - 1375ﻫ )(8)
ص: 369
شقيق السَّيّد محسن الحكيم.
16. الشّيخ مهدي بن داود الحجّار ابن سلمان بن إسماعيل (1322 - 1358ﻫ )(1).
17. الشّيخ مهدي بن صحن بن عبد علي بن زامل بن جنزيل السّاعدي الشّهير ب-(صْحَيْن) (1296ﻫ / 1875م - 1382ﻫ / 1962م)(2).
18. السَّيّد مهدي ابن السَّيّد علي ابن السَّيّد محمَّد ابن السَّيّد إسماعيل ابن السَّيّد محمَّد الغياث الغريفي (1301 - 1343ﻫ )(3).
19. الشّيخ موسى بن عمران بن أحمد بن عبد الحسين آل دعيبل الخفاجي، النّجفي (1297 - 1387ﻫ )(4).
20. الشّيخ موسى بن محسن بن علي بن حسين بن محمَّد العصامي، النّجفي (1305 - 1355ﻫ )(5).
21. الشّيخ يعقوب علي السرخه ديزجي الزنجاني (1303 - 1365ﻫ )(6).
له ولأخيه الشّيخ محمَّد الحسين إجازة رواية من الشّيخ الميرزا حسين بن خليل
ص: 370
الرّازي(1)، وهذا نصّها:
(وبعد، فإنّ أولادي الأعزّة الكرام أحفاد الأساطين العظام أصحاب المراتب القدسيّة، وأرباب الملكات النّفسيّة، المجدّين في تحصيل العلوم الشّرعيّة، والحائزين حظاً وافراً من مراتبها العليّة: أعني بهم الأخوين العالمين، الفاضلين، الأورعين، الكاملين، قرّتي عين العلم والكمال، وكوكبي سماء السّعد والإقبال، الفائتين مجداً، والفائقين جدّاً، التّقيين، النّقيين: الشّيخ أحمد والشّيخ محمَّد حسين... قد استجازوني - وفقهم الله جميعاً - ووجدتهم أهلاً لذلك فأجزت لهم جميع مقروءاتي ومسموعاتي من الرّوايات وغيرها وجميع ما رويته بإسنادي المتّصل إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمّة (علیهم السلام) بأصحّ طرقي وأوثقها...)(2).
وقد ذكر هذه الإجازة العلّامة الطّهراني في الذّريعة وتاريخها 1325ﻫ (3).
1. محمَّد (1904م)، لم يعقب، له مخطوطات في مكتبة الإمام محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء العامّة.
ص: 371
2. الأستاذ عباس (1333 - 1420ﻫ ) (1914 - 2000م) أرسلته الدّولة العراقيّة لدراسة التّاريخ في ألمانيا عام (1936 - 1937م)، ولكنّه بعد إكمال اللّغة حوّل دراسته إلى الاقتصاد ولم يكمل دراسته لظروف الحرب إذ رجع إلى بغداد بعد نشوب الحرب العالميّة الثّانية 1939م، ثمّ بعد ذلك أُرسل إلى سويسرا لإكمال دراسته في جامعة (سان گالن).
وهو اقتصاديّ معروف، أسّس فرع البنك اللّبناني المتّحد في بغداد عام 1954م.
سجن لثلاث سنوات إبّان العهد الملكي لنشاطه السّياسي، وافاه الأجل في مصر ودفن هناك.
لهُ ولدان..
أ. الدّكتور فاضل (1950م) مقيم في لندن.
ب. الدّكتور أحمد (1958م) مقيم في أميركا(1).
وللأستاذ عباس مكتبة نفيسة ورثها من أبيه، أهدتها ذريته إلى مكتبة الإمام كاشف الغطاء العامّة.
3. الأستاذ نوري (1916 - 1991م).
4. الدّكتور باقر (1338 - 1412ﻫ ) (1920 - 1993م)(2) خريج الجامعة الأميركية في بيروت قسم الهندسة المدنيّة عام 1943م، حصل على الماجستير من جامعة
ص: 372
كاليفورنيا (بركلي) في هندسة الرّي عام 1947م، وحصل على شهادة الدّكتوراه من جامعة (لوكان) الأميركية عام 1951م، يعتبر عالماً في اختصاصه، حاصل على وسام الإنقاذ عام 1954م لمساهمته في إنقاذ بغداد من الغرق، له عدَّة مؤلّفات في اختصاصه، وهو أيضاً شاعر وكاتب في غير اختصاصه، وله مجموعة مخطوطة(1).
تبرَّع ورثته بمكتبته العامرة إلى مكتبة الإمام كاشف الغطاء العامّة في النّجف الأشرف.
عرض للشيخ أحمد (قدس سره) مرض في الأمعاء، ومع عدم وجود الطّبيب البارع للتشخيص والعلاج ساءت حالته حتى احتجب عن النّاس وانقطع عن الدّرس، وفي بدايات شهر ذي الحجّة سافر إلى بغداد للاستجمام والعلاج، ولكن حالته ساءت ولم يمهله الأجل فانتقل إلى الرّفيق الأعلى في اليوم العشرين من ذي الحجّة عام 1344ﻫ المصادف 1925م.
وتمّ تغسيله وتكفينه في كربلاء المقدَّسة، ثُمَّ توجَّه الموكب الجنائزي الكبير إلى النّجف الأشرف واستقبل من قبل العلماء والفضلاء وعامَّة النّاس استقبالاً مهيباً، وأقيمت الصّلاة عليه في الصّحن الشّريف بإمامة أخيه الشّيخ محمَّد الحسين، ثُمَّ وُرِّي الثّرى في مقبرة العائلة في محلَّة العمارة في النّجف الأشرف(2).
وقد أقيمت على روحه الطاهرة مجالس الفاتحة في العراق، وعطّلت الحكومة
ص: 373
يومذاك الدّوام حداداً على الفقيد، وبُعثت إلى أخيه الشّيخ محمَّد الحسين رسائل التّعزية، ومن تلك الرّسائل رسالة السَّيّد عبد الحسين شرف الدّين (قدس سره)، وقد جاء فيها هذه الأبيات..
ومَنْ يَردُّ جحفل الغي إذا *** سدّ الفضا وازدلفت بنودهُ
ومَنْ يروي مجدب العامّ إذا *** ما جفّ من ماء النّوال عودهُ
فليستحل نور الصّباح ظلمة *** فقد توارى في الثرى عمودهُ(1)
ص: 374
تُعدُّ مسألة الوصاية بالولاية - وهي التسليط على طفل أو مجنون - من المسائل الابتلائية في الجملة، ولذا لم تخلُ منها كتب الفقهاء الاستدلاليّة والفتوائيّة على حدٍّ سواء. نعم، لم يُفْرَد لها بابٌ مستقلٌ في كتب القدماء، وإنّما ذُكرت في ضمن مسائل الوصيّة لاسيّما عند ذكر شرائط الوصي. وأول من خصّها بعنوان مستقل - حسب ما عثرنا عليه - هو الشّهيد الأول (قدس سره) في الدروس بعنوان (كتاب الوصاية)، وإنْ جعلها بعنوان (الفصل) في اللّمعة، وتبعه جملةٌ ممّن تأخّر عنه.
وكيف ما كان، بالرغم من كون المسألة مذكورةً في بطون الكتب إلّا أنّه يبدو - بحسب تتبّعنا - لم يُتطرّق الى خصوص صورة الوصاية بالولاية على منْ يتجدّد من الأولاد - وهي المسألة التي عالجتها هذه الرسالة - ورُبّما لأجل ذلك استغرب السائل من جواب السَّيّد اليزدي (رضوان الله تعالی علیه) كما سيتّضح.
نعم، يظهر من المحقّق الكركيّ (قدس سره) في جامع المقاصد التعرّض لها إجمالا - كما ستعرف -، ولذا يمكن عدّ هذه الرسالة أوّلُ رسالة مستقلة مفصّلة في الوصاية بالولاية على من يتجدّد من الأولاد.
والرسالة عبارة عن سؤالٍ ورد إلى مرجع الطائفة آنذاك السَّيّد اليزدي (رضوان الله تعالی علیه) من بعض أهل الفضل في البحرين مُعقّباً على جواب استفتاءٍ سابق من بعض أهل بلده ورد
ص: 375
السَّيّد (قدس سره) في الوصاية بالولاية على مَنْ يتجدّد من الأولاد حيث كان الجواب هو الصحّة، فأراد السائل جواباً مفصّلاً عن مستند الحكم في المسألة، فكأنّه استغرب القول بالصحّة في الجواب السابق، وحيث إنّ الشيخ أحمد آل كاشف الغطاء (قدس سره) كان من حواريّ السَّيّد والمختصّين به، العارفين بمبانيه، المعنيّين بأجوبة الاستفتاءات التي ترد على السَّيّد (قدس سره)، أجاب السائل بما أراده، فكانت كما هي بين يديك.
وحيث لم يُذكر لها عنوان فاُقترِح أنْ تكون بعنوان يناسب ومضمونها فكان (بحث في شمول الوصاية بالولاية لمن يتجدد من الأولاد مع وجود قرينة على التعميم).
اتّفق المسلمون على أنّ للشهيد أحكاماً خاصّة، كما اتّفقت كلمة الإمامية - خلافاً للعامّة - على حدود تلك الأحكام، إلَّا أنّه وقع الخلاف في تحديد مفهوم الشّهيد والعناصر المقوّمة له.
والمعروف بينهم أنّ الشهيد (من قتل بين يدي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أو الإمام (علیه السلام))، وهذا ما حدى بالسائل أن يستفهم، حيث إنّ ذلك ينافي ما هو المشهور (من أنّ الحسين (علیه السلام) شهيد هذه الأمّة ) و(إن الشهيد من قتل في سبيل الله )، إذ إنّ المقصود بالشهيد فيهما هو مَن تترتب عليه أحكامه الخاصّة.
وقد تكفّل الشيخ أحمد آل كاشف الغطاء برفع التنافي، ثمَّ أردف ذلك ببيان مبسوط تتبّع فيه الأقوال وسبر فيه الأخبار كما سيوافيك إن شاء الله تعالى.
وحيث لم يُذكر لها عنوان فاُقترِح أنْ تكون بعنوان يناسب ومضمونها فكان (تعريف الشهيد بين التعميم والتقييد).
ص: 376
اعتُمِد في تحقيق الرسالة على النسخة الفريدة بخط المؤلِّف (قدس سره)، والموجودة في مكتبة الإمام محمّد حسين آل كاشف الغطاء العامّة في النجف الأشرف تحت رقم (873)، وتقع الرسالة في ضمن كُرّاس أبعاد ورقه 20 × 15.5سم، وعدد أوراقه (497)، ويحتوي على عدد من المسائل الفقهيّة الاستدلاليّة, وأجوبة بعض الاستفتاءات التي ترد على السَّيّد (قدس سره)، كمسألة الشهيد, والاختلاف في وقت المغرب، ومسألة عبّر عنها ب- (الرشتيّة)، وغيرها، كما أنّه يتضمّن جملةً من مختاراته الشعريّة وبعض الخواطر.
ويقع جواب مسألة الوصاية في (19) صفحة ممّا عدا السؤالين، وتبدأ من رقم (59) الى (78) من الكُرّاس، ويقع جواب مسألة الشّهيد في (9) صفحات مع السؤالين وتبدأ من رقم (50) الى (58) من الكُرّاس. واختلف عدد الأسطر في المخطوط في الجملة؛ إذ إنّ المؤلِّف (قدس سره) تارةً يكتب بحسب طول الورقة، وأُخرى بحسب عرضها على التعاقب، ويبلغ معدّل عدد الأسطر في الأوراق الطولية (24)، بينما يبلغ معدّل عدد الأسطر في الأوراق العرضية (16). وكُتبت الرسالة بخط واضح يميل إلى خط النّسخ.
ص: 377
1. صفّ حروف النصّ, وضبطها بمطابقته مع الأصل، وتقطيعه، ووضع علائم الترقيم.
2. تخريج الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وإرجاعها إلى مصادرها.
3. تخريج الأقوال الفقهيّة من مصادرها.
4. ذكرنا في الهامش موارد اختلاف نقل المؤلّف (قدس سره) الأحاديث مع مصادرها الأصليّة، مقتصرين على الموارد التي يكون الاختلاف فيها له أثر في الاستدلال، وأمّا في غيرها فقد اكتفينا بالإشارة إليها ب-(مع اختلاف يسير في ألفاظه).
5. جعل الإضافات الّتي يقتضيها السياق بين معقوفين.
6. إعداد فهرس لمصادر التّحقيق.
وفي الختام لا يسعنا سوى أنْ نتقدّم بوافر الشّكر وعظيم الامتنان إلى إدارة مكتبة الإمام الشّيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء العامّة في النّجف الأشرف حيث وفّرت لنا هذه النسخة الفريدة، لا سيّما فضيلة الشّيخ شريف كاشف الغطاء سائلين المولى جلّ شأنه أنْ يمُنَّ عليه بالشفاء والعافية، ونجله الشّیخ أمیر حفظه الله تعالى.
ص: 378
صورة
صفحة السّؤالين وبداية جواب سؤال الشّهيد من المخطوطة
ص: 379
صورة
الصّفحة الثّانية من جواب سؤال الشّهيد من المخطوطة
ص: 380
صورة
الصّفحة الأخيرة من جواب سؤال الشّهيد من المخطوطة
ص: 381
صورة
الصّفحة الأولى من جواب سؤال الوصاية من المخطوطة
ص: 382
صورة
الصّفحة الأخيرة من جواب سؤال الوصاية من المخطوطة
ص: 383
ص: 384
جواب مسألتين
للفقيه الكبير
الشيخ أحمد آل كاشف الغطاء (رضوان الله تعالی علیه)
شمول الوصاية بالولاية لمن يتجدّد من الأولاد
مع وجود قرينة على التعميم
تحقيق: السيد علي البعاج
تعريف (الشهيد) بين التعميم والتقييد
تحقيق: الشيخ سعد الفهداوي
ص: 385
ص: 386
سؤال من البحرين ورد لحضرة السّيّد آية الله في العالمين حجّة الإسلام والمسلمين أدام الباري وجوده وأهلك عدوّه وحسوده آمين, وهاك نصّه:
بعد السَّلام الّذي لا يفنى ولا ينتهي إليه دروس أُولي النّهى لجناب سيّد الكلّ السّيّد محمّد كاظم الطّباطبائي (أيّده الله).
المسؤول من عميم فضله بيان الدّليل على صحّة الوصاية بالولاية على من تجدّد بعدها من الأولاد مع قيام القرينة على إرادة التّعميم كما أجاب المولى بعض سائليه من أهل بلدنا.
فإنْ يكن العموم فلِم لا يقال بتخصيصه، فضلاً عن تخصّصه ولو لتفرّع الولاية على وجود المولّى عليه.
وإنْ يكن الإجماع فلم نجد في مختصر لأصحابنا ولا مطوّل فرض المسألة بل قد يستكشف انتفاء الإجماع من خلافهم في المراد من الثّلث الموصى به.
والإجماع بجواز الوصيّة للمعدوم لا يستلزم بالضرورة جواز ما نحن فيه.
وإنْ يكن الأصل فهو مقطوع بانقطاع سلطنة الميّت كما هو في نفس الوصيّة بكلا قسميها, فمقتضاه المنع لولا الدّليل.
حرّره أقلّ الخليقة بل لا شيء في الحقيقة
أحمد ابن الحاج عبد الرضا آل حرز البحراني أصلاً ومولداً ومسكناً بالفعل
باليوم 14 ج2 سنة 1330.
ص: 387
سؤال آخر: ما معنى اقتصار أصحابنا(1) إلّا سيّد المدارك(2) على تعريف الشّهيد بأنّه المقتول بين يدي النّبي أو الإمام, مع أنّ المشتهر من الروايات وغيرها: أنّ الحسين (علیه السلام) شهيد هذه الأُمّة(3), وأنّ الشّهيد من قتل في سبيل الله، إذ ليس المقصود من ذلك إلّا بيان ترتيب أحكام الشّهيد على قتله (سلام الله عليه).
حرّره بيده الفانية أقلّ الخليقة أحمد بن عبد الرضا آل حرز
باليوم الأوّل من شهر شعبان سنة 1330.
والمأمول بسط الجواب وإنْ كانت جرأة على سيّد السّادات وإرسال ورقة السّؤال.
ص: 388
هذا ليس ممّا يتعلّق بمسائل السَّيّد (قدس سره).
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
نعم, ليس في أخبار الباب ما يقضي بهذا القيد(1) صريحاً، فإنّها بين ما علّق الحكم فيه على عنوان الشّهيد(2)، وما علّق على عنوان القتيل في سبيل الله أو في طاعة الله(3) أو بين الصفّين(4)، وليس في ذلك ما يوجب هذا التقييد. ومن هنا اخترنا في رسائلنا العمليّة جريان الحكم في القتيل في حفظ بيضة الإسلام في حال الغيبة(5)، إلّا أنّ من قيّد بهذا القيد من الأصحاب كأنّه نظر إلى أنّ الحكم مخالف للعمومات الدّالّة على وجوب الغسل والتّكفين لكلّ مسلم, فيلزم الاقتصار في المخصّص على المتيقّن منه, وليس إلّا ما جمع ذلك القيد بأنْ كان مقتولاً بين يدي النّبي أو الإمام للشكّ في صدق تلك العناوين المأخوذة في الأخبار على ما عداه خصوصاً بملاحظة أنّ موارد تلك الأخبار كقضية حمزة(6) (سلام الله عليه) وعمّار بن ياسر(7) وهاشم بن عتبة المرقال(8) كانت من
ص: 389
ذلك القبيل، فإنّ خصوص المورد وإنْ كان لا يخصّص الوارد لكن إذا كان الوارد من أصله مشكوكاً عمومه ربّما يكون ذلك مؤيّداً لأحد طرفي الشكّ, لكن لا يخفى أنّ الأصحاب في ذلك على مذاهب ثلاثة:
فمنهم من اقتصر على القتيل بين يدي النّبي أو الإمام(1).
ومنهم من ألحق القتيل بين يدي نائبه الخاصّ(2).
ومنهم من عمّم كما عمّمنا إلى مطلق الجهاد بالحقّ(3) الّذي هو سبيل الله كالقتيل فيما لو دهم المسلمين عدوّ يُخاف منه على بيضة الإسلام وإنْ لم يكن المعصوم أو نائبه الخاصّ حاضراً.
وليس المعمّم بهذا النحو من التّعميم مقصوراً على سيّد المدارك بل قبله المحقّق في المعتبر صرّح بهذا التعميم, وقد نقل ذلك في المدارك عنه، قال (قدس سره): (وبما ذكرناه قطع المصنّف في المعتبر، فإنّه قال بعد أن عزى اشتراط ذلك إلى الشيخين: (والأقرب اشتراط الجهاد السّائغ حسب، فقد يجب الجهاد وإنْ لم يكن الإمام (علیه السلام) موجوداً) ثمّ قال: (واشتراط ما ذكره الشّيخان زيادة لم تعلم من النّصّ)(4))(5) انتهى.
وقد حكي ذلك أيضاً عمّن سبقهما ولحقهما، فقد حكاه في الجواهر وغيرها عن
ص: 390
ظاهر الغنية أو صريحها وإشارة السّبق والذّكرى والدّروس وظاهر الرّوض والرّوضة وعن ظاهر الخلاف ومحتمل التّذكرة ونهاية الإحكام(1).
بل حكى عن ظاهر الغنية أو صريحها الإجماع على ذلك(2).
ومن هنا استظهر في الجواهر إرادة الجميع لذلك حتّى مَنْ فسّره بالقتيل بين يدي الإمام، قال (قدس سره) - بعد أن احتمل أنّ مراد من اقتصر على القتيل بين يدي الإمام التّعميم للقتيل بين يدي نائبه الخاصّ - ما نصّه:
(كما أنّ الظّاهر إرادة الجميع ب-(الإمام) ما يعمّ النّبي أو جهاد بحقّ ولو بدونهما كما لو دهم المسلمين عدوّ يخاف منه على بيضة الإسلام)(3) انتهى.
وأيّاً ما كان فما اشتهر في الرّوايات وغيرها من أنّ الحسين (صلوات الله عليه) شهيد هذه الأُمّة بل سيّد الشّهداء لا منافاة فيه لشيء من كلماتهم. أمّا بالنسبة إلى كلام من عمّم كما عمّمنا فواضح. وأمّا بالنسبة إلى من عداه فلبداهة أنّ من فسّر الشّهيد بكونه القتيل بين يدي النّبي أو الإمام لا يحتمل فيه أنّه يريد أنّ نفس النّبي أو الإمام لو قتل في ذلك الحرب لا يكون شهيداً ولا تجري عليه أحكامه، فيكون المقتول بين يديه شهيداً دونه (صلوات الله وسلامه عليه) لو صار قتيلاً.
ومن العجب تطرّق هذا الاحتمال في كلماتهم، فإنّهم إنّما اقتصروا على التّقييد بكونه بين يدي النّبي أو الإمام ولم يتعرّضوا لنفس النّبي أو الإمام اعتماداً على الوضوح والظّهور، ولم يؤثروا أنْ يحتمل محتمل في كلماتهم ذلك.
ص: 391
وأعجب من ذلك قول السّائل، إذ ليس المقصود من ذلك إلّا بيان ترتيب أحكام الشّهيد على قتله (سلام الله عليه)، فأين هو من السّعادات الأُخرويّة والدّنيويّة الّتي ترتّبت على شهادته (سلام الله عليه) الّتي منها استقامة دين جدّه (سلام الله عليه) بذلك. وأمّا ترتيب أحكام الشّهيد عليه فهو راجع إلى الإمام من بعده، ولا يهمّ بيانه، والظاهر أنّ ذلك قصور في الأداء من السائل، وإلّا فهو ممّن لا يخفى عليه المقصود من الرّوايات من كونه (سلام الله عليه) شهيد هذه الأُمّة وسيّد الشهداء، ولا تخفى عليه الآثار والسعادات الّتي ترتّبت على شهادته (سلام الله عليه).
وهذا بلاغ كافٍ في الجواب عن السّؤال، ولكن إن شئت تفصيل الحال في هذه المسألة فاستمع لما يتلى عليك.
اعلم أنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّ مقتضى العمومات الأوّليّة وجوب الغسل والتّكفين لكلّ مسلم مظهر للشهادتين، ولكن قد خرج من ذلك بعض الموارد لأجل ورود المخصّص، منها: الشّهيد، فإنّ الأصحاب أجمعوا على استثنائه من ذلك في الجملة. بل في المعتبر(1) إنّه إجماع أهل العلم خلا سعيد بن المسيّب(2) والحسن(3). وعن المنتهى: (ذهب إليه علماؤنا أجمع، ولا خلاف فيه بين علماء الأمصار إلّا الحسن البصري وسعيد بن المسيّب)(4). بل عن اللّوامع عليه إجماع المسلمين(5).
ص: 392
والأصل في ذلك ثلّة من الأخبار، وهي على طوائف:
إحداها: ما علّق الحكم فيه على عنوان الشّهيد، كرواية زرارة وإسماعيل بن جابر في الصّحيح عن الباقر (علیه السلام)، قال: قلت له: كيف رأيت، الشّهيد يدفن بدمائه؟ قال: (نعم، بثيابه وبدمائه ولا يحنّط ولا يغسّل ويدفن كما هو)، ثمّ قال: (دفن رسول الله عمّه حمزة في ثيابه بدمائه الّتي أُصيب فيها، وردّاه النّبي بردائه فقصر عن رجليه فدعا له بإذخر(1) فطرحه عليه، وصلّى عليه سبعين صلاة، وكبّر عليه سبعين تكبيرة)(2).
وعن أبي مريم، قال: سمعت الصّادق (علیه السلام) يقول: (الشّهيد إذا كان به رمق غسّل وكفّن وحنّط وصلّي عليه، وإن لم يكن به رمق دفن في ثيابه)(3).
ورواه في الفقيه بسنده إلى أبي مريم مثله(4).
وعن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، قال: (قال أمير المؤمنين (علیه السلام): ينزع من الشّهيد الفرو والخفّ والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسّراويل إلّا أن يكون أصابه دم ترك، ولا يترك عليه شيء معقود إلّا حلّ)(5).
وعن عمرو بن خالد، عن زيد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (علیه السلام)، قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إذا مات الشّهيد من يومه أو من الغد فواروه في ثيابه، وإن بقى أيّاماً حتّى تتغيّر جراحته غسّل)(6).
ص: 393
ثانيها: ما علّق الحكم فيه على القتيل في سبيل الله تعالى، كرواية الكافي في الصّحيح عن أبان بن تغلب، قال: سألت الصّادق (علیه السلام) عن الّذي يُقتل في سبيل الله تعالى أيغسّل ويكفّن ويحنّط؟ قال: (يدفن كما هو بثيابه بدمه إلّا أنْ يكون به رمق ثمّ مات، فإنّه يغسّل ويكفّن ويحنّط ويصلّى عليه. إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) صلّى على حمزة وكفّنه لأنّه كان جُرِّدَ)(1).
ورواه في الفقيه مرسلاً بطريق إلى أبان(2) مثله.
وروايته الأُخرى في الصّحيح أو الحسن، قال: سمعت الصّادق (علیه السلام) يقول: الّذي يُقتل في سبيل الله تعالى يدفن بثيابه، ولا يغسّل إلّا أنْ يدركه المسلمون وبه رمق ثمّ يموت بعد، فإنّه يغسّل ويكفّن ويحنّط، إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كفّن حمزة في ثيابه ولم يغسّله ولكنّه صلّى عليه)(3).
ثالثها: ما علّق الحكم فيه على من قتل بين الصفّين، كرواية الكافي والتّهذيب، عن أبي خالد، قال: (قال: اغسل كلّ شيء من الموتى الغريق وأكيل السّبع وكلّ شيء إلّا ما قتل بين الصفّين فإن كان به رمق غسّل وإلّا فلا)(4).
رابعها: ما علّق الحكم فيه على قتيل المعركة في طاعة الله تعالى(5)، لم يغسّل، ودفن في ثيابه الّتي قتل فيها بدمائه، ولا ينزع منه من ثيابه شيء إلّا أنّه لا يترك عليه شيء معقود مثل الخف، ويحلّ تكّته ومثل المنطقة والفروة، وإنْ أصابه شيء من دم لم ينزع عنه
ص: 394
شيء إلّا أنّه يحلّ المعقود، ولم يغسّل إلّا أن يكون به رمق ثمّ يموت بعد ذلك، فإذا مات بعد ذلك غسّل كما يغسّل الميّت، وكفّن كما يكفّن الميّت، ولا يترك عليه شيء من ثيابه.
خامسها: ما ورد في موارد خاصّة، كرواية الشّيخ في الموثّق، عن عمّار عن جعفر، عن أبيه: (أنّ علياً (علیه السلام) لم يغسّل عمّار بن ياسر ولا هاشم بن عتبة المرقال)، قال: (ودفنهما في ثيابهما ولم يصلِّ عليهما)(1).
ورواه الصّدوق مرسلاً. ثمّ قال: هكذا روي، والأصل أن لا يترك أحد من الأُمّة بغير صلاة(2).
ورواية قرب الإسناد عن أبي البختري - وهب بن وهب -، عن جعفر، عن أبيه: (أنّ عليّاً (علیه السلام) لم يغسّل عمّار بن ياسر ولا [هاشم بن](3) عتبة يوم صفّين، ودفنهما في ثيابهما، وصلّى عليهما)(4).
وروى في المعتبر أنّ النّبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: (زمّلوهم بدمائهم، فإنّه ليس كلم يكلم في سبيل الله تعالى إلّا يأتي يوم القيامة بدمائه، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك)(5).
وهذه أشبه بأنْ تكون من الأخبار العامّة وتدخل في الطّائفة الثّانية.
ص: 395
وروى أيضاً فيه: أنّ رجلاً من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) طلب رجلاً من حيّ جهينة فأخطأه فأصاب نفسه بسيفه، فقال رسول الله: (أخوكم يا معشر المسلمين)، فابتدره النّاس، فوجدوه قد مات، فلفّه رسول الله بثيابه ودمائه، وصلّى عليه، فقالوا: يا رسول الله أو شهيد هو؟ فقال: (نعم، وأنا له شهيد)(1).
وروى فيه أيضاً: أنّ عمّار قال: ادفنوني في ثيابي، فإنّي مخاصم(2).
وروى أيضاً: أنّ أصحاب الجمل أوصوا بأنّا مستشهدون غداً فلا تنزعوا عنّا ثوباً ولا تغسلوا عنّا دماً(3).
إذا عرفت ذلك اتّضح لك اختلاف الأخبار في أنفسها، واختلافها أيضاً مع ما في كلمات الأصحاب، وذلك من جهات:
إحداها: من جهة التقييد بكون القتل بين يدي النّبي أو الإمام أو نائبهما الخاصّ. وقد عرفت اختلاف الأصحاب في ذلك على مذاهب ثلاثة(4). وعرفت وجه النّظر في تقييدهم. وعرفت أنّ صاحب الجواهر (قدس سره) حاول إرجاع كلمات المقيّدين إلى المعمّمين(5). وعرفت أنّ الحقّ هو التّعميم لكلّ جهاد حقّ ولو في زمن الغيبة، ويدلّ على ذلك - مضافاً إلى إطلاق العناوين(6) المأخوذة في الأخبار، وبطلان دعوى الشّكّ في
ص: 396
صدقها على ما عدا القتيل بين يدي الإمام أو نائبه الخاصّ - أنّه يبعد كثرة وقوع السّؤال في الرّوايات عن فرض لا يحتاجون إليه أصلاً.
ثانيها: إنّ رواية أبي مريم من الطّائفة الأُولى، وروايتي أبان من الثّانية، ومضمر أبي خالد من الثّالثة، ورواية الفقه الرّضوي من الرّابعة، كلّها اشتملت على أنّ المدار في وجوب الغسل والتّكفين وعدمهما إدراك المسلمين له وبه رمق وعدمه، ولا يعارضها من روايات الباب إلّا رواية عمرو بن خالد الثّانية، فإنّه صرّح فيها بجريان الحكم على الشّهيد إذا مات في يومه أو غده، وأنّه إنّما يغسّل إذا بقى أيّاماً حتّى تتغيّر جراحته. وكذا الرّوايتان المتضمّنتان لدفن عمّار (سلام الله عليه) بثيابه بدمائه مع ما اشتهر بل كاد أن يتواتر من إدراك المسلمين له، وأنّه استسقى، فسقي ضياحاً من اللبن(1). وأمّا ما عدا ذلك كرواية زرارة وإسماعيل، ورواية عمرو بن خالد الأُولى، وباقي روايات الطّائفة الخامسة فهي ساكتة عن هذه الجهة، لكن رواية عمرو بن خالد لضعف سندها(2)، وإعراض الأصحاب عنها - حتّى لم ينقل عن أحد العمل بمضمونها - لا تقوى على معارضة تلك الرّوايات، وحينئذ فتبقى المعارضة بين تلك الرّوايات والرّوايتين المتضمّنتين لدفن عمّار بن ياسر، والجمع بينهما ليس إلّا بجعل الرّوايتين قرينة على أنّ المراد من إدراك الرّمق في تلك الرّوايات إدراكه بعد انقضاء الحرب ليكون موته بعد ذلك.
ويؤيّده - مضافاً إلى أنّ تفقّد القتلى غالباً إنّما يكون بعد أن تضع الحرب أوزارها -
ص: 397
الخبر المروي عن النّبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، أنّه قال يوم أُحد: (مَن ينظر إلى ما فعل سعد ابن الربيع؟ فقال رجل: أنا أنظر لك يا رسول الله، فنظر فوجده جريحاً وبه رمق، فقال له: إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أمرني أنْ أنظر، في الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات فأبلغ رسول الله عنّي السّلام. قال: ثُمّ لم أبرح إلى أنْ مات، ولم يأمر النّبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بتغسيل أحد منهم)(1). بناءً على أنّ ذلك كان قبل انقضاء الحرب.
وعلى هذا فيكون المدار في سقوط الغسل والتّكفين وعدمه على الموت قبل انقضاء الحرب وعدمه فيسقط في الأوّل سواء مات في محلّ العرك أو غيره، ويثبت في الثّاني - وهو ما إذا مات بعد الانقضاء - من دون فرق أيضاً بين موته في موضع القتال أو غيره. وهذا هو الحقّ الذي اخترناه في رسائلنا العمليّة كالعروة الوثقى(2) وغيرها، فلا يكون إدراك المسلمين له وبه رمق قبل انقضاء الحرب موجباً لوجوب غسله وتكفينه، كما عرفت في قضيّة عمّار بن ياسر وسعد ابن الرّبيع.
وإلى ذلك ذهب جمع من الأصحاب، فقد حكي عن الخلاف(3) التّصريح بأنّه إذا خرج عن المعركة ثمّ مات بعد ساعة أو ساعتين قبل تقضي الحرب حكمه حكم الشّهيد، وحكي عن المنتهى(4) استحسانه، وقضيّة إطلاقه عدم الفرق بين أنْ يدركه المسلمون وبه رمق الحياة أم لا، وحكي عن الخلاف(5) أيضاً دعوى إجماع الفرقة على أنّه
ص: 398
إذا مات بعد تقضّي الحرب يجب غسله حتّى لو كان غير مستقرّ الحياة.
وقد حكي عن الأصحاب مذاهب أُخر في ذلك (منها) ما حكي عن ظاهر المقنعة(1) والشّهيدين في ظاهر الذّكرى(2) والرّوض(3) وعن مهذّب ابن البرّاج(4)، قيل: وتبعهم جماعة من متأخّري المتأخّرين، مِنْ جعل المدار في ذلك على إدراك الرّمق وعدمه سواء كان قبل انقضاء الحرب أو بعده، وسواء كان في المعركة أو خارجاً عنها.
قلت: وإليه يميل السّيّد في المدارك كما يُعلم بمراجعة كلامه(5).
ودليل هذا القول هو الاستناد إلى الأخبار الّتي جعل المدار فيها على ذلك...(6) عن المشهور، بل في المدارك نسبته إلى الأصحاب...(7) المدار على الموت في المعركة وعدمه. والمراد بها - كما ذكره المرتضى (قدس سره)
في طهارته(8) - المحلّ المتلبّس بالعرك فعلاً، فكأنّه يرجع إلى اعتبار أمرين في جريان حكم الشّهيد، أحدهما: الموت قبل انقضاء الحرب، والثّاني: الموت في نفس محلّ الحرب، ويتفرّع على ذلك - كما حكي(9) عن كشف
ص: 399
اللّثام(1) وغيره(2) - أنّه لو انقضى الحرب وبه رمق، أو نقل وبه رمق وإن لم ينقضي الحرب بعدُ يجب تغسيله، وهو موافق للمختار فيما إذا مات بعد انقضاء الحرب.
وأمّا إذا مات قبل انقضاء الحرب وبعد نقله عن المعركة، فيستدلّ له بمضمرة أبي خالد المتقدّمة(3) في الطائفة الثالثة، بتقريب: أنّه إذا مات كذلك لا يصدق عليه أنّه قُتل بين الصّفّين، وهو كما ترى؛ فإنّه إذا جرح في المعركة ومات بعد نقله عنها بساعة أو ساعتين قبل انقضاء الحرب يصدق عليه القتل بين الصّفّين قطعاً.
ومن هنا جزم في الخلاف بجريان حكم الشهيد عليه - كما عرفت الحكاية عنه -، وعن المنتهى استحسانه.
وقد تلخّص: أنّ الحقّ في المناط إثباتاً ونفياً هو موته قبل انقضاء الحرب أو بعده كما عرفت تفصيله.
ثالثها: إنّ ما عدا رواية عمرو بن خالد الأُولى(4) كلّها قد دلّت على أنّ الشّهيد يدفن بثيابه من دون استثناء، أمّا هي فقد استثنت بعض الثّياب كالسّراويل والعمامة، وكلمات الأصحاب اختلفت في ذلك أشدّ اختلاف، وحيث إنّ الرّواية المذكورة ضعيفة السّند ولا جابر لها من هذه الجهة فلا تقوى على تقييد تلك المطلقات، وحينئذٍ فيجب العمل على طبق تلك المطلقات، ومقتضاها دفن كلّ ما يصدق عليه أنّه من الثّياب، وقد تكلّم
ص: 400
في تفصيل ذلك في باب الحبوة في الميراث. نعم، لا يدفن ما ليس بثوب كسلاحه وخاتمه إذ لم يؤمر به فهو تضييع للمال، وكذا الخفّان والنّعل والحزام إذا كان من الجلود لعدم صدق الثّوب عليها، وأمّا الفرو فقد استثناه بعض(1)، ولكنّه لا يخلو عن إشكال خصوصاً إذا أصابه الدّم.
ص: 401
الأوّل: الظّاهر أنّ الصّغير في ذلك كالكبير، والمرأة كالرّجل، والعبد كالحرّ؛ لإطلاق الأخبار، ولما روي أنّه كان في قتلى بدر وأُحد أطفال كحارثة بن النعمان(1) وعمير بن أبي وقّاص(2) ولم ينقل أنّ النّبي (صلی الله علیه و آله و سلم) غسّلهم، وقضيّة رضيع سيّد الشّهداء (سلام الله عليه) في الطّف معلومة، ولم ينقل عنه (سلام الله عليه) أنّه يمّمه، ومع ذلك فربّما يستشكل في إطلاق الأخبار الّتي علّق الحكم فيها على عنوان المقتول في سبيل الله تعالى بأنّه لا يشمل إلّا من كان الجهاد راجحاً في حقّه أو وجوبه، كما إذا توقّف دفع العدوّ على الاستعانة بالأطفال والمجانين، وهو كما ترى؛ فإنّ العنوان المذكور صادق على كلّ من قتل من المسلمين أو ذراريهم أو عبيدهم أو أتباعهم في الحرب الّتي تقع بينهم وبين الكفّار كما هو ظاهر، وقد حكي عن ظاهر كشف اللّثام(3) الاتّفاق في خصوص الصّغير والمجنون.
الثّاني: لا فرق أيضاً في جريان الحكم المذكور بين المقتول خطأً أو عمداً، ولا بين مَن داسته خيول المسلمين وغيره، وكذا لو رمته فرسه في نهر أو بئر بسبب جهاد الكفّار،
ص: 402
ولا بين من عاد سلاحه إليه فقتله وغيره، ولا بين المقتول بحديد وغيره من خشب أو حجر كما هو ظاهر، كلّ ذلك لإطلاق الأخبار وصدق القتل في سبيل الله تعالى. مضافاً إلى ما رواه في المعتبر في الرّجل الذي أصاب نفسه بسيفه(1).
الثّالث: الظّاهر أنّه لا خلاف في عدم جريان الحكم على المقتول ظلماً بغير الجهاد - كما لو قُتِل دون نفسه أو ماله أو عرضه - وإنْ ورد أنّ من قتل دون مظلمة فهو الشّهيد(2)، ولا الأموات الّذين ورد أنّهم بمنزلة الشّهيد كمَن مات بالبطن أو الطّاعون أو النّفاس(3) فإنّ ذلك مبالغة في صلاح العاقبة. مضافاً إلى ما في مضمرة أبي خالد(4) من الأمر بغسل الغريق وأكيل السّبع مع أنّه ربّما أُطلق الشّهيد على مثل هؤلاء.
الرّابع: لا فرق في سقوط الغُسل عن الشّهيد بين كونه جنباً وغيره، وكذا الحائض والنّفساء؛ لعدم وجوب الغُسل على الميّت، ولا يجب على الحي أنْ يغسّله تلك الأغسال، وربّما يحكى عن الإسكافي والسّيّد في شرح الرّسالة وجوب تغسيله غسل الجنابة(5)، ومستندهما ضعيف(6).
ص: 403
الخامس: لا فرق في جريان الحكم بين قتيل المشركين وقتيل أهل البغي، وقد تقدّم وجه ذلك من تعميم الحكم لكلّ مقتول في جهاد مأمور به. مضافاً إلى ورود جملة من الأخبار السّالفة فيمن قتل في الجمل أو صفّين(1).
السّادس: لو وجد في المعركة ميِّت مسلم وعليه أثر القتل فلا خلاف ظاهراً في سقوط تغسيله، ولو لم يوجد فيه أثر القتل ففيه خلاف، ولعلّ الأقوى السّقوط أيضاً؛ لعدم جواز التّمسّك بالعمومات من حيث كون الشّبهة مصداقية فيرجع إلى أصالة البراءة.
السّابع: الشّهيد كما لا يغسّل لا يكفّن أيضاً، بل يدفن بثيابه. نعم، لو جُرِّدَ فالأقوى وجوب تكفينه؛ للعمومات ولم يخرج منها إلّا مَن كان له ثياب فيبقى الباقي داخلاً في العموم. مضافاً إلى ما في رواية أبان بن تغلب(2) من أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كفّن حمزة؛ لأنّه كان جُرِّدَ.
الثّامن: ما تضمّنه خبر عمرو بن خالد الأوّل(3) والفقه الرّضوي(4) من حلّ كلّ معقود عليه كالسّراويل لم يتعرّض له الأصحاب، والأحوط المحافظة عليه؛ لعدم معارض للخبر المزبور.
التّاسع: لا ريب ولا خلاف في وجوب الصّلاة على الشّهيد كما دلّ عليه فعل النّبي (صلی الله علیه و آله و سلم)
ص: 404
بالنسبة إلى حمزة (سلام الله عليه)، وما في رواية عمّار من أنّ علياً (سلام الله عليه) لم يصلِّ على هاشم المرقال وعمّار بن ياسر(1) متروك، محمول على التّقيّة - كما عن الشّيخ -، أو أنّه وهم من الرّاوي.
العاشر: إذا كانت ثياب الشّهيد للغير ولم يرضَ بإبقائها تنزع، وكذا إذا كانت للميِّت وكان فيها حقّ للغير - كحقّ الرّهانة - ولم يرضَ بإبقائها عليه؛ لعدم شمول الأخبار لذلك.
الحادي عشر: مسّ الشّهيد لا يوجب الغسل؛ لكونه بحكم الطّاهر.
الثّاني عشر: سقوط الغسل عن الشّهيد على نحو العزيمة لا الرّخصة؛ لظهور الأخبار في ذلك. وأمّا الكفن فإن كان الشّهيد عارياً فقد عرفت وجوب تكفينه، وإن كان عليه ثيابه فلا يبعد جواز تكفينه فوق ثياب الشّهادة، ولا يجوز نزع ثيابه وتكفينه كما يعلم بالتأمّل في مفاد الأخبار السّالفة.
ولنمسك عنان القلم في تنبيهات المسألة على هذا العدد الميمون المبارك تيمّناً بعدد الأئمّة الاثني عشر (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
والحمد لله ربّ العالمين أوّلاً وآخراً وله الشّكر وحده.
حرّر يوم الثلاثاء 10 ذي القعدة الحرام سنة 1330.
ص: 405
ص: 406
بسم الله الرحمن الرحیم
هذا ليس من مسائل السَّيّد (قدس سره)
وأَمَّا الجواب عن السُّؤال الأوَّل(1) فهو أنَّه لا بُدَّ قبل بيان التَّفصيل في الجهة المسؤول عنها من بيان المسائل الّتي وقعت في السُّؤال، وهي ثلاث:
إحداها: تعيين المراد من الثُّلث المُوصى به.
ثانيها: مسألة الوصيَّة للمعدوم.
ثالثها: تحقيق الأصل في الوصيَّة بكلا قسميها.
أمّا المسألة الأُولى فيقع الكلام فيها في أُمور:
الأوَّل: الظَّاهر أنَّه لا إشكال، بل لا خلاف في أنَّ الثُّلث الّذي تخرج منه الوصايا والتَّصرُّفات المنجَّزة في حال المرض والإقرارات كذلك بناءً على القول بخروجها من الثُّلث - على خلاف ما هو المختار من خروجها من الأصل - يُحسب من مجموع ما تركه(2) من مالٍ عيناً، أو ديناً، أو منفعةً، أو حقّاً ماليَّاً: كحقّ التحجير، وحقّ الخيار،
ص: 407
و[حقّ](1) الشفعة، وحقّ القصاص الّذي كان له، وحقّ الجناية عمديّة أو خطئيَّة؛ باعتبار كونه وليّاً عن المقتول والمجني عليه، ونحو ذلك. فلو آلت إلى المال، أو بُذل بإزائها مالٌ كان من جملة ما يُخرَج منه الثُّلث.
الثَّاني: الظَّاهر أيضاً أنَّه لا خلاف ولا إشكال في أنَّ المدار فيه - بالنسبة إلى الزيادة أو النقيصة الحادثة في المال من زمان الوصيَّة، أو التَّصرُّف المنجَّز إلى زمان الموت - على ما هو موجود حين الموت(2)، لا على ما هو موجود حين الوصيَّة أو التَّصرُّف المنجَّز، ولا على ما هو موجود فيما بينهما وبين زمان الموت. فلو نقص المال عن زمان الوصيَّة وما بحكمها أو زاد لا يلاحظ إلَّا ما هو الموجود حين الموت. وهذا لا إشكال ولا تأمّل لأحدٍ فيه، وإنَّما استشكل من استشكل كالمحقّق والشَّهيد الثَّانيين(3) في مرحلة استكشاف مراد المُوصي إذا أوصى بالثُّلث، وتجدّدت زيادة في المال بعد زمان الوصيَّة، قالا (قدس سرهما) على ما حُكي عنهما(4)- بعد ذكر ما ذكره الأصحاب من أنَّ المدار في الثُّلث على
ص: 408
وقت الوفاة - ما نصّه: (هذا إنّما يتمّ بغير إشكال لو كانت الوصيَّة بمقدارٍ معيّنٍ كمائةِ دينارٍ، أو بشيءٍ معيَّنٍ كدارٍ معيّنة، أو شِقصٍ منها، أو كانت بجزءٍ مشاع كالثُّلث وكانت التَّركة حين الوصيَّة أزيد منها حال الوفاة. أمّا لو انعكس أشكل اعتبارها عند الوفاة مع عدم العلم بإرادة الموصي للزيادة المتجدّدة؛ لأصالة عدم التَّعلّق. وشهادة الحال بأنَّ المُوصي لا يريد ثلث المتجدّد حيث لا يكون تجدّده متوقّعاً غالباً، خصوصاً مع زيادته كثيراً)(1) انتهى.
وهذا - كما ترى - إشكال في مقام الاستكشاف وتعيين المراد من وصيّته، وإلّا فلا إشكال لهما في نفوذ الوصيَّة بالثُّلث حتّى من الزّيادة المتجدّدة لو صرّح بإرادتها. كما لا إشكال لهما أيضاً فيما إذا أوصى بوصيةٍ أُخرى في الفرض الّذي ذكروه في أنّه يجب العمل بها لوفاء الثُّلث حين الموت بها بعد تنزيل الثُّلث المُوصى به أوَّلاً على الثُّلث حين الوصيَّة، فيُصرف الزائد من الثُّلث في الوصيَّة الثَّانية.
وممّا يدلّك على ذلك تخصيصهما الإشكال بما إذا كانت الوصيَّة بجزء مشاع كالثُّلث دون ما إذا كانت بمقدارٍ معيّنٍ كالمائة دينار، أو شيءٍ معيّنٍ كدارٍ معيّنة، أو شِقصٍ منها؛ فإنَّهما في هذين الفرضين يلاحظان نسبة المُوصى به إلى ثلث المال حين الموت بضمّ الزيادة المتجدّدة.
فقد ظهر من ذلك أنّه لا إشكال فيما ذُكر بالنّسبة إلى مرحلة الثُّبوت والواقع، وأنَّ المدار في نفوذ الوصيَّة وما بحكمها إنّما هو الثُّلث حين الموت، فتنفُذ فيه إذا كانت بمقداره، زاد أو نقص عن حين الوصيَّة، من دون فرقٍ بين الوصيَّة بمقدارٍ معيّنٍ، أو شيءٍ معيّنٍ، أو جزءٍ مشاعٍ إذا كان الموصي قاصداً للزّيادة المتجدّدة.
ص: 409
الثَّالث: الظاهر أيضاً أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ الزِّيادة الخارجيّة الحاصلة بعد الموت إذا كانت بسبب حقٍّ سابقٍ على الموت حكمها حكم الزِّيادة الحاصلة قبله، وذلك كوقوع الصَّيد في الشَّبكة الّتي نصبها المُوصي، والصُّلح عن حقّ القصاص الثَّابت للمُوصي في زمان حياته، أو عن سائر الحقوق كحقّ الشُّفعة ونحوه، أو الزِّيادة الحاصلة بفسخ المعاملة الخياريّة، والحاصلة بالإقالة، ونحو ذلك. ومنه ما إذا أبرأه المديون، أو تبرّع أحدٌ بوفاء دَينه، فإنَّ هذه كلّها ممّا يزيد بها ثلث الميّت. بل ومنه ما إذا أوصى له أحدٌ فمات قبل القبول على ما هو المعروف بينهم من أنَّ الوارث يقوم مقامه(1) فيقبل المُوصى به ويأخذه، فإنَّه بعد قبوله يزيد به الثُّلث بناءً على كون ذلك من باب انتقال حقّ القبول إلى الورثة - كما هو المعروف عندهم(2) - وإنْ كان لا يخلو عن إشكال، وتفصيله موكولٌ إلى محلِّه.الرَّابع: المال المتجدِّد بالموت كدية الخطأ يحسب من التَّركة، فتخرج منه ديونه
ص: 410
ويحتسب منه الثُّلث، فتخرج منه وصاياه وما بحكمها من تصرّفاته وأقاريره في حال المرض إنْ قلنا بخروجها من الثُّلث. والظَّاهر أنّ ذلك وفاقيّ لا خلاف فيه(1)، وقد نُقل عليه الإجماع في لسان جمع(2)، وخلاف ابن إدريس(3) إنّما هو في دية العمد لا دية الخطأ، وقد صرّح في دية الخطأ بموافقة الأصحاب كما يعلم بمراجعة كلامه في السَّرائر في باب قضاء الدَّين عن الميّت.
والأصل في ذلك قبل الإجماع أخبار كثيرة:
منها: خبر محمَّد بن قيس، عن أبي جعفر (علیه السلام)، أنَّه قال:( قضى أمير المؤمنين (علیه السلام) في رجلٍ أوصى لرجلٍ بوصيَّة مقطوعةٍ غير مسمّاة من ماله ثلثاً، أو ربعاً، أو أقل من ذلك، أو أكثر، ثمّ قُتل خطأ(4) الموصي، فَوُدِيَ، فقضى في وصيته: أنّها تنفذ من ماله وديته كما أوصى)(5).
ص: 411
وخبره الآخر، قُلتُ لأبي جعفر (علیه السلام): رجلٌ أوصى لرجُلٍ بوصيَّةٍ من ماله ثلث، أو ربع، فقُتل الرَّجل خطأً - يعني المُوصي -. فقال:( تُجاز هذه الوصيَّة من ميراثه وديته)(1).
وفي المرسَل، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، أنَّه سُئِلَ عن رجُلٍ أوصى بثلث ماله، ثُمَّ قُتل خطأً، فقال: ( ثلث ديته داخل في وصيَّته)(2).
وفي خبر السَّكونيّ، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: ( قال أمير المؤمنين (علیه السلام): من أوصى بثلثه، ثُمَّ قُتل خطأً، فثلث ديّته داخل في وصيّته)(3).
والظَّاهر موافقة ذلك للقاعدة أيضاً من حيث أنَّ المال المذكور قد استُحقّ بسببه، بل هو عوض عن نفسه كالقيمة للتالف؛ فلذا أدخله الشَّارع في ماله، وعلّق به ديونه، ووصاياه، وما بحكمها من التَّصرُّفات والأقارير.
الخامس: الظّاهر وفاقاً للمشهور، بل رُبَّما حُكي عليه الإجماع(4) أنّ الدّية المأخوذة في العمد حكمها حكم دية الخطأ في جميع ما ذكر:
أمّا على القول بأنَّ الثَّابت في العمد أصالة أحد الأمرين من الدّية و(5) القصاص
ص: 412
- كما يُحكى القول بذلك عن أبي علي(1) من أصحابنا - فواضح؛ لأنَّها تكون مالاً ثابتاً بالموت، فتكون كدية الخطأ، سوى أنّ تلك عينيّة(2) وهذه تخييريّة.
وأمّا على ما هو الحقّ الموافق للمشهور - من كون الثَّابت ابتداءً في العمد هو القصاص، وإنَّما الورثة لهم أنْ يصالحوا عن ذلك بالمال مساوياً للدِّية، أو زائداً عليها، أو ناقصاً عنها، فيكون مالاً ثابتاً بعد الموت - فللأخبار الّتي منها ما هو صريح في ذلك، كخبر أبي بصير، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (علیهما السلام)، قال: قلت: فإنْ هو قُتل عمداً، وصالح أولياؤه قاتله على الدّية، فعلى مَنْ الدّين، على أوليائه من الدّية، أو على إمام المسلمين؟ فقال: (بل يؤدّوا (3) دينه من ديته الّتي صالح عليها أولياؤه، فإنَّه أحقّ بديته من غيره)(4).
ص: 413
ومنها ما هو ظاهر فيه، كرواية عبد الحميد بن سعيد، قال: سألت أبا الحسن الرِّضا (علیه السلام) عن رجل قُتل وعليه دينٌ، ولم يترك مالاً، وأخذ أهلُه الدّية من قاتله، أعليهم أنْ يقضوا الدَّين؟ قال (نعم). قلت: وهو لم يترك شيئاً. قال: (أمّا إذا أخذوا الدّية فعليهم أنْ يقضوا الدَّين)(1).
وفي رواية يحيى الأزرق، عن أبي الحسن (علیه السلام) في رجل قُتل وعليه دين ولم يترك مالاً، وأخذ أهله الدّية(2) من قاتله، أعليهم أنْ يقضوا دَينه؟ قال: (نعم). قلت: هو لم
ص: 414
يترك شيئاً. قال: ( إنَّما أخذوا الدّية فعليهم أنْ يقضوا دَينه)(1). وهما ظاهران في العمد من حيث إنّ دية الخطأ إنّما تؤخذ من العصبة، لا من القاتل.
اللهمّ إلَّا أنْ يقال: إنّ شبيه العمد الّذي حكمه حكم الخطأ في ثبوت الدّية يؤخذ فيه الدّية من القاتل.
لكنَّ في الاستدلال بترك الاستفصال كفايةً.
على أنَّه يمكن أنْ يقال: إنَّ قوله (علیه السلام) في الرِّواية الأُولى ( أمَّا إذا أخذوا الدّية فعليهم أنْ يقضوا الدَّين) كاد أنْ يكون كالصَّريح في الدّية العمديّة، فإنّ (أمّا) دالّة على التَّفصيل وأنّ هناك شيئاً آخر، فهو في قوّة قوله (علیه السلام) (وأمّا إذا لم يأخذوا الدّية بل استوفوا حقّ القصاص فليس عليهم ذلك)، وكذا قوله في الرِّواية الثَّانية (إنّما أخذوا الدّية فعليهم أنْ يقضوا دَينه) فإنَّ الحصر المستفاد من (إنّما) يدلّ على أنّ هناك شيئاً آخر كان يمكن أخذه، وأنّهم لو أخذوه لما كان عليهم قضاء الدَّين، وليس هو إلَّا القصاص.
وهذه الأخبار وإنْ كانت خاصَّة في الدَّين إلَّا أنَّ الظَّاهر أنّ ذلك إنَّما هو من حيث الحكم بكونها من أمواله، فيجري عليها جميع الأحكام حتّى الوصايا وما بحكمها، كما يعطيه قوله (علیه السلام) في خبر أبي بصير (فإنَّه أحقّ بديته من غيره). بل منه يستفاد أنّ الحكم في الدّية العمديّة على مقتضى القاعدة أيضاً؛ فإنَّها عوض نفس المقتول فتكون له أوّلاً، ثُمَّ تنتقل منه إلى ورثته.
ومن هنا تطابقت النُّصوص والفتاوى على كونها بعد الصلح إرثاً، يرثها كلّ مناسب
ص: 415
ومسابب وإنْ كان ممّن لا يرث حقّ القصاص.
وفي خبر إسحاق أنّ رسول الله 7 قال: (إذا قُبِلَت دية العمد فصارت مالاً فهي ميراث كسائر الأموال)(1) فإنَّ الحكم بكونها ميراثاً يقضي باحتسابها من التَّركة المفروض كون ثلثها للميّت، فتمضي فيه وصاياه وما بحكمها. بل لولا الإجماع والنُّصوص أمكن أنْ يُقال باختصاصها بالميّت حتّى في دية الخطأ، من حيث إنّها عوض عن نفسه لم تكن له قبل موته، فليست من متروكاته ليرث الورثة منها، ولازم ذلك صرفها في مصارفه أو التَّصدّق بها عنه.
السَّادس: الظَّاهر أنَّ دية الجناية عليه بعد الموت كقطع رأسه - حيث إنّ فيه مائة دينار على ما دلّت عليه جملة من الأخبار(2)، والجناية على سائر أطرافه بما يوجب الدّية، أو الأرش على ما ذكروه في باب الديات(3) - لا يجري عليها حكم الإرث، بل هي للميّت يُحجّ بها عنه، أو يُتصدّق بها عنه؛ وذلك للأخبار الدَّالّة عليه:
ففي مرسل محمّد بن الصباح، عن أبي عبد الله (علیه السلام) بعدما سُئِلَ عن أنّها لمن هي؟ قال (علیه السلام): ( ليس لورثته فيها شيء، إنَّما هذا شيءٌ صار إليه في بدنه بعد موته يُحجُّ بها عنه، أو يُتصدّق بها عنه، أو يُصرف في سبيل من سبل الخير) (4).
ص: 416
وفي حسن سليمان(1) بن خالد الطَّويل عن أبي عبد الله (علیه السلام) بعد الحكم بأنَّ في قطع رأس الميّت مائة دينار، وأنَّه مثل دية الجنين في بطن أُمّه وأنَّ دية الجنين لورثته، قال (علیه السلام): (وأنّ هذا إذا قطع رأسه، أو شقّ بطنه فليس لورثته، إنّما هي له دون الورثة). قلت: وما الفرق بينهما؟ فقال (علیه السلام): (إنّ الجنين مستقبل مرجوّ نفعه، وأنّ هذا قد مضى وذهبت منفعته، فلمّا فُعل به بعد موته صارت ديته بتلك المُثلة له، لا لغيره، يُحجّ بها عنه، أو يُفعل بها من أبواب الخير والبرّ صدقة، أو غيرها)(2).
وقد عمل بهما الأصحاب بل عن الخلاف(3) والغنية(4) أنّ عليه الإجماع.
نعم، حُكي عن المرتضى(5) والحلّي(6) أنّها تكون لبيت المال، ورُبَّما يستدلّ لهما بخبر
ص: 417
إسحاق بن عمّار، قال للصّادق (علیه السلام): فمن يأخذ ديته؟ قال: (الإمام (علیه السلام) (1)، هذا لله)(2). وبأنَّها عقوبةُ جناية لا دليل على تعيّن مصرفها.
ويردّ الأوّل: أنّه لا مقاومة له على معارضة تلك الأخبار المعمول بها.
على أنّه يمكن حمله على الدَّفع إلى الإمام
(علیه السلام) ليصرفه في مصارف الميّت وإنْ كان بعيداً مخالفاً لظاهره.
والثَّاني: بتعيّن مصرفه بمقتضى الأخبار السَّالفة فالعمل بها متعيّن، وحينئذ فمقتضى القاعدة وجوب قضاء ديونه وإنفاذ وصاياه وما بحكمها منها؛ لأنَّ المفروض ثبوت كون الدّية المذكورة له، ولا ريب في تقدّم هذه الأُمور على الصَّدقة، وسائر وجوه البرّ كما هو واضح.
السَّابع: الظَّاهر أنَّ الثُّلث شائع في تمام التَّركة ولو كانت الوصيَّة وما بحكمها في خصوص عين معيّنة، فإنَّه لا يتعيَّن الثُّلث فيها بحيث يخرج عن الإشاعة؛ فإنَّ عدم جواز التَّعدّي عن تلك العين لا يوجب القسمة القهريَّة بين الميّت والوارث فلا يُخرَج عنها إلَّا بالقسمة، ولازم ذلك أنَّه لو نقصت بعد الموت وقبل القسمة، أو زادت كذلك بالنّماء، أو ارتفاع القيمة السُّوقية كان ذلك جارياً في الجميع قضاءً لما توجبه الإشاعة ولو كان النُّقصان أو الزّيادة مختصّاً في سائر الأعيان ممّا عدا المُوصى به، أو كان ثابتاً فيه
ص: 418
دونها؛ وذلك لأنّّ الثُّلث المشاع بالفرض يزيد وينقص بذلك. فلو فُرض كون المُوصى به خارجاً من الثُّلث حين الموت فنقصت التَّركة قبل القسمة بحيث لا يخرج منه بعد ذلك لا يحكم بنفوذه وإنْ كان محلّه معيّناً، وكذا العكس.
الثَّامن: إنّ الوصيَّة إذا كانت بعين معيَّنة فلا إشكال في أنَّ النَّقص الحاصل في المال بعد الموت وقبل القسمة المؤثّر في نقصان الثُّلث لا يؤثّر في نقصان الموصى به إذا كان الثُّلث بعد نقصانه وافياً به، كما لا إشكال في تأثيره في ذلك لو كانت الوصيَّة بحصّة مشاعة كربع المال - مثلاً -. فلو فرض أنَّ الثُّلث بعد نقصانه - بسبب التَّلف الحاصل بعد الموت وقبل القسمة - وافٍ بربع المال حين الوصيَّة، أو حين الموت لم يجب إنفاذه؛ لورود النَّقص على المُوصى به المفروض إشاعته بالنّسبة كغيره. إنَّما الإشكال فيما لو كانت الوصيَّة بمقدار معيّن - كمائة دينار- فهل يرد النَّقص عليه أم لا؟ وجهان: مبنيان على كونه من قبيل الكلّي في المعيّن، أو أنَّه منزَّل على الكسر المُشاع، فتكون الوصيَّة بالمائة دينار - مثلاً - راجعةً إلى الإيصاء بربع المال لو فرض كونه أربعمائة، أقواهما الأوَّل، كما هو الحقّ في نظائره. ولازم ذلك وجوب الإنفاذ ما دام الثُّلث وافياً به ولو طرأ النُّقصان عليه بسبب نقصان المال.
التَّاسع: رُبَّما يُستشكل على ما ذكره الأصحاب كالمحقّق في الشَّرائع(1) والشَّهيد في اللُّمعة(2) وغيرهما(3) - من أنَّ المدار في الثُّلث على وقت الوفاة - بأنَّه: كيف ينطبق على ما
ص: 419
ذُكر! مع أنَّه قد ينقص بالتَّلف الحاصل قبل القسمة وبعد الوفاة، وقد يزيد بالنّماء المتجدّد، أو ارتفاع القيمة، أو أخذ الدّية الخطئيَّة، أو العمديّة، أو قبول الوارث للوصيّة لمورّثه إذا مات بعد موت الموصي الأوّل وقبل قبوله، وغير ذلك من الزّيادات الخارجيَّة الحاصلة بعد الموت إذا كانت بسبب حقّ سابق - الّتي تقدَّم تفاصيلها في الأمر الثالث -، وعلى هذا فيلزم جعل المدار فيه على وقت القسمة مع الوارث، ووقت حصول تلك الزِّيادات المذكورة، لا وقت الوفاة. وقد نبَّه على هذا الإشكال الشَّهيد الثَّاني(1) والمحقّق الثَّاني (قدس سرهما) (2).
ويمكن الجواب عن ذلك بأحد أمرين على سبيل منع الخلوّ:
إمَّا كون كلامهم مبنيّاً على الغالب من عدم تغيّر الثُّلث عن حال الوفاة، لا زيادة ولا نقصاً، وبقاء تركة الميّت على حالها الّتي كانت عليه حين الوفاة إلى حين القسمة.
وإمَّا بأنَّه مسوق للردّ على بعض الشَّافعية القائل بكون العبرة بوقت الوصيَّة(3)، فيكون إطلاق كلامهم مسوقاً لبيان أمر آخر، فلا يؤخذ به خصوصاً، وقد صرّح بعضُ من عبَّر بتلك العبارة وما شابهها بجملةٍٍ من تلك الأحكام الّتي ذكرناها.
ص: 420
نعم، حُكي عن الدُّروس(1) أنَّه قال: (والمعتبر الثُّلث حين الوفاة، لا حين الوصيَّة، ولا ما بينهما، ولا ما بعد الوفاة؛ لأنَّه الوقت الّذي تنتقل فيه التَّركة إلى الوارث)(2). وربّما أشكل تأتّي التَّوجيه فيه بحيث ينطبق على ما ذكرناه، فتأمّل.
العاشر: قد عرفت إشكال المحقّق الثاني والشهيد الثاني (قدس سرهما) في صورة الوصيَّة بالجزء المشاع كالثُّلث - مثلاً - بالنّسبة إلى خروجه من مجموع المال، حتّى الزّيادة المتجدّدة قبل الموت وبعد الوصيَّة الرّاجع إلى مرحلة استكشاف مراد المُوصي.
وقد أجاب عنه في الحدائق ب-: أنَّ مقتضى إطلاق الوصيَّة دخول هذا الفرد وهذه الزّيادة المتجدّدة، خصوصاً إذا كانت كثيرة - الّتي رُبَّما يتوهّم عدم انصراف الإطلاق إليها - معلومة للمُوصي وقت الوفاة. والاعتبار - كما عرفت - إنَّما هو بوقت الوفاة، فعدم العدول عن الوصيَّة السَّابقة على ذلك مع علمه ومعرفته بهذه الزّيادة يقتضي العمل بإطلاق الوصيَّة ودخول هذا الفرد فيها(3).
وهو وإنْ كان حسناً لكن يمكن الجواب بنحو آخر، وهو:
أنّ المفهوم عرفاً من الوصيَّة بالثُّلث - مثلاً - إرادة مصداقه عند الموت الّذي هو محلّ الانتقال. واتّفاق مصداقه قبله لا يقتضي تقييد ذلك به إلَّا أنْ يفرض قيام القرائن على إرادة التقييد. وهو خارج عن محلّ الكلام(4).
لكنْ لا يخفى أنّ كلّا ً من الجوابين لا ينفع بالنّسبة إلى الزِّيادة الخارجيّة المتجدّدة
ص: 421
بعد الموت كالدّية بقسميها، مع أنَّ الأخبار السَّالفة في الدّية الخطئيّة صرّحت بخروج الثُّلث منها فيما إذا كانت الوصيَّة بالجزء المشاع كالثُّلث - مثلاً -، فلا بُدَّ في توجيه ذلك من دعوى الظُّهور العرفي في مثل ذلك بإرادة ثلثِ كلّما يثبت له من المال ولو فيما بعد الموت، كما هو ليس بالبعيد، والله العالم.
إذا عرفت ذلك فنقول: لم يُعلم المراد من قول السَّائل (بل قد يستكشف انتفاء الإجماع من خلافهم في المراد من الثُّلث الموصى به)، فإنْ أراد بذلك الإشارة إلى إشكال الشَّهيد والمحقّق [الثّانيين](1) بالنّسبة إلى الزّيادة المتجدّدة بعد الوصيَّة وقبل الموت، بتقريب: أنَّهما إذا خالفا في ذلك وقالا بعدم نفوذ الوصيَّة بالثُّلث فيها من حيث حدوثها بعد الوصيَّة فكأنّهما يقولان بعدم نفوذ الوصيَّة في المال المتجدّد بعدها، وأنَّها لا تنفذ إلَّا في المال الموجود حينها، فيلزمهما القول بعدم صحّة الوصاية بالولاية على من تجدّد بعدها من الأولاد، وأنَّها لا تصحّ إلَّا فيمن كان موجوداً حينها.
ففيه: أنَّك قد عرفت أنَّ إشكالهما، أو خلافهما إنَّما هو في مرحلة استكشاف مراد المُوصي، بدعوى: عدم شمول وصيّته للزّيادة المتجدّدة، وإلّا فلو صرّح بإرادة ذلك، أو دلّت القرائن عليه فلا إشكال لهما ولا لغيرهما بالصّحّة والنّفوذ كما عرفت.
وإنْ أراد الإشارة بذلك إلى ما ربّما استُظهر من كلام مَنْ جعل المدار في الثُّلث على وقت الوفاة؛ حيث يظهر منه عدم النفوذ في المال المتجدّد بعد الوفاة كالدّية بقسميها وما شابهها، بتقريب: أنّهم إذا خالفوا في ذلك وحكموا بعدم النفوذ للوصيَّة في المال المتجدّد بعد الموت ولو صُرّح بإرادة إخراج الثُّلث منه فيلزمهم الخلاف في الوصاية
ص: 422
بالولاية على من يتجدّد من الأولاد بعد موت الموصي ولو قامت القرينة على إرادة التَّعميم لهم، وذلك يتصوّر فيما إذا كانت الوصاية من الجدّ؛ لانحصار الولاية به من حيث انتفائها عن الأب برقٍّ، أو كفرٍ - مثلاً -.
ففيه: أنَّك قد عرفت فساد هذا الاستظهار، فإنَّ كلامهم إمَّا مبنيّ على الغالب، أو مسوق لبيان حكم آخر، وإلّا فهم مصرّحون بنفوذ الوصيَّة من الدّية بقسميها.
وإنْ أراد الإشارة بذلك إلى خلاف ابن إدريس في الدّية العمديّة؛ حيث صرّح بعدم إخراج ديون الميّت منها، ويلزمه عدم نفوذ الوصيَّة فيها بالأَولى، فيُستكشف خلافه بالوصاية بالولاية بالنسبة إلى من تجدّد بعدها من الأولاد بالتَّقريب السَّالف.
ففيه: أنَّ خلافه في ذلك ليس من جهة أنَّها مالٌ تجدّد للميّت بعد الموت فلا تنفذ الوصيَّة فيه، بل من جهة دعوى أنَّها - أي الدّية العمديّة - ليست مالاً للميّت، وإنَّما هي مالٌ للورثة استحقّوه بالصّلح عن حقّ القصاص الثَّابت لهم؛ ولهذا صرّح بعدم خروج الدّيون منه، مع أنَّ الدَّين لا يفرّق فيه بين المال الطَّريف(1) والتَّالد(2)، بل متى ثبت
ص: 423
كونه مالاً للميّت وجب إخراج الدَّين منه.
ويدلّك على ذلك أيضاً أنَّه صرّح بخروج الدَّين من دية الخطأ الّذي يلزمه خروج الوصيَّة أيضاً منها، مع أنَّها إنَّما تجدّد استحقاقها بالموت. ولنذكر لك كلامه في هذا الباب ليتّضح لك ما ذكرناه:
قال (قدس سره) في السَّرائر في باب قضاء الدَّين عن الميّت - بعد أن نقل كلام الشَّيخ (قدس سره) في النّهاية الّذي حاصله التَّسوية بين الدِّية بقسميها في وفاء الدَّين منها - (1)ما نصّه: (والّذي يقتضيه أُصول مذهبنا وما عليه إجماع طائفتنا أنّ قتل العمد المحض موجبه القود فحسب دون المال، والله تعالى قال في محكم التَّنزيل: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾(2)، وقال تعالى: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً﴾(3)، ولا يُرجَع عن هذه الأدلّة بأخبار الآحاد الّتي لا توجب علماً ولا عملاً. والأوْلى أنْ يُخصَّ ما ورد من الأخبار بقتل الخطأ؛ لأنَّ قتل الخطأ يوجب المال بغير خلاف دون القود، فكأنَّما الميّت خلّف مالاً واستُحِقّ بسببه مالٌ فيُقضى به دينه.
وأمّا قتل العمد المحض فإنَّه يوجب القود دون المال فكأنَّ الميّت ما خلّف مالاً ولا يُستحقّ بسببه مال، فإنْ عَفَتْ الورثة واصطلح القاتل والورثة على مالٍ فإنَّهم
ص: 424
استحقّوه بفعلهم وعفوهم. وفي قتل الخطأ ما استحقّوه بعفوهم، بل بسبب الميّت؛ لأنَّهم لا يستحقّون غيره. وفي قتل العمد المحض استحقّوا القود دون المال، فمن أبطله عليهم ودفعه عنهم فقد أبطل سلطانهم الّذي جعله الله لهم وخالف ظاهر التَّنزيل، وأبطل القود إذا لم يُؤدّوا إلى صاحب الدَّين الدّية، وأسقطوا اللّطف الّذي هو الزجر في قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾؛ لأنَّ من عَلِمَ أنَّه يُقتل إذا قَتل كفّ عن القتل، فحيي هو ومن يريد أنْ يقتله. وأيضاً فصاحب الدَّين لا يستحقّ إلَّا ما خلَّفه الميّت من الأموال وكان مملوكاً له في حياته، أو مالاً مستحقّاً بسببه - على ما قلناه في قتل الخطأ - لأجل الإجماع والأخبار على قتل الخطأ؛ لأنَّ موجبه المال، وقتل العمد المحض لا مال، ولا موجبه المال، فمِنْ أين يستحقّ صاحب الدَّين المال، ويمنع من القود حتّى يأخذ المال!)(1) انتهى.
وكلامه هذا كما ترى ظاهر أشدّ الظُّهور فيما ذكرناه.
وإنْ أراد الإشارة بذلك إلى خلاف المرتضى والحلّي في دية الجناية عليه بعد موته - كما إذا قطع رأسه بعد الموت -، ويكون الوجه في الملازمة بين خلافهم في ذلك وخلافهم في مسألة الوصاية هو الوجه الّذي مرّ تقريبه في الدّية العمديّة.
ففيه: أنَّ الجواب بداهة أنَّ خلافهما في ذلك - كما عرفت - مبنيٌ على إنكار كون الدّية المزبورة للميّت، بل هي لبيت المال - كما عرفته تفصيلاً -، ولذا التزما بعدم وفاء ديونه منها، فليس خلافهما من جهة أنَّه مالٌ متجدّد بعد الوصيَّة فلا تنفذ فيه، ليستكشف منه الخلاف في الوصاية بالولاية لمن تجدَّد بعدها من الأولاد.
ص: 425
وأمّا المسألة الثانية - وهي مسألة الوصيَّة للمعدوم - فمجمل الكلام فيها: أنَّها إمَّا أنْ تكون تمليكيَّة، أو عهديَّة.
والتَّمليكيّة: إمَّا أنْ يكون المقصود فيها التَّمليك حال عدمه، فبعد وجوده يستكشف ملكيّته من حين العدم، فالنَّماءات الحاصلة وقت عدمه كلّها له.
وإمَّا أنْ يكون المقصود ملكيّته حال الوجود كما في الوقف بالنّسبة إلى البطون اللّاحقة.
والعهديّة الّتي لا يُقصد فيها إنشاء التَّمليك: إمَّا أنْ يُقصد فيها إنشاء الاستنابة، أو لا، بل يَعهد في إعطاء شيءٍ، أو وقفه، أو نحو ذلك لمن يتولّد من فلان.
والّتي قُصد فيها إنشاء الاستنابة: إمَّا أنْ يُقصد ثبوتها له حال عدمه، وإمّا أنْ يُقصد ثبوتها له على تقدير الوجود.
وظاهر الأصحاب التَّسالم على بطلان الوصيَّة للمعدوم على الإطلاق(1).
نعم، ذكر في الجواهر أنَّ إطلاقهم غير ناظر إلى العهديّة بمعنى العهد في إعطاء شيء، أو وقفه لمن يوجد بعد ذلك، بقرينة عدم تأتّي استدلالهم على البطلان بالنّسبة إليه(2). كما ليس بالبعيد.
وقد صرّحوا بالبطلان في الوصيَّة التَّمليكيّة:
قال المحقّق في الشَّرائع: (الرَّابع: في الموصى له. ويُشترط فيه الوجود، فلو كان معدوماً لم تصحّ الوصيَّة له، كما [لو](3) أوصى لميّتٍ، أو لَمِنْ ظنّ وجوده فبان ميّتاً عند
ص: 426
الوصيَّة، وكذا لو أوصى بما تحمله المرأة، أو لمن يوجد من أولاد فلان)(1).
وفي التَّذكرة، وجامع المقاصد(2)، وعن نهج الحقّ(3) دعوى الإجماع على ذلك، قال في التَّذكرة: (وإنْ كانت لمعيّن فشرطه أنْ يُتصوّر فيه الملك، وإنَّما يتحقّق هذا الشَّرط لو كان المُوصى له موجوداً، فلو أوصى للمعدوم لم تصحّ وصيّته إجماعاً، وكذا لو أوصى لميّت، أو لَمِنْ ظنّ وجوده فبان ميّتاً حال الوصيَّة؛ لأنَّ الوصيَّة تمليك، وهو غير مستحقّ في الميّت. ولا فرق بين أنْ يعلم بموته حال الوصيَّة، أو يجهل ذلك ويتوهّم حياته ثمّ يظهر موته حال الوصيَّة. وبه قال أكثر العامّة(4). وقال مالكْ: إنْ علم بموته صحّت الوصيَّة له، وكان المُوصى به تركته(5). وهل يشترط التَّعيين؟ الأقرب ذلك، فلو أوصى لأحد الشَّخصين لم يصحّ، وكذا لو أوصى لما تحمله المرأة من بعد الوصيَّة، أو لَمِنْ يوجد من أولاد فلان)(6).
وقال بعد ذلك في مسألة الحمل: (ولو صرَّح وقال: (أوصيت لحملها الّذي سيحدث ويكون من بعد) فإنَّ الوصيَّة باطلة على ما تقدَّم. وللشَّافعيّة وجهان:
أصحّهما هذا؛ لأنَّ الوصيَّة تمليك على ما بيّنا، وتمليكُ من لم يوجد بعد محالٌ. ولأنّه لا متعلّق للعقد في الحال، فأشبه ما إذا وقف على مسجد سيُبنى.
ص: 427
والثَّاني: أنَّ الوصيَّة صحيحة كما تصحّ بالحمل الّذي سيوجد، فإذا جاز تملّك من لم يوجد جاز تمليك من لم يوجد.
ولهم وجه ثالث، وهو: النَّظر إلى حال الميراث فإنْ كان الحمل موجوداً حينئذ صحّت الوصيَّة، وإلّا فلا)(1) انتهى. وهذا في الوصيَّة التَّمليكيّة.
وأمّا العهديَّة فهم وإنْ لم يصرّحوا بذلك فيها إلَّا أنَّ ظاهرهم مسلّمية ذلك والمفروغيّة عنه بالنّسبة إلى العهديّة الّتي يُقصد فيها إنشاء الولاية والاستنابة.
نعم، ذكروا الخلاف في شرائط الوصيّ - من البلوغ، والعقل، والحرّية، والإسلام، وغيرها - أنّه هل يُشترط وجودها حال الوصيَّة، أو يكفي وجودها حال الوفاة.
قال في الشَّرائع: (الصِّفات المراعاة في الوصيّ تُعتبر حالة الوصيَّة. وقيل: حين الوفاة. فلو أوصى إلى صبيّ فبلغ، ثُمَّ مات المُوصي صحّت الوصيَّة. وكذا الكلام في الحرّيّة، والعقل. والأوَّل أشبه)(2) انتهى.
وكيف كان، فما أدري من أين حصل للسَّائل الإجماع بجواز الوصيَّة للمعدوم، حتّى تخيّل استدلال القائل بجواز الوصاية بالولاية لمن تجدّد بعدها من الأولاد به، فأجاب عنه بعدم استلزامه لما نحن فيه بالضَّرورة!
ولعلَّه اختلط عليه ذلك بمسألة الوصيَّة بالمعدوم فإنَّهم صرَّحوا بجوازها.
قال في التَّذكرة:(وتصحّ الوصيَّة بالمنافع المتجدّدة إجماعاً. وكذا عندنا بثمار الأشجار. وللشَّافعيّة فيه قولان)(3).
ص: 428
وفي الشَّرائع: (وتصحّ الوصيَّة بالحمل، وبما تحمله المملوكة، والشَّجرة، كما تصحّ الوصيَّة بسكنى الدار مدّة مستقبلة)(1).
وفي القواعد بعد أنْ اشترط في المُوصى به أنْ يكون موجوداً، قال: (ولا نعني بالموجود كونه موجوداً بالفعل حال الوصيَّة، بل ما يمكن وجوده، فلو أوصى بما تحمله الجارية، أو الدَّابة، أو بالثَّمرة المتجدّدة في العام المقبل، أو بأُجرة السَّنة المستقبلة صحّ لأنَّها في تقدير الموجود)(2).
وفي جامع المقاصد في شرح هذا الكلام، قال: (بل ينبغي أنْ يُقال: لو أوصى بما يتجدّد له تملّكه ولو على وجه النّدرة - كما يتجدّد له بشراءٍ وهبةٍ وإرثٍ ونحو ذلك - صحّ؛ لأنّ وجود ذلك ممكن، وقد قُرِّر أنّ الشَّرط إمكان وجوده) (3).
وفي الجواهر في شرح الكلام السَّالف عن الشَّرائع: ( أنَّه لا إشكال ولا خلاف في الصّحّة لإطلاق أدلّة الوصيَّة، فلا يقدح كونه معدوماً حالها؛ لأنّه يكفي فيها احتمال الوجود فيما يأتي وإنْ لم يكن من شأنه الوجود كالوصيَّة بما يشتريه، أو يتّهبه في مستقبل الأزمنة - إلى أنْ قال - بل ظاهرهم عدم الفرق في الوصيَّة المزبورة بين العهديّة والتَّمليكيّة)(4) انتهى.
والحاصل: يمكن أنْ يكون مقصود السَّائل هو الوصيَّة بالمعدوم، فإنَّه الّذي ادُّعي الإجماع على جوازه، لا الوصيَّة للمعدوم الّذي عرفت الإجماع على عدم جوازه.
ص: 429
وأيّاً ما كان فإنْ شئت تحقيق الحقّ في ذلك فاعلم:
أنَّ المعدوم حال عدمه لا يعقل تمليكه ولا تملّكه؛ لعدم قابليته لذلك، فإنَّ الملك من الصّفات الوجوديّة الّتي لا يعقل قيامها بالمعدوم حال عدمه، ومرجع ملك المعدوم إلى الملك بلا مالك في الوصيَّة للمعدوم، وإلى الملك بلا مملوك في الوصيَّة بالمعدوم. كما أنّ النِّيابة والولاية أيضاً من الصِّفات الوجوديّة الّتي لا يعقل قيامها بالمعدوم حال عدمه، فمرجع نيابة المعدوم وولايته إلى النِّيابة والولاية بلا نائب ولا ولي، والولاية على المعدوم إلى الولاية بلا مُوّلى عليه، فلا فرق في بطلان ذلك بين الوصيَّة العهديَّة والتَّمليكيّة، ولا بين المُوصى به والموصى له في التَّمليكيَّة، ولا بين الولي والمُولّى عليه في العهديّة. وهذا واضح لا يحتاج إلى برهان ومزيد بيان.
وأمَّا المعدوم باعتبار حال وجوده فيُعقل إنشاء تمليكه، وتملّكه، وولايته، والولاية عليه، فيكون الإنشاء المذكور مُؤثّراً في حدوث تلك الصفات له بعد وجوده، فيكون الوجود أحد أجزاء العلّة التامّة في ترتّب تلك الصِّفات، كما في الوقف بالنّسبة إلى البطون اللَّاحقة، فإنَّه إنَّما يُؤثّر بالنّسبة إليهم بعد الوجود من حينه، لا أنَّه يكشف عن مشاركتهم للبطن الأوَّل من أوَّل الأمر، ولازم ذلك أنْ كلّما كان من هذا القبيل يمكن تصحيحه بالعمومات والإطلاقات إنْ لم يكن فيها قصور عن شموله في حدّ ذاتها، إلَّا أنْ يقوم دليل خاصّ من إجماعٍ أو غيره على الخلاف، وحيث إنَّ عمومات الوصيَّة وإطلاقاتها لا قصور فيها في حدّ ذاتها عن شمول مثل ذلك، والقصور من حيث عدم المعقوليّة قد عرفت انتفاءه، فاللازم الحكم بأنَّ الصّحّة في ذلك هي الموافقة للقواعد إلَّا أنْ يقوم دليل على الخلاف، من دون فرق بين الوصيَّة التَّمليكيّة والعهديّة، ومن دون فرق في التَّمليكيّة بين المُوصى به والمُوصى له، ومن دون فرق في العهديّة بين ما يُقصد
ص: 430
فيها إنشاء الولاية وما يُقصد فيها العهد بإعطاء شيء، أو وقفه.
إلّا أنَّك قد عرفت أنَّ الأصحاب فرّقوا بين هذه الأقسام، ففرّقوا في الوصيَّة التَّمليكيّة بين المُوصى به والموصى له، فحكموا بالصّحّة في الوصيَّة بمن يتجدّد حمله، والفساد في الوصيَّة لمن يتجدّد حمله، فإنْ تمَّ إجماع كاشف على ذلك فهو، وإلّا فمقتضى القواعد عدم الفرق.
ومن هنا قال في جامع المقاصد - بعد أنْ ذكر ما جزموا به من عدم صحَّة الوصيَّة التَّمليكيّة للمعدوم - ما نصّه: (واعلم: أنَّه قد سبق في الوقف جوازه على المعدوم إذا كان تابعاً، كما لو وقف على أولاد فلان ومَنْ سيولد له، فأيّ مانع من صحّة الوصيَّة كذلك! فإذا أوصى بثمرة بستانه - مثلاً - خمسين سنة لأولاد فلان ومَنْ سيولد له فلا مانع من الصِّحّة، بل تجويز ذلك في الوقف يقتضي التجويز هنا بطريق أولى؛ لأنَّه أضيق مجالاً من الوصيَّة)(1) انتهى.
وكأنَّه أخذ ذلك من التَّذكرة، حيث قال فيها في آخر المسألة الثَّالثة من مسائل الوصيَّة للحمل ما نصّه:
(لا يُقال: يصحّ الوقف على المعدوم تبعاً للموجود ولئن تصحّ الوصيَّة أولى؛ لأنَّ الوصيَّة تصحّ بالمعدوم والمجهول بخلاف الوقف. لأنّا نقول: الوصيَّة أُجريت مجرى الميراث، ولا يحصل الميراث إلَّا لموجودٍ، فكذا الوصيَّة والوقف يُراد للدّوام فمن ضرورته إثباته للمعدوم)(2) انتهى.
وأنت ترى أنَّ هذا الجواب الّذي ذكره عن الإشكال لا يكاد يجدي في دفعه.
ص: 431
وقد أجاب عنه في المسالك بما حاصله:
إنَّ الفرق بين الوقف والوصيّة هو تبعيّة المعدوم للموجود في الوقف دون الوصيّة، وذلك لأنَّ الوصيَّة: إنْ كانت بعينٍ فمقتضى ملكيّة الموجود لها التَّصرّف بها كيف يشاء، وهو ينافي الوصيَّة بها للمعدوم المقتضي لتمليكه أيضاً. وإنْ كانت بمنفعة ملكها المعدوم بعد وجوده استقلالاً لا بتبع الموجود، وهذا بخلاف الوقف فإنّ التَّبعيّة فيه متحقّقة؛ لأنَّ الغرض من الملك في الوقف ملك العين على وجه الحبس وإطلاق الثَّمرة، فالموقوف حقيقة هو العين، وملكها حاصل للموقوف عليه الموجود، ثُمَّ ينتقل منه إلى المعدوم، وإنْ كان يتلقّى الملك من الواقف ففائدة الملك المقصودة منه متحقّقة فيهما(1).
وهو - كما ترى - لا يرجع إلى محصّل؛ فإنَّه بعد اعترافه بأنَّ المعدوم يتلقّى الملك من الواقف كانت ملكيّته استقلاليّة، غاية ما هناك أنَّها متأخّرة بحسب الوجود والزَّمان على الأُولى، وهذا لا يوجب كونها تبعيّة، وإلّا كانت التَّبعيّة حاصلة في الوصيَّة بالثَّمرة أيضاً الّتي فرض تأخّر ملك المعدوم فيها عن ملك الموجود.
ومن هنا تعلم أنَّه يلزم صاحب جامع المقاصد (قدس سره) بعد اعترافه بالصّحّة في الوصيَّة على ذلك النَّحو أنْ يقول بالصّحّة حتّى لو كانت الوصيَّة للمعدوم ابتداءً، بأنْ أوصى بالعين أو المنفعة وصيّة تمليكيّة لمن سيولد من أولاد فلان، فإنْ ضمّ الموجود في ذلك الإنشاء بحيث يثبت له الملكيّة أوَّلاً لا يكاد يوجب الفرق بينهما بمقتضى القاعدة أصلاً.
وأيّاً ما كان، فلا ينبغي الرَّيب في لزوم تنزيل ما صدر منهم من الحكم بصحّة الوصيَّة التَّمليكيَّة بالمعدوم، وصحّة بيع الثّمار، ونحو ذلك - ممّا رُبَّما يُتراءى منه القول بملكيَّة المعدوم في حال عدمه الّذي عرفت استحالته - على إرادة النّحو الثَّاني الّذي
ص: 432
مرجعه إلى استحقاق تملّك المعدوم بعد وجوده فقد ملك أن يملك(1) على نحو ملك النَّماء الّذي لم يوجد بعد لمن ملك الأصل.
وأمَّا العهديّة فقد عرفت أنَّ ظاهرهم المفروغيَّة عن البطلان فيها بالنّسبة إلى المعدوم حتّى بالنَّحو الثَّاني، وأنَّه يُشترط وجود الوصيّ حال الوصاية. لكن ذلك بالنّسبة إلى العهديّة الّتي يُقصد فيها إنشاء الولاية والنيابة. وأمَّا العهد بإعطاء شيءٍ، أو وقفه - مثلاً - فلا يبعد صحّة ما ذكره صاحب الجواهر(2) فيه من خروجه عن كلامهم، وأنَّ الحقَّ فيه هو الصّحّة، كما أنَّك عرفت خلافهم في شرائط الوصيّ من حيث اعتبار وجودها حال الوصاية، أو الاكتفاء بوجودها حال الوفاة. ولا يبعد قوّة الثَّاني، والتَّفصيل موكول إلى محلِّه.
وإذا عرفت ذلك اتّضح لك الخطأ في دعوى السَّائل الإجماع على جواز الوصيَّة للمعدوم، وأنَّ الإجماع المدّعى في لسانِ جمعٍ على العكس. كما أنَّه اتّضح لك أنَّه لو كان الإجماع قائماً على ذلك - كما ذكره - أمكن الاستدلال به لجواز الوصاية بالولاية على مَنْ تجدّد بعدها من الأولاد. بمعنى رفع الإشكال المتوجّه فيها من حيث استلزامها لإثبات الولاية على المعدوم. ومن هنا صحّ لك أنْ تتمسَّك بالإجماع الّذي ذكروه على صحّة الوصيَّة بالمعدوم لذلك؛ وذلك لما عرفت أنَّ المعدوم بالنسبة إلى جميع تلك الأحكام فيما يصحّ وفيما لا يصحّ شرع سواء، ولعلَّ ذلك يزداد وضوحاً فيما يأتي إنْ شاء الله تعالى.
وأمَّا المسألة الثَّالثة - وهي تحقيق الأصل في الوصيَّة بكلا قسميها - فيقع الكلام فيها في أُمور:
ص: 433
الأوَّل: لا يخفى أنَّ الغرض تأسيس الأصل في ذلك مع قطع النَّظر عن أدلّة الوصيَّة الدَّالّة على نفوذها في الثُّلث دون غيره، بتحقيقِ أنّ مقتضاه النُّفوذ في الجميع، وإنَّما خرجنا عنه بما دلّ على عدم النُّفوذ في الزّائد على الثُّلث. أو أنَّ مقتضاه العدم في الجميع، وإنَّما خرجنا عنه لما دلّ على النُّفوذ في الثُّلث.
والمسألة وإنْ كانت معلومة من حيث وفاء الأخبار بها(1)، لكن تأسيس الأصل فيها لا يخلو عن فائدة فيما لعلَّه يحصل من الموارد الّتي لا تفي الأخبار بحكمها ولو من بعض الجهات.
الثَّاني: لا يخفى أنَّ محلّ الكلام إنَّما هو بالنّسبة إلى الأعيان، والمنافع، والحقوق الّتي يجري فيها الميراث باعتبار ثبوت الملكيّة المطلقة فيها الغير المقيّدة بحال الحياة، وإلّا فلا إشكال في عدم نفوذها فيما كانت ملكيّته مقيّدة، كملكيَّة البطن الأوَّل للعين الموقوفة، وكالمنفعة المملوكة بالإيصاء بها له مدّة حياته، وحقّ الخيار الثَّابت له مدَّة حياته، فإنَّ التَّصرّف فيها بالنّسبة إلى ما بعد الموت باطل قطعاً ولو كان منجّزاً غير معلَّق، كما لو
ص: 434
آجر البطنُ الأوَّلُ العين الموقوفة في مدّةٍ زائدةٍ على حياتهم، فإنّ الإجارة باطلة بالنّسبة إلى الزّائد، مع أنَّه ليس فيها من التَّعليق شيء، فما ظنّك بها لو كانت معلّقة على الموت!
والحاصل: محلّ الكلام هو المورد الّذي لو كان التَّصرّف فيه منجّزاً في حال الصّحّة لكان نافذاً قولاً واحداً، أو كان في حال المرض كان محلّاً للخلاف.
الثَّالث: إنَّ الكلام في ذلك مع قطع النَّظر عن شرطيّة التَّنجّز في العقود والإيقاعات، ومانعيّة التَّعليق فيها.
وبعبارة أُخرى: إنَّ الكلام في ذلك منحصر في جهة مانعيّة حقّ الورثة الثَّابت لهم بعد الموت في تلك الأعيان، والمنافع، والحقوق، فلابُدَّ من فرض الكلام في التَّصرّف الواجد لشرائط الصّحّة من سائر الجهات الأُخر كلّها، وحينئذٍ فتتمحّض جهة الكلام في أنَّه هل للورثة حقّ في حال الحياة يوجب بطلان تصرّفاته الّتي تتعلّق بالنّسبة إلى ما بعد الموت أم لا؟ ويكون الحال فيها هو الحال في منجّزاته الواقعة في حال المرض؛ فإنَّ جهة الشَّكّ فيها أيضاً ترجع إلى ذلك.
الرَّابع: إنَّ القول بنفوذ التَّصرّفات المذكورة ليس مستلزماً لإعطاء سلطنة للميّت، وإنَّما هو من آثار سلطنة الحيّ. والقول بعدم نفوذها مستلزم للحَجْر عليه.
ومن هنا يتّضح فساد قول السائل (وإنْ يكن الأصل فهو مقطوع بانقطاع(1) سلطنة الميّت كما هو في نفس الوصيَّة بكلا قسميها، فمقتضاه المنع لولا الدَّليل):
فإنَّه إنْ أراد انقطاع سلطنة الميّت بعد موته فهذا واضح لا يحتاج إلى بيان، ولا يختلف فيه اثنان، بل لا معنى للقول بانقطاع سلطنته أو بقائها حينئذ، فإنَّه في تلك الحال
ص: 435
لا يُعقل صدور التَّصرُّفات منه لنحكم ببقاء سلطنته، أو انقطاعها.
وإنْ أراد انقطاع سلطنة الحيّ عن التَّصرّفات المتعلّقة بما بعد الموت فهذا لو ثبت فهو انقطاع سلطنة عن الحيّ لا عن الميّت، وهذا معنى ما قلناه من أنَّ ذلك مستلزم لثبوت الحَجْر عليه في ماله.
وإذا عرفت ذلك اتّضح أنَّ مقتضى الأصل في جميع تلك التَّصرّفات هو النُّفوذ في الجميع لولا الدَّليل الرَّادع عمّا زاد عن الثُّلث؛ فإنَّ مرجع الشَّكّ في ذلك إلى الشَّكّ في ثبوت حقّ للوارث يمنع عن ذلك وعدمه. والأصل عدمه، والأدلّة الدَّالّة على الإرث لا تثبت ذلك، بل غاية ما يثبت بها الانتقال إلى الوارث لو بقي المال على حاله ولم يتحقَّق فيه ذلك التَّصرّف.
فالأصل في المقام على حدّ الأصل في منجَّزاته الواقعة في حال المرض الّتي صارت محلّاً للخلاف؛ فإنَّ الشَّكّ في كلا المقامين يرجع إلى الشَّكّ في ثبوت حقّ للوارث يمنع من تصرّفاته المنجَّزة أو المعلَّقة على الموت.
وكون التَّصرّف في الثَّاني واقعاً بالنّسبة إلى زمان ملكيّة الوارث بخلاف الأوَّل ليس موجباً للفرق بينهما بعد أنْ كانت ملكيّة الوارث موقوفة على بقاء المال بحاله، وعدم وقوع التَّصرّفات فيه.
والحاصل: حيث ثبت أنْ لا مانع من نفوذ تلك التَّصرّفات إلَّا الحقّ الّذي يثبت للوارث فمتى شككنا فيه فالأصل عدمه.
وربَّما يُستدلّ أيضاً على المدّعى بالأصل - بمعنى القاعدة المستفادة من الأدلّة الاجتهاديّة، كقاعدة السلطنة -، والأدلّة العامَّة الدَّالّة على لزوم العقود والإيقاعات،
ص: 436
كقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ﴾(2)، وقوله (علیه السلام) (المؤمنون عند شروطهم)(3)، بل وخصوص إطلاقات كلّ عقدٍ وكلّ إيقاعٍ، وعموماتها الدَّالّة على الصِّحّة واللّزوم.
ولكن لا يخلو من تأمّل؛ لأنّ الشَّكّ إذا كان راجعاً إلى تعلّق حقٍّ للوارث وعدمه كان التَّمسّك بها تمسّكاً بالعموم في الشُّبهة المصداقيّة؛ وذلك لأنَّه على تقدير ثبوت الحقّ لا مجال لإجراء قاعدة السَّلطنة، ولا لغيرها من العمومات، فمع الشَّكّ كذلك.
وإنْ شئت فقل: إنَّ السَّلطنة إنَّما هي على المال الّذي لا حقَّ للغير فيه، وكذا إنَّما يجب الوفاء بالعقد إذا لم يكن متعلّقه فيه حقّ للغير، وعمومات ذلك وإطلاقاته لا تنفي ثبوت الحقّ إذا كان الشَّكّ فيه، فتأمّل.
وأيَّاً ما كان، فلا ينبغي الرَّيب في أنَّ الأصل عدم ثبوت حقٍّ مانعٍ من تصرّفاته لو شكّ في ذلك، لكن هذا لو كانت التَّصرّفات الصَّادرة منه من قبيل العقد والإيقاع المعلَّق على الموت، كالتَّمليك، والوقف، والعتق، والولاية، وما أشبه ذلك. وأمّا لو كانت الوصيَّة عهديّة - بمعنى العهد في تلك الأشياء كأنْ أوصى بوقفٍ، أو عتقٍ، أو تمليكٍ، أو نحوه - فلا يتأتّى فيه ذلك؛ إذ المال بعد باقٍ على حاله، ومقتضاه الانتقال إلى الوارث. وتعلّق حقّ للمُوصى له، أو للمُوصي بمجرّد ذلك يمنع من انتقال المال إلى الوارث، أو يوجب عليه العمل على طبق ما عهد الموصي يحتاج إلى دليلٍ، وإذا شكّ فيه
ص: 437
فالأصل عدمه.
فتلخّص أنّ الأصل في الوصيَّة يختلف باختلافها من حيث صدور تصرّف فيها من عقد أو إيقاع معلّقاً على الموت، أو العهد بإيقاع ذلك التصرّف. فمقتضى الأصل في الأوَّل النفوذ إلَّا أنْ يدلّ دليل على الخلاف، وفي الثَّاني العدم إلَّا أنْ يدلّ دليل على النُّفوذ.
ومن ذلك اتّضح لك بطلان قول السَّائل ( إنّ الأصل في الوصيَّة بكلا قسميها يقتضي المنع لولا الدَّليل ).
ثُمَّ إذا تبيّن حال المسائل الثَّلاث الّتي وقعت في كلام السَّائل فنقول في بيان الجهة المسؤول عنها:
إنَّ الوصاية بالولاية على من تجدّد بعدها من الأولاد مع قيام القرينة على إرادة التَّعميم تتصوّر على صور:
أحدها: أنْ يكون المولّى عليه حين الوصاية حملاً، ويبقى المُوصي حيّاً إلى حين ولادته من دون عدول عن وصايته.
ثانيها: الصُّورة بحالها سوى بقاء المُوصي حياً إلى حين الولادة بأنْ يُفرض موته قبل الولادة.
ثالثها: أنْ لا يكون المولّى عليه موجوداً حين الوصاية أصلاً، لا حملاً، ولا ولادةً، لكن يبقى المُوصي حياً من دون عدول عن وصايته إلى حين وجوده حملاً، أو إلى حين ولادته.
رابعها: أنْ لا يكون المولّى عليه موجوداً حين الوصاية، لا ولادةً، ولا حملاً، ولا يبقى المُوصي إلى حين وجوده، بل يموت قبل وجوده ولو حملاً. وهذه إنَّما تتصوَّر فيما
ص: 438
إذا انحصرت الولاية بالجد؛ لحصول مانع من ولاية الأب بكفرٍ أو رقٍّ - مثلاً - فأوصى الجد بالولاية على مَنْ يتجدَّد لابنه من الأولاد، ومات قبل وجودهم. وقد تتصوّر أيضاً في الأب إذا أوصى بالولاية على من يتجدَّد من أولاده، ثُمَّ مات بعد الوطء المؤثّر في الحمل لكن قبل استقرار النَّطفة الموجب لوجوده حملاً.
وتتصوّر هنا صورة أُخرى نظير هذه الصُّورة الرَّابعة - بناءً على عود ولاية الأب والجد إذا تجدّد النَّقص للولد بجنون، أو سفه وإنْ بلغ عاقلاً رشيداً - فيُفرض أنّ الأب - مثلاً - أوصى بالولاية عليه لو تجدّد نقصه وإنْ كان حين الوصاية بالغاً عاقلاً رشيداً. وقبل بيان الحكم في هذه الصور لا بُدَّ من بيان أُمور:
الأوَّل: لا إشكال ولا خلاف - ظاهراً - في ترتيب أحكام الموجود على الحمل في الجملة، لكن مراعىً ذلك بانفصاله حيَّاً، وقد صرّحوا بذلك في الإرث(1) والوصيّة التَّمليكيّة(2)، ولازم ذلك جريانه في الهبة، وغيرها من أنواع التَّمليكات، فلو انفصل حيَّاً كشف عن ملكيّته حال كونه حملاً، فالنَّماءات الحاصلة لذلك المال في مدَّة الحمل كلّها له، وهو في الإرث واضح. وكذا في الوصيَّة لو تمَّت شرائطها بأنْ قَبِل الوليّ ومات
ص: 439
المُوصي وهو حمل. وكذا في الهبة لو قبِل الوليّ وقبض له، وهذا يكشف عن تحقّق الولاية عليه فعلاً للولي، فلو باع ماله أو اشترى له صحّ ذلك، لكن صحّة مراعاةً بانفصاله حيَّاً، فلو انفصل كذلك كشف عن صحّة البيع والشِّراء من حين الحمل.
وتظهر الثّمرة في النَّماءات وغيرها، قال في القواعد في كتاب الوصية (ويصحّ للحمل الموجود - إلى أن قال - ويستقرّ بانفصاله حياً فلو وضعته ميِّتاً بطلت)(1).
وقال في جامع المقاصد في شرح ذلك:( تلوح من هذه العبارة صحّة الوصيَّة للحمل قبل الانفصال غير مستقرّة، وبانفصاله حيَّاً يتحقّق الاستقرار، كما أنَّها لو وضعته ميِّتاً بطلت، وعلى هذا فلو وضعته حيَّاً وتحقّق القبول ثبت الملك من حين موت الموصي، فيتبعه النَّماء، وهو صحيح في موضعه. ولا فرق في ذلك كلِّه بين أنْ يكون قد حلَّته الحياة في بطن أُمّه أو لا؛ لأنَّ الحياة المعتبرة هي ما بعد الانفصال اتّفاقاً، ولا فرق بين أنْ يسقط بجنايةِ جانٍ أو لا) (2) انتهى.
وفي التَّذكرة استشكل في كفاية قبول الوليّ قبل انفصاله حيَّاً، قال (قدس سره):( إذا أوصى للحمل صحَّت وكان القابل للوصيَّة أبوه، أو جدّه، أو من يلي أُموره بعد خروجه حيَّاً. ولو قبِل قبل انفصاله حيَّاً، ثمّ انفصل حيَّاً ففي الاعتداد بذلك القبول إشكال)(3) انتهى.
الثَّاني: لا إشكال ظاهراً في أنَّ بقاء المُوصي على إيصائه، أو وصيّته في قوّة الإيصاء الجديد، وقد صرَّحوا بذلك في موارد:
ص: 440
منها: مسألة إجازة الوارث في الزَّائد عن الثُّلث، فإنّهم حكموا بلزومها مطلقاً في حياة المُوصي وبعد موته، بخلاف الرَّدّ فإنَّه إنَّما يلزم إذا كان بعد الموت لا في حال الحياة. قال في المسالك: ( والفرق بين إجازة الوارث حال الحياة وردّه حيث لم يؤثّر الثَّاني دون الأوَّل: أنّ الوصيَّة مستمرّة ببقاء المُوصي عليها، فيكون استدامتها كابتدائها بعد الردّ، فلا يؤثّر، بخلاف الرَّدّ بعد الموت؛ لانقطاعه حينئذ. وبخلاف الإجازة حال الحياة؛ لأنَّها حقّ الوارث وقد أسقطه، فلا جهةَ لاستمراره. ودوام الوصيَّة يؤكّدها) (1) انتهى.
وقد نبَّه على ذلك في الحدائق في المقام وفي المسألة السَّالفة - أعني مسألة الزِّيادة المتجدّدة بعد الوصيَّة وقبل الوفاة كما مرَّ - والأصل في ذلك ما في التَّذكرة، حيث قال: (والفرق بين الرَّدّ والإجازة ظاهرٌ، فإنَّ الرَّدّ إنّما لم يعتبر حال حياة المُوصي؛ لأنَّ استمرار الوصيَّة يجري مجرى تجدّدها حالاً فحالاً، بخلاف الردّ بعد الموت والإجازة حال الحياة)(2) انتهى.
ومنها: ما ذكروه(3) فيمن جرح نفسه بالمُهلِك ثُمَّ أوصى، فإنَّهم حكموا بعدم صحّة وصيّته، وقالوا إنَّ ذلك إنَّما هو لو مات بذلك الجرح، أمَّا لو عُوفي وبقِي على وصيَته السَّالفة غير ناسٍ لها، ولا غافل عنها صحّت، وكان حكمه حكم ما لو أوصى جديداً بوصيةٍ مستأنفة.
الثَّالث: لا يخفى أنَّ هناك معنى من الولاية ثابتٌ للأب والجدّ بالنّسبة إلى أفراد
ص: 441
المُولّى عليه ولو قبل وجودهم، إلَّا أنَّه ثابت لهم بلحاظ الوجود، وهو أنَّهم ملكوا أنْ يصيروا أولياءَ عليه عند وجوده، من دون حاجةٍ إلى جعلٍ جديد وإنشاءٍ آخر، ونظيره في الملكيَّة ما إذا ملك أنْ يملك كما في تمليك المال المعدوم بالوصية، أو البيع كما في بيع الثمار.
وقد عرفت فيما تقدَّم إجماعهم على صحّة ذلك، كما عرفت إجماعهم على صحّة الوصيَّة بالنّسبة إلى المال المتجدّد قبل الموت، أو بالموت، أو بعده. وكما صحّ أنْ يجعله وصيّاً على المال المتجدّد له الغير الموجود حين الوصيَّة كذلك صحّ أنْ يجعله وليّاً على الولد الّذي يتجدّد له، وكما أنّ الوصاية بالولاية فرع وجود الولاية فكذلك الوصيَّة بالمال فرع تملّكه، وكما أنَّ الملك له بلحاظ وجوده كافٍ في الصّحَّة فلذلك الولاية بلحاظ الوجود كافٍ في ذلك أيضاً.
وإذا عرفت هذه الأُمور اتّضح لك أنَّه لا ينبغي الرَّيب في الحكم بالصحّة في جميع الصُّور الأربع السَّالفة:
أمّا الصُّورة الأُولى فلأنَّه قد فُرِضَ فيها كون المُولّى عليه موجوداً حملاً، وكون المُوصي باقياً على وصايته إلى حين الولادة، وكلّ منهما سبب مستقل في الصِّحّة - كما عرفت ذلك في الأمر الأوّل والثَّاني.
وأمّا الثَّانية فلأنَّه وإنْ تخلَّف فيها الثَّاني، إلَّا أنَّه يكفي في صحّتها الأوَّل؛ فإنَّه قد فُرض فيها وجود المُولّى عليه حملاً وإنْ لم يبقَ الموصي حيَّاً إلى حين الولادة.
وأمّا الثَّالثة فهي على عكس الثَّانية، فإنَّه وإنْ تخلّف فيها الأوَّل، إلَّا أنَّه يكفي الثَّاني في صحّتها؛ فإنَّه قد فُرض فيها بقاء المُوصي حيَّاً إلى حين الحمل أو الولادة وإنْ لم يكن المولّى عليه موجوداً حين الوصاية لا حملاً، ولا ولادة.
ص: 442
وأمّا الرَّابعة فهي على عكس الأُولى حيث انتفى فيها الأمران معاً، فلم يكن المولّى عليه موجوداً فيها لا ولادةً، ولا حملاً، ولم يبق المُوصي حيَّاً إلى حين الولادة أو الحمل.
والظَّاهر أنَّها هي الّتي استشكل فيها السَّائل، وقد أصاب في قوله ( فلم نجد في مختصرٍ لأصحابنا ولا مطوَّل فرض المسألة)، فإنَّي لم أرَ أيضاً من تعرَّض للمسألة صريحاً سوى كاشف الغطاء في شرحه على القواعد، حيث قال بعد قول العلّامة - والوصي إنَّما ينفذ تصرُّفه بعد الموت مع صغر المولّى عليه أو جنونه - ما نصّه: (مطلقاً بشرط وجوده متّصفاً بإحدى الصِّفتين حين الوصيَّة أو مطلقاً)(1) انتهى.
ويظهر منه (عليه الرحمة) التَّردّد في ذلك، واحتمال اشتراط وجوده حين الوصيَّة متّصفاً بإحدى الصِّفتين، إلَّا أنَّك ممّا ذكرناه في الأمر الثَّالث تعرف أنّ الحقّّ هو الصّحّة للعمومات.
واحتمال السَّائل تخصيصها واضح الفساد؛ لعدم وجود المخصّص، وبطلان التَّخصيص بلا مخصّص لا يحتاج إلى بيان.
وأمَّا احتمال التَّخصّص ولو لتفرّع الولاية على وجود المولّى عليه فقد عرفت اندفاعه بما بيَّناه في الأمر الثَّالث من ثبوت معنى للولاية ولو قبل وجود المولّى عليه، وباعتباره تصحّ الوصاية.
هذا، إذا كان الإشكال من جهة عدم وجود المولّى عليه، وإنْ كان من جهة موت المُوصي في زمان وجود المولّى عليه فليس له ولاية عليه من حيث موته في ذلك الزَّمان، فيرجع الإشكال إلى عدم وجود الوليّ في زمان وجود المولّى عليه.
ص: 443
ففيه: أنَّ هذا مشترك الورود؛ إذ هو ثابت حتّى في الموارد الّتي لا إشكال في صحّة الوصاية بالولاية فيها لموارد وجود الولد حين الوصاية، إذ من المعلوم أنَّ الوصيّ إنَّما تثبت له الولاية باعتبار زمان موت المُوصي، وإلَّا ففي حال حياته لا يثبت للوصيّ ذلك قطعاً، بل هذا جارٍ في الوصيَّة بجميع أقسامها من التَّمليكيّة والعهديّة؛ فإنَّ الملك إنَّما يحصل بالموت، وكذا العهديّة فإنَّه إنَّما يثبت له وصف الوصاية بالموت بناءً على المشهور(1) وخلافاً للمحقّق الثَّاني في جامع المقاصد - فإنَّه جعلها من قبيل الوكالة المشترط فيها تأخير التَّصرّف بحسب الزَّمان، فإنَّه يكون وكيلاً ويثبت له وصف الوكالة بمجرّد العقد وإنْ كان الموكَّل فيه هو الفعل في الزَّمان المتأخّر، فجعل الوصاية العهديّة كذلك أيضاً، فيثبت وصف الوصاية للوصيّ حين الوصيَّة وإنْ لم يكن له التَّصرُّف إلَّا بعد الموت - قال (قدس سره) في ردّ الاستدلال للقول بكفاية وجود شرائط الوصيّ حين الوفاة وإنْ لم تكن موجودة حين الوصاية حتّى لو أوصى إلى من ليس بأهلٍ فاتَّفق حصول صفات الأهليَّة قبل الموت صحَّت - بما حاصله أنَّ المقصود بالتَّصرّف هو ما بعد الموت، وهو محلّ الولاية ولا حاجة إلى وجود الصِّفات قبله - ما نصّه: ( ويضعّف بأنَّه إذا لم يكن في وقت إنشاء العقد أهلاً وقع العقد فاسداً، ولا نسلّم أنَّ محلّ الولاية بعد الموت، بل الولاية ثابتة حال الوصيَّة وتأخّر التَّصرّف إلى الموت لأنَّه متعلَّق الوصيَّة والولاية)(2) انتهى.
ص: 444
وكيف كان فممَّا ذكرنا تبيَّن لك الحكم في نظير الصُّورة الرَّابعة - وهي ما إذا أوصى الوليُّ بالولاية على من كان بالغاً عاقلاً رشيداً حين الوصيَّة - باعتبار تجدُّد نقصه بالجنون، أو السفه لو اتّفق بناءً على عود ولاية الأب والجدّ بذلك، فإنّه أيضاً لا ينبغي الرَّيب في الصحّة بناءً على ما ذكرناه.
ولنختم الكلام على هذا المقدار حامدين لله سبحانه وتعالى ومصلّين على رسوله والأئمَّة الغرّ من آله.
وقد حرّر ذلك يوم الأربعاء 3 شهر ذي الحجَّة الحرام سنة 1330.
هذا الجواب عن مسألة الولاية بطوله والجواب السَّابق عن مسألة الشَّهيد بطوله أيضاً ليسا من السَّيِّد (قدس سره) بل من الحقير أحمد آل كاشف الغطاء.
* * *
ص: 445
ص: 446
1. مصادر المقدّمة.
2. مصادر تحقيق جواب مسألة الشهيد.
1. مصادر تحقيق جواب مسألة الوصاية.
ص: 447
ص: 448
1. أحسن الوديعة في تراجم مشاهير الشّيعة: السّيّد محمَّد مهدي الموسوي الأصفهاني الكاظمي (1319 - 1391ﻫ )، تحقيق: مؤسسة تراث الشّيعة، قدّم له وعلّق عليه: السّيّد عبد السّتار الحسني، النّاشر: مؤسسة تراث الشّيعة.
2. أدب الطّف أو شعراء الحسين (علیه السلام) : السّيّد جواد شبّر، النّاشر: دار المرتضى للطباعة والنّشر والتوزيع، بيروت - لبنان، ط: الأولى، 1409ﻫ - 1988م.
3. أعيان الشّيعة: السّيّد محسن الأمين (ت 1371ﻫ )، تحقيق وإخراج: حسن الأمين، النّاشر: دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان.
4. تاريخ القزويني في تراجم المنسيين والمعروفين من أعلام العراق وغيرهم (1900 - 2000م): الدكتور: جودت القزويني، النّاشر: الخزائن لإحياء التراث، بيروت - لبنان، ط. الأولى، 2012م.
5. تراجم الرّجال: المؤلف: السّيّد أحمد الحسيني، النّاشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النّجفي - قمّ المقدّسة، المطبعة: صدر - قمّ، 1414ﻫ.
6. تكملة أمل الآمل: السّيّد حسن الصّدر (ت 1354ﻫ )، تحقيق: د. حسين علي محفوظ، عبد الكريم الدّباغ، عدنان الدّباغ، دار المؤرخ العربي، بيروت - لبنان، 1425ﻫ.
7. جريدة النّجف، العدد: 21، الجمعة 29 صفر 1344ﻫ، 18 أيلول 1925م.
8. حواشي وتعليقات على العروة الوثقى: الشّيخ محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء (ت 1373ﻫ )، طبع حجر، المطبعة المرتضوية في النّجف الأشرف، كتبه: الحاج محمَّد علي بن ميرزا محمود التبريزي الغروي في ربيع الأوَّل سنة 1367ﻫ.
ص: 449
9. الذّريعة إلى تصانيف الشّيعة: الشّيخ آغا بزرگ الطهراني (ت 1389ﻫ )، النّاشر: دار الأضواء بيروت - لبنان، ط: الثّالثة، 1403 ﻫ - 1983م.
10. رسالة موجزة في سيرة السّيّد محمَّد جواد الغريفي (ت 1394ﻫ )، بقلم: السّيّد عزّ الدّين الغريفي (ت 1411ﻫ )، إعداد السّيّد محمَّد حسن الغريفي.
11. السّيّد اليزدي سيرته وأضواء على مرجعيته ووثائقه السّياسية: 199 - 200. كامل سلمان الجبوري، النّاشر: مؤسسة ذوي القربى، مطبعة: برهان، ط1 1427ﻫ - 2007م.
12. شعراء الغري أو النّجفيات: الشّيخ علي الخاقاني (ت 1400ﻫ )، النّاشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النّجفي - قمّ، ط: الثّانية، 1408ﻫ، مطبعة بهمن - قمّ.
13. طبقات أعلام الشّيعة (نقباء البشر في القرن الرّابع عشر): الشّيخ آغا بزرگ الطهراني (ت 1389ﻫ )، النّاشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ط: الأولى 1430ﻫ - 2009م.
14. عقود حياتي: الشّيخ محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء (ت 1373ﻫ )، تحقيق: أمير الشّيخ شريف الشّيخ محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء، النّاشر: مدرسة ومكتبة الإمام كاشف الغطاء العامّة/ النّجف الأشرف، 1433ﻫ - 2012م.
15. فهرس التراث: السّيّد محمَّد حسين الحسيني الجلالي، تحقيق: محمَّد جواد الحسيني الجلالي، النّاشر: دليل ما، ط: الأولى، 1422 ﻫ، المطبعة: نگارش.
16. مجمع الإجازات ومنبع الإفادات: الشّيخ محمَّد باقر بن محمَّد تقي بن محمَّد باقر بن محمَّد تقي الرّازي أصلاً والأصفهاني منشأ الشهير ب-(ألفت) (1301 - 1384ﻫ )، تحقيق: مهدي الرّضوي، منشورات دار التراث، الطبعة الأولى: 1436ﻫ.
ص: 450
17. مستدركات أعيان الشّيعة: السّيّد حسن الأمين (ت 1399ﻫ )، النّاشر: دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1408ﻫ - 1987م.
18. معارف الرّجال في تراجم العلماء والأدباء: الشّيخ محمَّد حرز الدين (ت 1365ﻫ )، علّق عليه: الشّيخ محمَّد حسين حرز الدين، النّاشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النّجفي، مطبعة الولاية - قمّ 1405ﻫ.
19. معجم رجال الفكر والأدب في النّجف الأشرف: الشّيخ الدّكتور محمَّد هادي الأميني، ط: الثانية 1413ﻫ - 1992م.
20. ملف السيد كاظم اليزدي: ك / 90 / 2، مكتبة الإمام محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء العامّة في النّجف الأشرف.
21. ملف السيد كاظم اليزدي: ك / 90 / 3، مكتبة الإمام محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء العامّة في النّجف الأشرف.
22. ملف مكتبة الدكتور باقر كاشف الغطاء، مكتبة الإمام محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء العامّة في النّجف الأشرف.
23. موسوعة طبقات الفقهاء: اللجنة العلمية في مؤسّسة الإمام الصّادق (علیه السلام) ، إشراف: الشّيخ جعفر السبحاني، النّاشر: مؤسّسة الإمام الصّادق (علیه السلام) ، ط: الأولى، 1418ﻫ، المطبعة: اعتماد - قمّ.
24. موسوعة الإمام السّيّد عبد الحسين شرف الدين: إعداد وتحقيق: مركز العلوم والثّقافة الإسلامية/ قسم إحياء التراث الإسلامي، النّاشر: دار المؤرخ العربي، بيروت - لبنان، ط. الثانية 1431ﻫ - 2010م.
ص: 451
1. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: شيخ
الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ ) تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران، ط: الرابعة، مطبعة خورشيد، سنة الطبع 1363ش.
2. الاستيعاب في معرفة الأصحاب: أبو عمر يوسف بن عبد البر (ت 463ﻫ )، تحقيق: علي محمد البجاوي، الناشر: دار الجيل - بيروت - لبنان، ط: الأولى، سنة الطبع: 1412 - 1992 م.
3. إشارة السبق: أبو الحسن علي بن الحسن الحلبي (ت ق6)، تحقيق: الشيخ إبراهيم بهادري، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ط: الأولى، سنة الطبع: 15 شعبان المعظم 1414ﻫ.
4. إعلام الورى بأعلام الهدى: الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قمّ المشرّفة، ط: الأولى، المطبعة: ستارة - قمّ، سنة الطبع: ربيع الأول 1417ﻫ.
5. بحار الأنوار: الشيخ محمد باقر المجلسي (قدس سره) (ت1111ﻫ )، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.
6. تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية: الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي الحلّي (قدس سره) (العلّامة الحلّي) (ت726ﻫ )، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، إشراف: جعفر السبحاني، الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، ط: الأولى، المطبعة: اعتماد - قمّ، سنة الطبع: 1420ﻫ.
ص: 452
7. تذكرة الفقهاء: الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي الحلّي (قدس سره) (العلّامة الحلّي) (ت 726ﻫ )، الناشر: منشورات المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.
8. تهذيب الأحكام: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460 ﻫ )، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران، مطبعة: خورشيد.
9. الجامع الصحيح (صحيح مسلم): مسلم النيسابوري (ت 261ﻫ )، الناشر: دار الفكر - بيروت - لبنان.
10. الجهاد: عبد الله بن المبارك (ت 181ﻫ )، تحقيق وتقديم وتعليق: الدكتور نزيه حماد، الناشر: دار المطبوعات الحديثة - جدّة، المطبعة: دار العلم للطباعة والنشر - جدّة.
11. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: الشيخ محمد حسن النجفي (قدس سره) (صاحب الجواهر) (ت 1266ﻫ )، تحقيق وتعليق: الشيخ عباس القوچاني، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران، ط: الثانية، مطبعة: خورشيد، سنة الطبع: 1365 ش.
12. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: الشيخ يوسف بن أحمد البحراني (قدس سره) (ت 1186ﻫ )، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة.
13. الخلاف: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، سنة الطبع: جمادى الآخرة 1407 ﻫ.
ص: 453
14. ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد: محمد باقر السبزواري (ت 1090ﻫ )، الناشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.
15. ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة: محمد بن جمال الدين مكّي العاملي (قدس سره) (الشهيد الأول) (ت786ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قمّ، ط: الأولى، المطبعة: ستاره - قمّ، سنة الطبع: محرم 1419ﻫ.
16. رجال الطوسي: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460 ﻫ )، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ط: الأولى، سنة الطبع: رمضان المبارك 1415ﻫ.
17. روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان: الشيخ زين الدين بن علي العاملي (قدس سره) (الشهيد الثاني) (ت 965ﻫ )، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، الناشر: بوستان كتاب قمّ، ط: الأولى، سنة الطبع: 1422ﻫ.
18. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: أبو جعفر بن منصور بن أحمد الحلّي (قدس سره) (ابن إدريس) (ت 598ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين - قمّ المشرّفة، ط:الثانية، مطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي، سنة الطبع 1410ﻫ.
19. السيرة النبوية: أبو محمد عبد الملك الحميري(ت 218ﻫ )، تحقيق وضبط وتعليق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر: مكتبة محمد علي صبيح وأولاده - بمصر، المطبعة: المدني - القاهرة، سنة الطبع: 1383 - 1963 م.
20. الشرح الكبير على متن المقنع: عبد الرحمن بن قدامة (ت682ﻫ )، الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.
ص: 454
21. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد (ت 656ﻫ )، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: مؤسّسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع.
22. صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256ﻫ )، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، سنة الطبع: 1401 - 1981 م.
23. الطبقات الكبرى: محمد بن سعد الزهري (ت230ﻫ )، الناشر: دار صادر - بيروت، المطبعة: دار صادر - بيروت.
24. غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع: السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي (قدس سره) (أبي المكارم ابن زهرة) (ت 585ﻫ )، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، ط: الأولى، مطبعة: اعتماد - قمّ، سنة الطبع: محرم الحرام 1417ﻫ.
25. فتح الباري: شهاب الدين ابن حجر (ت 852ﻫ )، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان، المطبعة: دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان.
26. فقه الرضا: الشيخ علي بن بابويه القمّي (قدس سره) (ت329ﻫ )، تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قمّ المشرّفة، الناشر: المؤتمر العالمي للإمام الرضا (علیه السلام) - مشهد المقدّسة، ط: الأولى، سنة الطبع: شوال 1406ﻫ.
27. قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام: الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي الحلّي (قدس سره) (العلّامة الحلّي) (ت 726ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ط: الأولى، سنة الطبع ربيع الثاني 1413 ﻫ.
28. الكافي: الشيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني (قدس سره) (ت 329ﻫ )، طبعة: دار
ص: 455
الحديث للطباعة والنشر، 1429ﻫ،ط: الأولى، قمّ - إيران.
29. كشف اللثام عن قواعد الأحكام: الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسن الأصفهاني (الفاضل الهندي) (ت1137ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ط: الأولى، سنة الطبع: 1416ﻫ.
30. لوامع الأحكام في فقه شريعة الإسلام، للمولى محمّد مهدي ابن أبي ذر النراقي الكاشاني (ت1209ﻫ ), مخطوط، في مؤسسة كاشف الغطاء العامة في النّجف الأشرف يحمل الرقم (195).
31. المبسوط: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ )، تحقيق: السيد محمد تقي الكشفي، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية، المطبعة الحيدرية - طهران، سنة الطبع: 1387ﻫ.
32. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام: السيد محمد بن علي الموسوي العاملي (قدس سره) (ت 1009ﻫ )، تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - مشهد المقدّسة، الناشر: مؤسسة آل البيت
(علیهم السلام) لإحياء التراث - قمّ المشرفة، ط: الأولى، مطبعة: مهر - قمّ، سنة الطبع: محرم 1410ﻫ.
33. المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405ﻫ )، تحقيق: يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
34. مسند أحمد: أحمد بن حنبل(ت 241ﻫ )، الناشر: دار صادر - بيروت - لبنان.
35. المعتبر: أبو القاسم الشيخ جعفر بن الحسن الحلّي (قدس سره) (المحقّق الحلّي) (ت626ﻫ )، تحقيق وتصحيح: عدّة من الأفاضل/ إشراف: الشيخ ناصر مكارم شيرازي، الناشر: مؤسّسة سيد الشهداء (علیه السلام) - قمّ، المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)،
ص: 456
سنة الطبع: 1364/3/14 ش.
36. المغني: أبو محمد عبد الله بن قدامة (ت 620ﻫ )، الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.
37. المقنعة: محمد بن محمد بن النعمان (المفيد) (قدس سره) (ت413ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ط: الثانية، سنة الطبع 1410ﻫ.
38. مَن لا يحضره الفقيه: الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمّي (رضوان الله علیه) (الصدوق) (ت 381ﻫ )، تحقيق: السيد حسن الخرسان، الناشر: دار الكتب الإسلامية، ط: الخامسة، طهران - إيران، مطبعة خورشيد 1383ﻫ.
39. منتهى المطلب في تحقيق المذهب: الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي الحلّي (قدس سره) (العلّامة الحلّي) (ت 726ﻫ )، تحقيق: قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلامية، الناشر: مؤسّسة الطبع والنشر في الآستانة الرضوية المقدّسة، ط: الأولى، المطبعة: مؤسّسة الطبع والنشر في الآستانة الرضوية المقدّسة، سنة الطبع: 1412ﻫ.
40. المهذب: القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي (قدس سره) (ت 481ﻫ )، تحقيق: مؤسّسة سيد الشهداء العلمية / إشراف: جعفر السبحاني، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، سنة الطبع: 1406ﻫ.
41. النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ )، الناشر: انتشارات قدس محمدي - قمّ.
ص: 457
1. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ ) تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران، ط4، مطبعة خورشيد، سنة الطبع 1363ش.
2. إصباح الشيعة بمصباح الشريعة: قطب الدين البيهقي الكيدري (قدس سره) (ت ق6)، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، ط1، المطبعة: اعتماد - قمّ، سنة الطبع: محرم الحرام 1416ﻫ.
3. الانتصار: السيد علي بن الحسين الموسوي البغدادي (قدس سره) (الشريف المرتضى) (ت436ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المقدّسة، سنة الطبع: شوال المكرم 1415ﻫ.
4. الإيضاح: الفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري (قدس سره) (ت260ﻫ )، تحقيق: السيد جلال الدين الحسيني الأرموي المحدث، الناشر: مؤسّسة انتشارات وچاب دانشكاه - طهران، سنة الطبع: 1363 ش.
5. بلغة الفقيه: المحقق السيد محمد آل بحر العلوم (قدس سره) (ت 1326ﻫ )، تحقيق وتعليق: السيد محمد تقي آل بحر العلوم (قدس سره)، الناشر: منشورات مكتبة الصادق - طهران، ط4، سنة الطبع: 1984 م - 1403ﻫ.
6. تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية: أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي الحلّي (قدس سره) (العلّامة الحلّي) (ت726ﻫ )، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، إشراف: جعفر السبحاني، الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، ط1،
ص: 458
المطبعة: اعتماد - قمّ، سنة الطبع: 1420ﻫ.
7. تذكرة الفقهاء: أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي الحلّي (قدس سره) (العلّامة الحلّي) (ت 726ﻫ )، الناشر: منشورات المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.
8. التنقيح الرائع لمختصر الشرائع: الفقيه جمال الدين مقداد بن عبد اللَّه السيوري الحلّي (قدس سره) (ت 826ﻫ )، تحقيق: السيد عبد اللطيف الحسيني الكوه كمري، الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي (قدس سره)، مطبعة الخيام - قمّ.
9. تهذيب الأحكام: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ )، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، الناشر دار الكتب الإسلامية - طهران، مطبعة: خورشيد.
10. جامع المقاصد في شرح القواعد: الشيخ علي بن حسين الكركي العاملي (قدس سره) (المحقّق الثاني) (ت 940ﻫ )، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قمّ المشرّفة، ط1 - ربيع الأول 1408 ﻫ. ق، مطبعة: المهدية - قمّ.
11. الجامع للشرائع: الفقيه يحيى بن سعيد الحلّي (قدس سره) (ت689ﻫ )، تحقيق: جمع من الفضلاء/ إشراف: الشيخ جعفر السبحاني، الناشر: مؤسّسة سيد الشهداء - العلمية، المطبعة العلميّة – قمّ، سنة الطبع: محرم الحرام 1405ﻫ.
12. جواهر الفقه: القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي (قدس سره) (ت481ﻫ )، تحقيق: إبراهيم البهادري، مؤسّسة سيد الشهداء (علیه السلام)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين - قمّ المشرّفة -، ط1 التاريخ 1411 ﻫ. ق.
13. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: الشيخ محمد حسن النجفي (قدس سره)
ص: 459
(ت 1266ﻫ )، تحقيق وتعليق: الشيخ عباس القوچاني، الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران، ط2، مطبعة: خورشيد، سنة الطبع: 1365 ش.
14. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: الشيخ يوسف بن أحمد آل عصفور الدرازي البحراني (قدس سره) (ت 1186ﻫ )، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة.
15. الخلاف: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ )، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، سنة الطبع: جمادى الآخرة 1407 ﻫ.
16. الدروس الشرعية في فقه الإمامية: الشيخ محمد بن جمال الدين مكّي العاملي (قدس سره) (الشهيد الأول) (ت 786ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المقدّسة، ط2، سنة الطبع: 1417ﻫ.
17. الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة: الشيخ محمد بن جمال الدين مكي العاملي (قدس سره) (الشهيد الأول) (ت 965ﻫ )، تحقيق: السيد محمد كلانتر، الناشر: منشورات جامعة النجف الدينية، سنة الطبع 1386 - 1398/ط 1.
18. رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل: السيّد علي بن السيّد محمّد علي الطباطبائي (قدس سره) (ت1231ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المقدّسة، ط1، سنة الطبع: رمضان المبارك 1412ﻫ.
19. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: أبو جعفر بن منصور بن أحمد الحلّي (قدس سره) (ابن إدريس) (ت 598ﻫ )، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين - قمّ المشرّفة، ط2، مطبعة: مؤسّسة النشر الإسلامي، سنة الطبع 1410ﻫ.
ص: 460
20. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام: أبو القاسم الشيخ جعفر بن الحسن الحلّي (قدس سره) (المحقّق الحلّي) (ت676ﻫ )، تعليق: السيد صادق الشيرازي، الناشر: انتشارات استقلال، طهران - ناصر خسرو، حاج نايب، مطبعة: أمير - قمّ، ط2 - 1409ﻫ.
21. شرح القواعد/ كتاب المتاجر، تحقيق: السّيّد محمَّد حسين الرضوي الكشميري، النّاشر: مكتبة الصّفا - قمّ، الطّبعة: الأولى المحقّقة - محرّم 1425ﻫ - 2004م، المطبعة: سرور.
22. الصّحاح تاج اللغة وصحاح العربية: إسماعيل بن حمّاد الجوهري (ت393ﻫ )، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطّار، الناشر: دار العلم للملايين - بيروت - لبنان، ط4، سنة الطبع: 1407ﻫ - 1987 م.
23. العروة الوثقى مع تعليقاتها: السيد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (قدس سره) (ت 1337ﻫ )، تحقيق ونشر: مركز فقه الأئمة الأطهار (علیهم السلام)، ط1، مطبعة: اعتماد - قمّ.
24. العين: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي - الدكتور إبراهيم السامرائي، الناشر: مؤسّسة دار الهجرة، ط2، سنة الطبع: 1409ﻫ.
25. غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: الشيخ محمد بن جمال الدين مكّي العاملي (قدس سره) (الشهيد الأول) (ت786ﻫ)، تحقيق ونشر: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية - قمّ - المحقق: رضا المختاري، ط1، مطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي - قمّ، سنة الطبع: 1414ﻫ.
ص: 461
26. غاية المرام في شرح شرائع الإسلام: الشيخ مفلح بن الحسن الصيمري (قدس سره) (ت900ﻫ )، تحقيق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي، الناشر: دار الهادي، ط1, سنة الطبع: 1420ﻫ.
27. غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع: السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي (قدس سره) (أبو المكارم ابن زهرة) (ت 585ﻫ )، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، ط1، مطبعة: اعتماد – قمّ، سنة الطبع: محرم الحرام 1417ﻫ.
28. فتح المعين لشرح قرة العين بمهمات الدين: زين الدين بن عبد العزيز المليباري الفناني (ت 987ﻫ )، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، ط1، سنة الطبع: 1418ﻫ - 1997 م.
29. القاموس المحيط: أبو طاهر مجيد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي (قدس سره) (الفيروز آبادي) (ت817ﻫ ).
30. قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام: أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي الحلّي (قدس سره) (العلّامة الحلّي) (ت 726ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ط1، سنة الطبع ربيع الثاني 1413 ﻫ.
31. الكافي في الفقه: الشيخ أبو الصلاح تقي الدين الحلبي (قدس سره) (ت447ﻫ )، تحقيق: رضا أستادي، الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) العامة - أصفهان.
32. الكافي: الشيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني (رضوان الله علیه) (ت 329ﻫ )، طبعة: دار الحديث للطباعة والنشر، 1429ﻫ،ط1، قمّ - إيران.
ص: 462
33. كشف الرموز في شرح المختصر النافع: زين الدين أبو علي الحسن اليوسفي (قدس سره) (الفاضل الآبي) (ت690ﻫ )، تحقيق: الشيخ علي بناه الإشتهاردي - الحاج آغا حسين اليزدي، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، سنة الطبع: ذي الحجة 1408ﻫ.
34. كشف اللثام عن قواعد الأحكام: الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسن الأصفهاني (الفاضل الهندي) (ت1137ﻫ )، تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ط1، سنة الطبع: 1416ﻫ.
35. كفاية الفقه المشتهر ب-(كفاية الأحكام): العلّامة المحقّق المولى محمد باقر السبزواري (قدس سره) (ت1090ﻫ )، تحقيق: الشيخ مرتضى الواعظي الأراكي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ط1، سنة الطبع: 1423ﻫ.
36. لسان العرب: العلّامة أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (ابن منظور) (ت 711ﻫ )، الناشر: نشر أدب الحوزة، سنة الطبع: محرم 1405ﻫ.
37. اللمعة الدمشقية: الشيخ محمد بن جمال الدين مكّي العاملي (قدس سره) (الشهيد الأوّل) (ت786ﻫ)، الناشر: منشورات دار الفكر - قمّ، مطبعة: قدس - قمّ، سنة
الطبع: 1411ﻫ.
38. المبسوط: شمس الدين السرخسي (قدس سره) (ت 483ﻫ )، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، سنة الطبع: 1406ﻫ - 1986 م.
39. مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان: الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي (قدس سره)
ص: 463
(ت993ﻫ )، تحقيق: الحاج آغا مجتبى العراقي، الشيخ علي بناه الاشتهاردي، الحاج آغا حسين اليزدي الأصفهاني، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة.
40. المجموع شرح المهذب: أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي(ت 676ﻫ )، الناشر: دار الفكر.
41. المختصر النافع في فقه الإمامية: أبو القاسم الشيخ جعفر بن الحسن الحلّي (قدس سره) (المحقّق الحلّي) (ت 676ﻫ)، الناشر: قسم الدراسات الإسلامية في مؤسّسة البعثة - طهران، ط 2 - 3، سنة الطبع: 1402 - 1410ﻫ.
42. مختلف الشيعة في أحكام الشريعة: أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي الحلّي (قدس سره) (العلّامة الحلّي) (ت 726ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ط1، التاريخ: ربيع الأول 1412 ﻫ.
43. المُخَصَّص: أبو الحسن علي بن إسماعيل النحوي الأندلسي (ابن سِيده) (ت 458ﻫ )، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.
44. المدوّنة الكبرى: أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي (ت 179ﻫ )، الناشر:
دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر.
45. المراسم العلوية في الأحكام النبوية: الشيخ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي (قدس سره) (ت 448ﻫ )، تحقيق: السيد محسن الحسيني الأميني، الناشر: المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت (علیهم السلام)، مطبعة: أمير - قمّ، سنة
ص: 464
الطبع: 1414ﻫ.
46. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: الشيخ زين الدين بن علي العاملي (قدس سره) (الشهيد الثاني) (ت 965ﻫ )، تحقيق: مؤسّسة المعارف الإسلامية، الناشر: مؤسّسة المعارف الإسلامية - قمّ - إيران، ط1، سنة الطبع: 1413ﻫ، المطبعة: بهمن - قمّ.
47. مستند الشيعة في أحكام الشريعة: العلّامة أحمد بن محمد مهدي النراقي (قدس سره) (ت1245ﻫ )، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - مشهد المقدّسة، الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قمّ، ط 1، مطبعة: ستارة - قمّ، سنة الطبع: ربيع الأول 1415ﻫ.
48. معجم الفروق اللغوية: أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري(ت395ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ط 1، سنة الطبع: شوّال المكرم 1412ﻫ.
49. معجم مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ( ابن فارس) (ت395ﻫ )، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، الناشر: مركز النشر - مكتب الإعلام الإسلامي، مطبعة: مكتبة الإعلام الإسلامي، سنة الطبع: 1404ﻫ.
50. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: الشيخ محمد بن أحمد الشربيني
الخطيب (قدس سره) (ت 977ﻫ )، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، سنة الطبع: 1377ﻫ - 1958 م.
51. المقنع: الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمّي (الصدوق) (ت381ﻫ )، تحقيق: لجنة التحقيق التابعة لمؤسّسة الإمام الهادي (علیه السلام)، الناشر: مؤسّسة الإمام
ص: 465
الهادي (علیه السلام)، مطبعة: اعتماد، سنة الطبع: 1415ﻫ.
52. المقنعة: محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي (قدس سره) (المفيد)(ت413ﻫ )، تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، ط2، سنة الطبع 1410ﻫ.
53. مَن لا يحضره الفقيه: الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمّي (رضوان الله علیه) (الصدوق) (ت 381ﻫ )، تحقيق: السيد حسن الخرسان (قدس سره)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، ط5، طهران - إيران، مطبعة خورشيد 1383ﻫ.ش وكذا في دار الكتب الإسلامية/ نجف سنة 1378ﻫ تحقيق السيد حسن الموسوي الخرسان وكذا في ط الحجرية: 386، وكذا في ط دار التعارف: 4/77 - 78، ح27 ط2، 1994م - 1414ﻫ.
54. منجَّزات المريض: السيد محمد كاظم اليزدي (قدس سره) (ت1337ﻫ )، الناشر: مؤسّسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع - قمّ - إيران، سنة الطبع: 1378ﻫ.
55. المهذب البارع في شرح المختصر النافع: جمال الدين أبو العباس أحمد الحلي (قدس سره) (ت841ﻫ )، تحقيق: الشيخ مجتبى العراقي، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، سنة الطبع 1407ﻫ.
56. المهذب: القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي (قدس سره) (ت 481ﻫ )، تحقيق: مؤسّسة سيد الشهداء العلمية، إشراف: الشيخ جعفر السبحاني، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، سنة الطبع: 1406ﻫ.
57. النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ )، الناشر: انتشارات قدس محمدي - قمّ.
ص: 466
58. النهاية ونكتها: أبو القاسم الشيخ جعفر بن الحسن الحلي (قدس سره) (المحقق الحلي) (ت 676ﻫ )، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المقدّسة، ط1، سنة الطبع: رمضان المبارك 1412ﻫ.
59. نهج الحق وكشف الصدق: أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي الحلّي (قدس سره) (العلّامة الحلّي) (ت 726ﻫ )، تحقيق: السيد رضا الصدر، تعليق: الشيخ عين الله الحسني الأرموي، الناشر: مؤسّسة الطباعة والنشر دار الهجرة - قمّ، المطبعة: ستارة - قمّ، سنة الطبع: ذي الحجة 1421ﻫ.
60. الوافي: محمد بن مرتضى بن محمود المدعو بالمولى محسن الكاشاني الملقب بالفيض محمد محسن بن مرتضى (قدس سره) (الفيض الكاشاني) (ت1091ﻫ )، تحقيق وتعليق: ضياء الدين الحسيني الأصفهاني (العلامة)، الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) العامّة - أصفهان، ط1، مطبعة: طباعة أفست نشاط أصفهان، سنة الطبع: أول شوّال المكرم 1406 ﻫ.
61. الوسيلة إلى نيل الفضيلة: الفقيه عماد الدين أبو جعفر محمد بن علي الطوسي (قدس سره) (ابن حمزة) (ت560)، تحقيق: الشيخ محمد الحسون - السيد محمود المرعشي، الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، ط1، مطبعة الخيام - قمّ، سنة الطبع: 1408ﻫ.
62. الوصايا والمواريث: الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (قدس سره) (ت 1281ﻫ ) تحقيق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الناشر: المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري، ط1، المطبعة: باقري - قمّ، سنة الطبع: ربيع الأول 1415ﻫ.
ص: 467
ص: 468